

ألمٌ لم يكن عابر
لم تفهم زكية ما تقوله جدّتها مع أنّها حاولت الإصغاء جيّداً، فاستدارت، وقرنت يديها، وتوسّلت إلى الله أن يعيد إليّها والدها سالماً، لكن لم يحدث ما تمنَّت، فأسرع جدّها إلى المستشفى، ولحقت به أمّها.
في المستشفى، كان والدها ممدّداً على سرير الغرفة 48، وبخطىً ثابتةٍ، تتعبأ بالقلق، اقتربت من السرير، كانت تريد أن ترجوه ألَّا يرحل، لكنّه رحل.
الغرفة والممرّ، يزدحمان بالأصدقاء، والصمت يسودُ، وأعينهم الدامعة، تنظرُ إلى ذاك الجبل، وكأنّهم ينظرون إلى ماضٍ غابرٍ...هل صار الماضي قريباً إلى هذا الحدّ؟
لم تبكِ من قبل، لكنّها اليوم تنزفُ من الداخل، شعرت والدتها بالحطام في داخلها، فداهمتها بعناقٍ دافئٍ، وطلبت من عمّتها أن توصلها، فعادت بحذرٍ إلى بيتٍ، رحل عنه النبض، لقد عادت إلى بيتها، لكن، هل عادت إلى حياتها؟
توقفت في تلك اللحظة عن أن تكون طفلةً، تحولت إلى بالغةٍ في عمر السبع سنوات، ونظرتُ إلى أخيها الصغير، وقبّلته بكلّ العطف الذي تستطيعه، تريده ألا يشعر بما تشعر به، وبمروءةٍ استثنائيّةٍ، قررتُ أن تفضّل أخيها على نفسها.
لم تكن زكية إلّا تلميذةً متفوقةً، يحبّها معلموها كما يحبّها أصدقاؤها، فهي فتاةٌ صغيرةٌ عاقلةٌ، تعلمت أن تخفي جرحها جيداً، فابتعدت عن ألعاب الأطفال.
حاول جدّها التدخل، لكنّها لم تشعر بقسوتها، وفي كلّ مرةٍ، تصطحب أخاها الصغير، تصرّ على حمله، مع أنّ الأمر بدا شاقّاً عليها، لكنّها بقيت مصرّةً على ذلك، ولم يكن وداعها له إلا شبيهاً بوداع فونتينبلو، فقد مثّل شكلاً من أشكال الخلاص، ودونه تشعرُ بهاوية الصمت، تُفتح في داخلها مجدّداً.
وذات يومٍ، وقف عزّ الدين أمام باب المدرسة؛ لينتظر زكية التي تأخرت على غير عادتها، فجاءت سيارةٌ، تشبه ألعابه، فركض إليها مبهوراً بها، ضغط سائق السيارة على المكابح بقوةٍ، صرخت زكية بصوتٍ مرتجفٍ، دفعت أخاها، وتكوّرت خائفةً أمام السيارة، اجتمع المارة حولها، والدّمُ يسيل منها.
استيقظت في المستشفى، وقبل أيّ كلمةٍ، بحثت عن أخيها، فهي وحدها التي تدرك أنّها لم تعد تقوَ على ابتلاع موتٍ آخر...
حضر أحد الأطباء إليها، وتبادل الحديث معها، وشعر أنّها ذكيّةٌ للغاية، فقال لها: هل ترغبين أن تعيشي؟
فقالت بألمٍ: أرغب.
فسألها: كم عمرك؟
شعرت بالذهول، لم تتذكر عمرها، كانت تريد أن تقول له: إنّها ما تزال في السابعة، ولم تستطع أن تكبر... فهي حقّاً، لم تنتبه إلى أنّها كبرت، واستطالت قامتها، وتجاوزتٍ عتباتٍ وعتباتٍ من الزّمن.
فقال الطبيب: ماذا يؤلمك بالضبط؟
كم تمنت أن تخبره عن ذاكرتها فهي أكثر ما يؤلمها! هل يستطيع اقتلاعها؟
وضعها الطبيب تحت المراقبة، وقضت الليل بأكمله، تفكّر في ذاك السؤال: هل ترغبين أن تعيشي؟
غيّر هذا السؤال حياتها، ليس لأنّها قررت أن تعيش، بل لأنّها وقفت لأوّل مرةٍ وجهاً لوجهٍ ضدّ ذاتها، فأقامت جنازة والدها، عندما أرادت أن تقيمها.
تذكرته، وهو يحملها إلى المدرسة، وهو يقول لها: يا كنزَ سعادتي.
من أجله، لن تكون روحاً مقفلةً، تتعذب في جسدٍ مغلقٍ، بل ستنتقم من أجل والدها الشهيد.
دُهشت من نفسها، فهذه المرة الأولى، التي تنطقها... الشهيد، كيف لكلمةٍ واحدةٍ أن تحمل كلّ هذا القدر من الكرامة؟
لم تقف عند ذلك، بل أضحى لها هدفٌ، ستصبح طبيبةً... كان لاكتشاف ذلك في سن الخامسة عشر أثرٌ عميقٌ في نفسها، حيث ستستخدم ألمها في اكتشاف ألم غيرها.
كانت حنطيّة الملامح، بعينين لوزيتين فيهما الكثير من خضرة فلسطين ومن زرقة بحرها، فقلقت عائلتها من جمالها الذي يتقدّ بالرغم من حبّ الشباب وتورمات المراهقة، لكنّها تفتّحت برهافةٍ واعتدالٍ، وأنفقت أيامها في الدراسة، كما لم تحاول نيل إعجاب أحد، بل لبست ملابسَ فضفاضةً بأكمامٍ طويلةٍ، ولم يجرؤ أحدٌ على السخريّة منها، ففيها الكثير من الطيبة، التي تثبط الدناءة.
مضت الأعوام، وهي تحنّط حزنها بحذرٍ، وعندما حان الوقت، اختارت اختصاص جراحة عصبيّة، ومع كلّ عمليّةٍ، ومع كلّ حالةٍ، كانت تتركب قطع البازل، وتصطف جنباً إلى جنب، لتعيد إليها شيئاً، عملت جاهداً على دفنه.
حدث الأمر في حيّ الشجاعيّة، كان جزءاً من تلك الفوضى العارمة، حيث انتهى بهما المطاف متمركزين خلف المتراس، والصهاينة يمطرونهم بوابلٍ من الرصاص، فتلقّى والدها رصاصةً في رأسه فوق عينه اليسرى مباشرةٍ، تفجّر رأسه، وسقط جزءٌ منه على يدها، حاولت كثيراً، ولم تستطع إزالته.
عند ذلك، ماتت براءتها، ونام الأمل في داخلها، ولم يستفق، وبقيت منذ ذلك الحين عاجزةً عن التقاط طرف الخيط؛ لتكمل طريقها، وأدركت أنّها لن تسامح الحياة أبداً، لن تسامحها على إجهاض سعادتها، وعلى جعل أحلامها تحتضرُ، فطفولتها غدت يابسةً، تئنُّ تحت ضربات الفقدان.
كيف يمكن أن نتجاوزَ خسارة عزيزٍ؟ كيف لأحدٍ أن يصلَ إلى هذا الانتصار الحزين؟
كلّ تلك السنوات، عاشت على حافة الموت، تتلمّس خطواتها على وقع الخذلان، ذلك الخذلان الذي يتشّكل في داخلها، فيتراكم، ويتراكم، حتّى استفاقت في الثالثة والعشرين.
وبطمأنينةٍ هشّةٍ، غدت طبيبةً مقيمةً، وباتت تشكو من الموت الذي تصادفه في كلّ مكان...في غرفة العمليات وعلى الأسرّة، وحتّى في أحلامها.
وذات يومٍ، وعند انتهاء عملها، رأت امرأةً، تنتظرها عند باب المستشفى، فلم تعرفها على الفور
قالت المرأة: زكية، ها أنتِ.
زكية مستغربةً: ماما.
لم تكن قد رأتها منذ سنواتٍ طويلةٍ، كما أنّ أمّها تغيرت كثيراً، فتبدو هائمةً وهامدةً على نحو غريبٍ.
ذهبتا، وجلستا في مكتبها، ومن ثمّ انفجرت الأمّ بالبكاء، وأخرجت من حقيبتها رسالةً، وقالت: رحلَ أخوك منذ أسبوعٍ دون أن يقول إلى أين ذهب، وترك لي هذه الرسالة.
ودون أن تتوقف عن البكاء، مدّت الرسالة لزكية، التي أمسكتها، وهي ترتجف.
قرأت، وبقيت مذهولةً دون أن تعرف ماذا تقول، نظرت إلى أمّها: إنّ ما فعله رائعٌ.
فردّت الأم بسخطٍ عجيبٍ: كيف بوسعكِ أن تؤيدي هذا الرأي؟
فقالت: لن أستنسخَ أخطاءك يا أمّي، لقد بالغتِ في محاولة إبعادنا، إنّ ما فعله يجب أن نفعله جميعاً، ونحن قبل غيرنا، فنحن أولاد الشهيد.
الأمّ: لم أرد أن تزيد خسائري.
نظرت زكية إلى أمّها، وأرادت أن تروي لها كلّ شيءٍ، لكنّها توقفت، خافت من التوغل في الماضي، لا تعرف إن كانت أمّها، ستحتمل، فقد بدت لها بريئةً، ليس ما يبرئها النسيان ولا حتّى التقادم، بل الخوف من الخوف.
هذا الخوف الذي جعلها تترك منزلهم القديم في حيّ الشجاعيّة بعد استشهاد زوجها، لكنّها، لم تعلم أبداً أنّهم منذ رحلوا عن منزلهم، لم يعد لديهم منزلٌ، يعودون إليه، لقد انتفت علاقتهم بالمكان، وطويت بمرارةٍ رهيبةٍ صفحةٌ حميميّةٌ أخرى من حياتهم، فقد رحلوا، وخلفوا ورائهم فيضاً طافحاً من القصص.
وحده منزلهم هناك، كان منزلهم، في حين كلّ المنازل الأخرى، لامنازل، لذلك لم تحمل زكية مفتاحاً، ولم تكن لتعود.
وبنظرةٍ فاحصةٍ، علمت أنّه ليس من الذكاء ولا من الرّقة أن توجه الملامات لشخصٍ، يعجز عن لملمة شتاتِ نفسه... ففي عملها، كان باستطاعتها أن تعاين مدى قدرة المرضى المرعبة على أن يقنعوا أنفسهم بما لا يقنعهم، أو بالأحرى بما يلائمهم، فشعرت بعذاب أمّها وعمقه.
فاستدركت الأمر، ووضعت يدها على يدي والدتها الخشنتين المحفورتين بالحزن، وقالت: اطمني، سأبحث عنه، وأعيده لكَ سالماً.
اختارت عطلة العيد، لتبحث عن أخيها، فعادت إلى غزة التي تعرّت من كرومها، وبادلت مساكب الورد بكمائن المقاومة، كانت أجملَ من أيّ وقتٍ مضى...جمالٌ، من العبث أن نحاول وصفه باللغة.
وقفت أمام منزلها، وشعرت أنّ روحها، تتصدّع إلى قسمين، وهي تقفُ في المنتصف على حافة الهاوية، كما كانت دائماً.
دخلت، ولم تجد نفسها تخطو خطواتها الأولى إلى الداخل، حتّى سقطت...لم تقوَ على الحنين؟
شعرت أنّ البيت، يشاركها آلامها بتواطؤٍ غريبٍ، وكأنّه شريكها في كلّ ما عاشته من بؤسٍ ومرارةٍ، ذلك اليوم فقط، أدركت أنّ الوطن ليس مجرد اسمٍ، تنتمي إليه، وليس مكاناً، تولد فيه، وليس أرضاً، تحتمي بها، بل الوطن هو الذاكرة، ولا شيء آخر غير الذاكرة.
بعد ساعاتٍ، استطاعت أن تلملم نفسها قطعةً قطعةً، وذاكرةً فوق ذاكرة، وتنهض.
وفي داخلها، علمت أنّ كلّ شيءٍ يستبقيها هنا، ولا شيء ينتظرها هناك.
فبقيت، لكنّها لم تجد أثراً لأخيها، وما تزال الأيام تمضي، وزكية تغرق أكثر بين عملها والبحث عن أخيها، وذات صباح، طوّق جيش الاحتلال منزلها، وسأل عن أخيها، فهو متهمٌ بقتل ضابط وجنديّ إسرائيلي، وتفخيخ بناء، أدّى إلى جرح عشرات الجنود.
أسقطها البكاء، فدموعها هي كلماتها، فاليوم، قبل قليل، بل الآن تحديداً، استشهد والدها، ففي الماضي، لم تكن تقوَ على البكاء، تلك الغصة الجارحة في صدرها، اختفت.
كانت تعلم أنّ عزّ الدين، انضمّ إلى صفوف المقاومة منذ أن قرأت الرسالة، لكنّ وقع الكلمات لا يقارن بوقع عزفها، وكأنّها نوتةٌ موسيقيّةٌ، يتعمّق تأثيرها بأدائها الصوتيّ المبهر.
كان أخوها ثوريّاً بشدّةٍ، والمعادلة بالنسبة إليه بسيطةٌ جدّاً، أنتَ مع الحقّ، إذن، أنتَ مع المقاومة، إذا كنتَ ضدّ المقاومة، فأنتَ مع إسرائيل، ولم يكن مهتماً بالتقسيمات السياسيّة، ولا بالحلول المدنيّة.
وفي 27 تشرين الثاني، أدركت أنّها بلغت الثالثة والثلاثين، تفاجئت، لكنّها فكرت بلا مبالاة، حتّى لو بلغت الثالثة والأربعين، فما الذي سيتغير؟ لم يمض إلا أيام قليلةٌ، حتّى جاء إليها جنود الاحتلال مرةً ثانيةً، فوقفت باستغراب.
قال لها الضابط: إنّ أخوك....طعن ضابطاً إسرائيليّاً عشرون طعنةً في القلب.
فقالت، أخبرتك: لم أرَ أخي منذ سنوات.
لم تكن بحاجة للتفكير، لتعرّف لماذا اختار أخوها هذا التاريخ؟
كان اختياره إمضاءً خاصّاً لها، فقد أراد أن يعايدها في عيد ميلادها، وهم الذين لم يعتادوا أن يحتفلوا بمناسبةٍ قط.
وفي 26 أيار، لم يكن عليها سوى الانتظار، فبقيت في منزلها طوال اليوم، وفي الساعة الثانية عشرة ليلاً وخمس وثلاثون دقيقة، فُتحَ باب المنزل بغاية الهدوء، ودخل.
فقالت له: عيد ميلاد سعيد.
كان يبدو عزّ الدين نحيفاً، يرتدي قميصاً أبيض، وبنطالاً أسود من الكتان الناعم، وكانت عيناه، توحي بثأرٍ، يتعذّر إشباعه.
بسعادةٍ وفيضٍ من الحنان، تعانقا، وجلسا، واستعادا شريطَ حياتهما، وبين الحزن والفرح، وبين الضحك والبكاء، غفا عزّ الدين إلى جانب زكية.
كلّ الدفء الذي يحمله أيار، لايقارن بما في روحيهما، دفءٌ ليس محسوساً في القلب أو في الأطراف بل أكثر اتساعاً وأكثر عمقاً، كأنّه ينبت من القعر، ويمشي في الدم... حتّى مسحَ عصوراً من البرد.