
«أموات في متحف الأحياء» لشاكر الأنباري

سماع الحكايات من فم الضحايا مباشرة تفوق المعرفة النظرية! شاكر الأنباري
يستخدم الكاتب طريقة وداع البطل لأصدقائه وهو جالس في القطار مغادراً مدينة لوفان البلجيكية*!
يستعيد الراوي انطباعاتِه الدافئة عن سفرته القصيرة لمدينة لوفان مستعيناً بالفلاش باك وحركة القطار، فنلاحظ هنا حضور الهرونوتوب من خلال سرد الأحداث حيث يتبين تقاطع الزمان والمكان، السمة الأهم لبنية هذه الرواية ومضمونها كما سنرى.
بنية الرواية:
تتضح بنية الرواية من خلال فصول يبني الروائي عليها سرده كأعمدةٍ، يعنون كلَّ واحدٍ منها بعنوان عام، حيث يتنقل بين ثلاث شخصيات مغتربة وأسرة سورية لاجئة، مصيرها محتوم بالاغتراب والتفكّك والتشتت، بل الموت كما هو الحال مع نبال. أنظر ص 150 و 186
الأول نصير، المثقف الثوري الحالم، عاد إلى بلده "المحرّر" أمريكيّاً وقُتل فيه، والثاني هو الفنان العراقي البلجيكي مرتضى يعاني من الغربة رغم ادعائه أو شعوره بمقبوليته من الآخر وتماهيه حقاً معه، والثالث هو الكاتب الذي "ينتحل" شخصية الراوي نفسه، فضلاً عن الموسيقي السوري سامي وزوجته لميس وأختها نبال، وعائلته الكبيرة التي تمثل جيلين. هؤلاء هم أعمدة البنية التي يقف عليها المعمار الروائي!
تبدأ هذه الرواية بسردٍ هادئ عن لقاء الراوي (البطل الرئيس، صورة الكاتب) بالأسرة السورية في ساحة مدينة لوفان وتنتهي به، لكن داخل شقة مرتضى!
تُشبه بنيةُ هذه الرواية القصصَ "الإطاريةَ" التي كانت شائعةً في الروايات القديمة، أو تقترب منها، وتذكرنا أيضاً بحكايات "ألف ليلة وليلة"، حيث يبدأ الراوي حكايةً أخرى تسردها "حكّاءتُه" نِبال، التي تقصُّ علينا أو تحكي لنا عن حياتها وعائلتها وابنها وهروبها من لبنان إلى بروكسل. إنها ليست سردية تلقائية بدون قصدية من الكاتب، بل بإتقان وتركيز يتبلوران في مشغله، بل إنه سيقول لنا عن أخت نبال "لميس أيضاً حكّاءة بارعة". ص 100 فضلاً عن حكايات الراوي عن مرتضى وصديقهما المشترك الشهيد نصير.
"استعدتُ ما عشته في هذه المدينة منذ اليوم الأول، .. الذي قادني إلى لقاء تلك العائلة مصادفةً...التي قطنها صديقي مرتضى منذ أكثر من ثلاثين سنة". ص 7
هذا ما قاله الراوي، ويبدأ الحديث عن صديقه التشكيلي العراقي مرتضى، الذي التقاه وصديقهما نصير قبل ثلاثة عقود في دمشق حيث عرض لوحاته في معرض صالة الأتاسي. ويتحدث الراوي بين فترة وأخرى عن شخصيتَي نصير ومرتضى مستعيداً ذكرياته وأحاديثه معهما، ومستعيناً بها.
الأسلوب: تتميز هذه الرواية بسلاسة الأسلوب بفضل خبرة الكاتب المتراكمة وكتعبير عن ثقته بقدرته الفنية على اختياره لغته الخاصة بنتاجه وبطريقته اللغوية، فنراه يبتعد تماما عن التكلف.
يتميز السرد هنا بالانسيابية والوضوح، والسلاسة بفضل راوٍ واحدٍ هو السارد العليم، وهو الأقرب إلى الكاتب نفسه (صورة الكاتب) فهو هنا شخصيةٌ فاعلةٌ في الرواية، بلا اسم، يكتب أحياناً بصراحة عن نفسه يقول "مادة أستخدمها في قصصي ورواياتي وحواراتي مع الأصدقاء". ص 28
ثم يتدفّقُ السرد متنقلاً بين الأماكن والأزمان بين فترةٍ وأخرى بطريقةِ الحكي عن حياة صديقه نصير منذ هروبه من العراق في نهاية السبعينات حتى اغتياله في بغداد بعد احتلالها، فيقدم لنا الكاتب سياحته في فضاء ممتد إلى أكثر من ثلاثة عقود، منذ انفراط تحالف البعث مع الشيوعيين، وقتلهم وملاحقتهم، مروراً بحربَي الثماني سنوات والخليج فضلاً عن الحصار على العراق ومن ثم احتلاله، والثورة السورية!
والشيء نفسه يُذكر عن لميس وزوجها سام وقصة "أختها نبال المنحنية الظهر وكأنها تتوقع ضربة من الخلف" ص 36 - 37 بأنها "نبال المرأة المطلقة المنحنية الظهر عند المسير، المليئة بالأسرار أين زوجها وكيف وصلت إلى هذه الأصقاع...الراوي يطرح السؤال مائلا للإجابة عليه ليفصح عن حياتها. ص 36-37
هذه هي طريقته السردية متنقلاً من شخصية إلى أخرى بسلاسةٍ "تتحدث نبال بصوت رائع عن نِتف معاناتها في الوصول إلى لوفان" لاحظ رنين كلمة "نتف" العامية والفصيحة أيضاً، ص 39 (نتفة نتفة) هكذا تفصح نبال عن حياتها، وهكذا فضّل الكاتب الكشف عنها.
نلاحظ أن الروائي الخبير شاكر الانباري، يسرد لنا بطريقة الحكواتي، واثقٌ من نفسه، لا يفتعل الجملة السردية كأنه هو من يتحدث باسم نبال مرةً، ولميس والموسيقي حيناً آخرَ، وصديقه مرتضى والشهيد نصير تارةً أخرى. ومن الواضح لكل من تابع نتاجات شاكر الأنباري أن خبرته الأدبية في كتابة ثلاث عشرة رواية وخمس مجموعات قصصية انعكست هنا بكل وضوح. ص 62
ويشعر القارئ الذكي بإنسانية السرد وانسيابيته نتيجةً لخبرة الروائي في الكتابة، ولهذا تقترب أحياناً من اللغة السردية المحكية الاجتماعية الإعلامية الأدبية. يتحدث هنا عن نبال بلسانها بدون تجلياتها المونولوجية، لا يدعها دوماً تتكلم عن نفسها، بل يكون داعماً لها، أو لسانَ حالها مبرراً لها بساطتها ومحدودية معلوماتها وعدم معرفتها مثلاً بمدينة كشمير "لبراءة الكائن الأنثوي". ويبدو ذلك ظاهراً في طريقة السرد. ص 67-67
يقول الراوي "أتابع قصتها وأراقب من خلال ذلك تحولاتي أنا الآخر..." التمثال كان المحرض". ص 67
وهي طريقة سردية تتجسد فيها عدة سمات، ذات بنية قوية محكمة وبدون افتعال، فيقول: "قالت وهي ترفد فضاء الصالون بدخان السيجار.." فهو هنا ليس مجرد ناقلٍ أو سارد لحكاياتها فحسب، بل يلتقطَ صوراً لها أثناء حركة الجسد، ممسكاً بزمام الحكي والسرد غير المباشر متجنّباً إغراق نتاجه بحواراتٍ تقليديةٍ ومونولوجات وبكائيات حزينة تقليدية تستدر عطف القارئ وتفاعله. ص 67
يحكي الروائي من خلال ساردِه الراوي عن نبال أثناء تحركها هنا وهناك بطريقة الحكواتي ويصور مجابهتها للمشاكل ككاتب إنساني مناصر للمرأة الضعيفة!
لا يتركها تتحدث عن نفسها، وإنما ينقل عنها ليس كراوٍ يمثل شخصيته "الخاصّة" التي يتميز بها البطل الروائي، بل ايضاً كساردٍ عليمٍ متعاطفاً معها، "أرسلَها مع المترجم العراقي..". ص 68 "ظلت تلوح لمخيلتها... إلى بداية الطريق الشاق، أي صعود البحر إلى أقرب جزيرة يونانية، كما يفعل عشرات آلاف السوريين والعراقيين.. تقول نبال إنها اقتنعت... أي رجل تلتقيه لا يفكر سوى بمضاجعتها... ". ص 69
لكنه في الوقت ذاته "يبرر" بذكاء أو يشرحُ لنا تكنيكَه السردي قائلاً "... ما حكته نبال في ليلة واحدة يكاد يغطي أحداثَ سنواتٍ.." ص 71 "وفكرتُ هنا أن سماع الحكايات من فم الضحايا مباشرة تفوق المعرفة النظرية التي يقدمها أي كتاب عمّا حصل للملايين منذ اندلاع الأحداث في سوريا". ص 71
قدمها الكاتب بإيجار، مختصراً أحاديثها بطريقته المتميّزة التي أعانته في تقديم شخصياتٍ روائيةٍ خاصةٍ تميّز العصر، أو الزمان والمكان الذي تعيش فيهما، في البداية تحدث عنها، لكنه لم ينسَ أن يتركها تحلّق كالطير في السماء عاليةً لتفصح أيضاً عن نفسها أحياناً، والآخرين عند الضرورة. ص 72
نُلاحظ، أن الروائي ينقل على لسان راويه وسارده العليم أحاديثَ أبطاله بمن فيهم نبال بطريقةٍ ندركها أحياناً من كلمة مميزة أو بداية الفقرة، في فصل "هنا وهناك" يقول "وأنا أسمعُ بوحَ نبال وأراقبُ حركاتِ يديها المرتجفتين...". ص 76 فمفردة "بوح" بحد ذاتها تكفي للإفصاح عن مدلولات السرد القادم، يعني هو يواصل الكلام عنها الآن واصفاً إيّاها تتحدث عن خصوصيات حياتها ومأساتها كأنثى ضعيفة مكسورة الجناح، وحياة اللاجئين في مخيمهم التعيس في اليونان والتعامل القاسي. ومن المفيد هنا أن نقول إن الكاتب لا يستخدم المونولوج التقليدي الذي تعودنا عليه منذ السبعينات بطريقةٍ أضحت أقل انتشاراً أو قبولاً أحياناً! كما يتضح في سرده. ص 76 و "...سوريون عراقيون أفغان لافتات ..." ص 78 "متطرفون أصوليون مجرمون". ص72- 78 ونقرأ "قطعة من الجحيم تلك، قالت بنبرةٍ حادةٍ وهي تطفئ سيجارتها...روائح كريهة، والحمامات غرف من البلاستيك مؤقتة...". ص 77
ويقول الراوي عن نبال "سمعتْ مرّةً أن البعض ..."، يحكي عنها كأنه إعلامي يكتب نصاً سردياً هجيناً فيه عناصر من التحقيق والكتابة (المقال الصحفي) essay والقصة الموثّقة الروسية الفنية السردية المعروفة بمصطلح ocherk التي تشترط التوثيق، التي قال عنها مكسيم غوركي "تقف بين القصة والتحقيق" بمعنى الكتابة عن شخصياتٍ حقيقيةٍ بلغةٍ فنيةٍ إعلاميةٍ حكواتيةٍ أقرب إلى الناس. ص 80
نقرأ في الرواية "تقول نبال مطلقة ضحكة هستيرية ملوثة بالدخان". ص 81 نبال هنا تحكي بطريقة مباشرة، والراوي يقول "هكذا لخصت نبال أحاسيسها عن "مأساة القرن" كما تسمّيها". ص 81
ولا يكتفي الروائي بهذه الطريقة السردية، بل يلجأ أحيانا إلى جعل البطل يتحدث بنفسه عن نفسه بضمير المتكلم أنا، مثلا عندما حدثَته نبال عن الفتيات الإسبانيات، وبالذات مارتا التي درست اللغة العربية في دمشق، واستعدت هي وصديقتُها لمساعدتها في الانتقال إلى مدينة لوفان البلجيكية. ص 83 بل ينتقل الروائي إلى الحوار المباشر بحيث تتحدث نبال عن نفسها تعبيراً عن شعورها بالأمان معه والدفء تجاهه وقربها منه، وهو بذلك يحقق من خلال سرده نقلةً نوعيةً في تعبير بطله عن مكنوناته وبالذات المرأة المظلومة.
يأخذ السرد حالة جديدة في فصل الليل الفلامنكي، حيث يقول الراوي "صديقنا المشترك"، فهذه الجملة وحدها كافية للإشارة إلى طريقة جديدة، هنا، فهو يبين أنه سيتحدث مع مرتضى عن الشهيد نصير.
سرد الهاربين الجدد من العنف السوري:
يقدم الراوي كلماتِ البطلة، يصف علاقة لميس وسامي وولديهما، لميس تعتقد أن مصر ساحرة بشكل عام، لكن المجتمع متخلف نسبيا لا يتقبل الآخر. لغة محبطة أو على الأقل حزينة. ص 147-148
نقرأ عن سوء الحال في الدول العربية من خلال "حكي" لميس، وفي الوقت ذاته تقوى العلاقة بين الراوي والعائلة، كما هو واضح في السرد. لاحظ نوع "البوح" والحميمية وحالة الدفء، بحيث يصبح الكلام محاطاً بالحزن والألم والرغبة في البقاء معاً، لدرجة أنهم يتوسلون به أن يبقى معهم، أو يقضي ليلته عندهم في البيت، لكنه يصر على الخروج. يرافقونه خارجين معه إلى الشارع، فتندمج أحاديثهم البوليفونية مع حركتهم المكانية في هذه المدينة الغريبة عليهم. ص 149
يقول الراوي "أمشي أحيانا مع سام لنعود إلى هموم حياته السابقة". ص 149
نلاحظُ اندماج عدة عناصر في النص أثناء الانتقالات الزمكانية في حكايات الأبطال، وسرد الراوي بدون وضع كلامهم بين قوسين لتمييزه كما جرت العادة، أو تندرج من خلال حديث الراوي والآخرين، وتتناغم الأحاديث على طريقة ألف ليلة وليلة كما ذكرنا. ورغم بوليفونية هذه الأصوات المختلفة أو المتنوعة، لكنها مع ذلك تتناغم كأنها جديلة ضمن متن السرد "مفتولة" بمهارة الكاتب المتأني.
لكن، وكما أشرنا سابقاً، فإن السرد يتميز بإحباط إنساني عام يعاني منه المثقف الشرقي، وآخر خاص بنظيره العراقي والعربي، نقرأه على لسان الراوي "تمنيت...لو أنني اتقنت مهنة الفن بدل الكتابة، لأن الكتابة تدفع صاحبها يوما بعد آخر نحو التشاؤم. بعد هذه التجارب التي عشتها والمعارف التي حصلت عليها، انتبهت إلى أنني صرت أكثر تشاؤماً في النظر إلى مصائر البشر على هذه الأرض. بو زايدون سيبتلع الهاربين في أكثر من قارة. والحروب تندلع في بقاع غير متوقعة". ص 171
ويتضمن السرد أيضا بعضَ الحوارات المباشرة، وتتغير بنيته، ونبرته، كما يتضح في حوار الراوي مع مرتضى والشهيد نصير وسام، وبالذات مع نبال كما سنرى فيما بعد عند حديثنا عن الشخصيات.
يتطلّبُ السرد هنا درجةً من التفاعل فبدأ الراوي يقول " حكايات وحكايات، وبالونات الضوء ترقص فوق رؤوس الأطفال في السوق، والساحة تختتم مهرجانَها... للعودة إلى الأزقة الخلفية". 158
لاحظ بنيةَ حكاياتِه المنسابةِ كمياه رقراقةٍ جاريةٍ في ساقيةٍ صغيرةٍ، حسب طريقةِ الحكي العربي: سالفة بعد سالفة! "...واستطعت أن أصور مشاهد ليلية على تلفوني النقال.." وأطل السارد العليم برأسه ليقول أيضاً "المدينة تتعرّى... ليلة البوح والمتعة، وفقت أن أكون سببا لاجتماعنا في بيت مرتضى. وهذا ما أشعرني بالسعادة. فنحن في النهاية أبناء شرق واحد، وغربة دائمة". ص 158
ويمكن لمس النبرة الحزينة أيضاً في مقطع سردي آخر من هذا النتاج الأدبي، نقرأ على لسان الراوي: "ثلاثون سنة وأنا أعيش الأجواء ذاتها". ص 176
بدأ أيضاً يتحدث عن نفسه، هروب من بلده إلى بلد آخر، قصص عودة مأساويه، قصة نصير أو هجرة سام وعائلته، "أطفال يولدون وينسون لغتهم الأم. أموات حالمون، ثلاثون سنة من حلم العودة وربما أربعون. وهذه الشعوب، شعوبنا، مازالت تحلم بالاستقرار والأمان. كم دفعت من الضحايا؟ وكم وأدت من أحلام؟ كم فرقت علاقات حب وزواج وصداقة؟ تركت عائلة سامي الأولادَ في البيت، دلتهم الكنيسة إلى العنوان وكانوا مدفوعين بفضول عارم لرؤية بيت الفنان". ص 176
* لوفان مدينة بلجيكية تُلفظ بالفرنسية: لُوفيَن، وبالهولندية: لووفِن Louvain ) بالفرنسية و Luven بالهولندية)!
لوحة إله البحر بوزيدون (بو سيدون)