الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم ‎⁨بشرى بوشارب

أقسمنا بعزتك يا جزائر

"الشهيد" عنوان المقال الذي اخترته في عيد اندلاع ثورة التحرير الجزائرية، ثورة جفت الأقلام وهي تروي تاريخ أبنائها الأبطال وظلم المستعمر، واليوم قررت تغيير طريقة نقل أحداث الثورة من كتب التاريخ. بل سأوثقها ممن عاشوا أيام هذه الثورة المباركة...

اخترت أن تكون تلك المحاضرة هي ما أستند عليه بعدما أعلنت دار المجاهدين بمدينة الثورة بباتنة أن تستضيف المجاهدة الحاجة "الصافية" شاهد عيان على كل ما حدث.

محاضرة كأنها ليلة من ألف ليلة وليلة، وقد حضر جمع غفير لسماع حكاية ابنها الشهيد، تلك الأم التي تركت الصمت يصغي في حضرة الكلام وهي تسرد تاريخ بلدها بكل عفوية لأنها عشقت كلمة وطن، ولبست لحاف الوطنية...

كأنها دكتور محاضر وأعين كل الحاضرين شاخصة نحوها، وقد عادت بها الذكريات لسنوات مضت، وكأن أحداثها جرت منذ أيام، واستهلت تسرد الأحداث دون توقف، حينها نسيتُ أنا أمام بريق عينيها العاشقتين للوطن مقالي الذي جئت من أجله...

 لم أدرك أن عشقي لهذا الوطن سيكون الدواء لفراق وحيدي وقد لُقب بالشهيد. هكذا بدأت حكاية يوسف يا أبنائي صاحب الواحد والعشرين ربيعا، كان رجلا بمائة رجل مجنونا بألوان علم بلده، فجعل من عمره هدية له. وكنت أنا من اللواتي تقبلن فاجعة فقدان أبنائهن لأننا اخترنا الوطن على من أحببن ولتحتضنوا أنتم نسائم الحرية.

يوسف كان عيّنة من ملايين الشباب الذين زفّوا أرواحهم لسماء الجزائر حتى يُرفرف علمُنا عاليا، رافضين استعباد المستعمر الفرنسي الغاشم. فاختاروا الجبال قلاعا لهم، وفجّروا ثورة انحنى العالم لها إجلالا وتقديرا فرُصّعت أسماؤهم في سجلات وطن افتخر بهم ولبسنا نحن رداء الصبر والعزة والكرامة.

 حين يقرر الإنسان تغيير مصيره، فلا بد من اعتناق خطوة للأمام، خاصة عندما تخاطب صوت وطن جريح يدعوك لتلملم جرحه وتجمع كبريائه، وتعانق أمواج الحرية التي أرهقتها سفن فرنسا وهي تغتصب محيطنا دون سابق إنذار. قرار اتخذته حتى أنتقم لبلدي، لهذا أريد دعمك ودعاءك يا أماه، فالواجب ينادينا لنكون ملتفين متضامنين، وقد جعلنا من الجبال بيوتا نغرد فيها النشيد الوطني: "قسما بالبنود اللامعات الشاهقات، ونفديه بالدماء الزاكيات الطاهرات"، وأنا أقسمت أن يكون دمي طاهرا زكيا يا أمي يوم نهديه الاستقلال.

كلام وقع كالصاعقة على روحي وأنا ألمح كفن وحيدي يحوم فوق رأسه وقد كبر وصار يقرر لينفذ، وأول قراراته أن يلتحق بصفوف المجاهدين في أعالي تلك الجبال مؤمنا بالثورة وباستقلال الجزائر.

 قررت واليوم تزُف إليّ خبر انتحارك؟ وماذا تنتظر من أم عاشت تحيا بنَفَسِك، وتستنشق من بقايا زفيرك؟ أقسمت أن أبني مستقبلك على أنقاض حياتي لتقسم اليوم أنت بقتلي؟ لِمَ تغتصب فرحتي التي وُلدت بوجودك يا يوسف؟

وصرتُ أبكي وأصرخ، حتى أحسستُ برأسه في حضني المبلل بدموعه الطاهرة. دموعٌ غسلت صدري المجروح وكأنه تركها لتواسيني بعد رحيله، وقد صار رجُلا وغيرتُه على بلده جعلته يتجرع من الوطنية حتى الثمالة.

 كيف أترك الجزائر تموت على عتبة الألم والقهر وشعبها يُستعبد ويحتضر كل يوم، ليقتلوا فيه الأصالة ويزرعوا بدلا منه جيلا فرنسيا، لهذا فأنا مُخَيّرٌ بين العيش ذليلا، أو الموت من أجل الكرامة، وأنا اخترت قبل أن أكون مجبرا، وقراري أن أهدي الحرية لأرضي لأنها طيبة ولن تُدنس بوجود هؤلاء الطغاة، وعودتي للجنة يا أمي ستكون قريبة رفقة أبطال لن أخلف عهدي معهم ولن نترك بلدنا على حافة السقوط بين مخالب استعمار رفض الرحيل واستقر بجذوره ليستنزف خيراته، لهذا سألحق بركب المجاهدين ليصبح هذا الوطن كالطائر الحُر يعانق السحاب وقد سئم من قفص الذل والهوان وهو يستنجد بأبنائه، فهل سنبقى متفرجين عليه وهو مكبل بقيود اليأس يا أماه أم نتركه يتخبط في العبودية وقد وُلد حرا طليقا؟

ستبقى الجزائر عروس البحر الأبيض المتوسط، وقريبا سنزُفها بزغاريد النصر والاستقلال، لهذا كوني مستعدة لتزفيني عريسا للجنة يا أماه، ووصيتي أن لا تذرفي دمعة واحدة لأننا سنجهض آلامنا مقابل فرحة ستولد قريبا وهي الحرية.

 رحل يوسف في تلك الليلة، وعقدوا العزم أن تحيا الجزائر تاركا قلبي يرتجف كطائر مذبوح.

هي الثــــورة...

 كانت في أوجها، كل يوم تفجيرات وعمليّات فدائيّة ومعارك متواصلة في الجبال، وبالمقابل كنا نسمع باعتقالات وتعذيب وشهداء كل يوم، وشباب رغم كل ما يحصل يواصلون الالتحاق بصفوف الثوار بين مجاهدين وفدائيين وممرضين ليجعلوا من الجبال قلاعا لهم. أمّا الشعب فقد دفع الثمن والمستعمر الغاشم في كل مرة يقتحم المنازل يكسر ما فيها، ويأخذ كل من التحق فرد من عائلته بالجهاد ليشفوا غليلهم بالانتقام منهم حتى تصل الرسالة إلى كل مناضل. وكنت أنا من بين هؤلاء وقد علموا بيوسف ووضعوه في قائمة المجرمين، فصار مجرم حرب وانقلبت المفاهيم في قاموس المحتل هذا الذي سنّ قوانينه الجائرة فأضحى مظلوما والشعب الرافض لاغتصاب بلده هو الظالم، جعلوا من حياتنا كابوسا لا ينتهي، لكننا عاهدنا أبناءنا البواسل والجزائر أننا سنبقى صامدين. ونساعدهم بكل ما أوتينا من قوة، كنا نخبئ المجاهدين في منازلنا، نطعمهم ونحرُسهم ليلا حتى يناموا لبضع ساعات... وهبنا كل ما نملك لدعم الثورة فأذاقونا أفظع أنواع التعذيب. أحرقوا الأراضي وقتلوا الرضع وكبار السن، وحتى الحوامل لم يسلمن من وحشيتهم فكانوا يفتحون بطن المرأة يتراهنون إن كان ولدا أو بنتا فتكون هي لعبتهم.

ماذا أقول وكيف أشرح يا أبنائي وأنا أظلم بسردي حكاية ثورة عظيمة وشعب أعظم، لأنني لم أوصل الصورة الحقيقية لتلك الثورة. بقينا نكافح ونناضل إلى أن زارني ذلك اليوم الذي قسم روحي إلى روحين، وقلبي بين فرح ووجع، ليلة اختصرت كل حياتي فأماتتني وأحيتني، ولأنني عاهدت يوسف بأن لا أبكيه وأفتخر به وبكل شهيد توجعت وغصبا عني تحملت...
في تلك الليلة الشتوية بينما كنت غارقة في أفكاري، إذ بي أسمع طرقا خفيفا على الباب أتذكر كل لحظة كأنها وشم نقش في روحي، كان هو وقد مر عام على غيابه، يوسف قطعة من ألمي ودمعي من وجعي وفرحي، لكنه قرر ونفّذ ما أملاه عليه الواجب فصار يحوم كالنسر فوق الجبال ليحرر رفقة من عشقوا الوطن هذا الوطن، ولابد من ردّ الاعتبار له ولو على حساب كل عزيز، "ولأنك أغلى من الروح لأنك الجزائر يا جزائر". كانت عبارات يوسف الراسخة في عروقي أتذكرها كلما اشتقت له لأطفئ نار فراقه.

واليوم جاء متنكرا باعتباره محل بحث من طرف الاستعمار الغاشم وهم لا يعرفون أنه البطل عند الله حامي الوطن من ظُلمهم واستعبادهم.

 أعتذر منك يا غاليتي، تعذبتِ من أجلي كثيرا واليوم تتعذبين لأجلي، ستعذرينني يوما وتفتخرين بكل من قدم روحه ليتنفس الشعب نسيم الحرية والكرامة، لأننا نأبى اختناقهم بقيود الذل والاستعباد، خُلقنا أحرارا في أرضنا وسنعيش أحرارا وندفن أحرارا.

فتسارعت نبضات قلبي لتلك العبارات، وزادتني فخرا وأنا أستمع إلى ابني وقد صار رجلا يحمل قضية وطن فأضحت هذه الأخيرة همه الوحيد.

 آآآآه، أراك هزيلا متعبا، وهذه البندقية على كتفك وسلسلة الرصاص محيطة بخصرك تحمل على كاهلك مسؤولية وطن أو هَمَ تحرير هذا الوطن، تسكنون قمم الجبال تاركين القصور للمستعمر يتمتع بها وقد استولى على الأخضر واليابس، وأكفانكم فوق رؤوسكم كلما خرجتم لمجابهته، متى سينتهي هذا الكابوس؟

 هو ثمن الحرية يا أماه، والحرية غالية، والظفر بها سيكون حلوا رغم مرارة الوصول إليها، فالنصر قريب مهما بعُد، عديني أن تصبري على فراقي ولا تذرفي دمعة واحدة إنما زغردي فابنك شهيد.

كان يقولها وكأنه أحس بأنها ستكون عبارته الأخيرة. وماهي إلا لحظات حتى سمعنا طرقا قويا على الباب فانتفض يوسف واختبأ مسرعا، وصار قلبي يدق كالناقوس يكاد يخرج من صدري.

 يوسف ..."الثعلب بين القطيع وقبطان السفينة أطلق مدفع الانطلاق".

 ما الذي يقوله ومن يكون هذا يا يوسف؟

 هو أحد الفدائيين، وهذه كلمة السر بيننا يعلمني أن المستعمر قريب منا ويجب أن نتهيأ، لأننا خططنا بوضع كمين للجنود الفرنسيين بطريق القرية المجاورة لقريتنا.

 والراعي خرج لقطيعه... (كلمة السر التي ردّ بها يوسف على صديقه).

- ليلة لن أنساها، يومها صرتُ أبكي بحرقة وأنا أحضن وحيدي الذي لم يذرف دمعة واحدة، بكيت وبكيت ولم أستطع ترك قميصه وأنا أشدّه لحضني، متيقنة أنها آخر مرة ألمح فيها ذلك الوجه الذي أهدتني إيّاه الدّنيا، أما اليوم أنا من أهديه للوطن وأبيع يوسف لأشتري الحرية.

خرج وترك آخر كلمة ودعني بها "صوتنا من القبور ينادينا ذاهب يا أمي لألبي النداء"...

 تعالت الزغاريد مع أول خصلات الفجر، بعد أن عشنا أسوأ ليلة مع صوت المدافع والرصاص، هي معركة من معارك كثيرة أهدينا فيها كل عزيز وغال، لنجتاز خطوة أخرى نحو باب الحرية ونستيقظ على نسيم وطن كان سجينا وأضحى طليقا، لكن بعد أن سقيت أرضه بدماء الشهداء.

هكذا تلقينا نبأ استشهاد ابني يوسف بتاريخ 1 نوفمبر 1956 مع بقية الشبان إثر اشتباكات عنيفة مع العدو. ليُزف شبابنا إلى بارئهم كعرسان تفرح بهم السماء، أتذكر ذلك اليوم كأنه البارحة أمطارٌ هطلت فيه دون توقف. وتفجّرت في الأرض سواقٍ لتُشاركنا دموع الفراق. يومٌ فقدت وفارقت فيه من كان القريب والحبيب الابن والأب. وخرجت مع باقي السكان نملأ الفضاء بالزغاريد على أرواح شهداء قتلوا أكثر من أربعين جنديا فرنسيا، وفجروا كل المدافع والشاحنات ليستشهدوا في أرض المعركة ويدفنوا فيها وقد رويت بدمائهم، ووفوا بعهدهم حين غرّدوا نشيد الوطن وأقسموا على تحريرها.

يوسف الذي ظننتُه لن يطيل رحلته ويعود سريعا حاملا حرية وطنه مع من رافقوه، لكن حُمّل هو على الأكتاف مغطى بعلمه...

بعدها وقفت الحاجة الصافية وقد جعلت العبرات تهرب من مقلتينا كأنها شلال، ونحن نستمع لحكاية شهدائنا لنواصل ذرف دموعنا بموقف لم نتوقعه عندما بدأت تسمعنا أنشودة مشهورة كان يردّدها المجاهدون باللهجة المحلية وهم يتأهبون لخوض معاركهم، وقفنا كلنا نردّدها بدموع حارة ورؤوسنا شامخة نحيي بها أبطال الثورة. حينها سرت في عروقي رجفة قوي وأنا متيقنة أن كل شهيد يرانا من السماء مفتخرا.

إخواني لا تنساو الشهداء اللي ضحاو على حياة البلاد
بالدموع والدماء احموا ترابكم خلو الأهل والصحبة مع الأولاد
صوتكم من القبور يناديكم اسمعوا لهذا الصوت يا عباد
الاتحاد عنواننا التضحية شعارنا حرية غاياتنا يحيا الوطن
للوطن نبيع أنفسنا لا نرضى أن نعيش الهوان
الاتحاد عنواننا التضحية شعارنا حرية غاياتنا يحيا الوطن


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى