

حارس شجرة اللوز
كان المساء ينسحبُ ببطءٍ من شرفة الشقة، تاركًا خلفه ظلًّا أرجوانيًّا يمتزجُ مع أنفاس امرأة في عقدها الثامن، سُميّة التي هَضَمَتْها السِّنون ولم تبق منها سوى جسدٍ نحيلٍ، بعظامٍ بارزةٍ، اختبأَ في ثوبٍ رماديٍّ فضفاض، فاحتّلَ حيِّزًا ضئيلًا على الأريكة. إلى جوارها جلست زوجةُ ابنها الوحيد، ترقُبُ عينيها الذابلتين وهما تُحدّقان في الفراغ، كأنهما تبحثان عن شيءٍ ضاعَ منذُ زمنٍ بعيد.
دخل حسام عائدًا من عمله، وتوجه إلى حيث كانت تجلس والدته كعادتها في الشُرفة. نظرت إليه باستغراب، ثم سألته ذات السؤال الذي يقطر مرارة كُلّ يوم
– مَن أنت؟.
كان يدركُ تمامًا أنَّ الزهايمرَ محا ذاكرتَها بالكامل، لكنه في كلِّ مرةٍ يتساءلُ بأمل: هل ثمة ذكريات في عقلها ستقاومُ آفةَ النسيان؟
كم كان يحزنه أن تكون بهذا الحال، وهي التي نجت من مذبحة قريتها قبل أكثر من سبعين عاماً، وتحمّلت معاناة النزوح والتهجير وتغلبت على مآسيه. هي المرأة القوية التي جمعت بين دوري الأم والأب بعد وفاة والده، فربّته وأنشأت شاباً صالحاً، متفوقاً في دراسته حتى أصبح طبيباً.
في صباح اليوم التالي، استيقظ حسام فزعًا على صوت صراخها. عندما فتح باب غرفته، أطل عليه وجهها المرتعش، نظرت إليه كمن يرى غريبًا للمرة الأولى.
– ما الأمر يا أمي؟ لماذا تصرخين؟
سأل وهو يقترب منها بحذر.
– من أنت؟.
همست بصوت مرتجف، وعيناها تتسعان بالذعر.
– أنا حسام.. ابنك..
تجمّد للحظات قبل أن يحثّ أقدامه لتخطو ببطء إليها. أمسك بيدها وقادها إلى الأريكة في الصالة. جلس بجانبها، ملتصقاً بجسدها الصغير المنكمش، محاولاً تهدئتها ومعرفة سبب خوفها. احتضنها، قبّل يديها، قبّل رأسها، قبّل وجنتيها، ثم حدّق في عينيها متأملاً أن يوقظ بعض الذكريات. لكنّ نظرة الخوف في عينيها لم تنطفئ، ثم صرخت فجأة:
– الجرس! هل تسمعه؟ هل أطلقوا الفرس؟.
– أيّ جرس وأيّ فرس؟.
نظرت إلى النافذة وكأنها ترى شيئًا ما، ثم قالت وهي تشير بأصابعها المرتعشة:
– هناك... كنا نلعب أنا ويوسف هناك. كان يقول لي دائمًا إنّ شجرة اللوز هي أول من يزهر في الشتاء، وآخر من يسقط ثمره في الخريف.
– من هو يوسف يا أمي؟.
لم تجب. عادت عيناها لتحدقا في الفراغ، فشعر بحيرة عميقة. إنها تتذكر أشياء لم تذكرها من قبل، أشياء لا يعرفها هو!
عاودت التحديق بالنافذة طويلاً. ارتجف جسدها الصغير مرة أخرى، وكررت السؤال بصوت يكاد يختنق:
– هل رن الجرس؟ هل أطلقت الفرس؟.
كان في عينيها خوف مريع. لم يسبق له أن رأى هذا الذعر في عينيها، حتى بعد وفاة والده. أسرع يحتضنها، فهدأ ارتعاشها قليلاً.
تساءل في صمت:
من "يوسف" الذي لم تذكره طوال هذه السنوات؟ وأي جرس هذا الذي يطاردهما بعد سبعين عاماً؟.
كان عازمًا على البحث عن إجابات لهذه الاسئلة التي تمردت على الزهايمر، وجدَ نفسَه يغوصُ في ماضيها، كمن يقلّب صفحات كتاب مهترئ. ما قصةُ الجرسِ الذي تنتظرُ أن يُقرَع، والفرسِ التي تتأهبُ للانطلاق؟ ومَن هو يوسف؟! يبدو أنَّ ثمَّةَ ذكريات عصِيّة على النسيان!
ثمة أملٌ يتأجج في صدره - أن تجد أسئلته أجوبةً في ذاكرة العجوز أبي ناصر المُتَّقِدة. كان أبو ناصر قريبَ أمه ورفيقَ دربها في مسيرة التهجير الطويلة.
كان الرجل العجوز يجلس كل يوم في مقهى قريب من منزله، يداه المتجعدتان تعبثان بمسبحته البالية. الجميع يعلم أنه آخر من تبقى من جيل النكبة، يحمل في ذاكرته ما لم يَعُدْ موجودًا في الكتب.
في ذلك المساء، بينما كان العجوز يرتشف فنجانَ قهوته المرةَ ويراقب العابرين، اقترب منه حسام وعلى وجهه ابتسامة تخفى وراءها ألفُ سؤالٍ:
– عمي أبو ناصر، هل تسمح لي بالجلوس؟.
رَحَّبَ به العجوزُ فوراً، فقد كان يُحبُّ قضاءَ الوقت مع الآخرين. هكذا كان يملأ حياتَه الفارغة. ربما كانت تلك الأحاديثُ هي ما يُبقيه حيّاً ويُطيلُ عُمُرَه!
– بدأَتْ أمي تسأل عن جرسٍ وفرسٍ... وعن شخصٍ اسمُه يوسف. هل تعرف ما الذي تعنيه هذه الأشياء؟ أم أنه مجردُ هذيان؟.
اشتعلَتْ عينا العجوزِ مع السيجارةِ التي أشعلَها، وتنحنحَ ثم أطلق زفيراً دخانياً طويلاً:
– بالطبع أعرفها... بل عشتها. ليست مجرد حكاية تُحكى، بل جرحٌ عتيقٌ لا يندمل.
توقف العجوز لحظة، وعيناه الباهتتان تلمعان في ضوء المصباح الخافت. أخذ نفساً عميقاً من سيجارته قبل أن يواصل:
– أتذكّرُ كل شيء وكأنه حدث البارحة... رغم أن ذلك كان في عام النكبة. اتذكر الشيخ حامد مختار قريتنا، وابنه يوسف - ذلك الطفل ذو العشر سنوات. أتذكره جيداً وهو يلعب مع والدتك سُميّة على التلة وتحت ظل أقدم شجرة لوز في القرية.
التقط العجوز فنجان قهوته بيد مرتعشة، ثم واصَل:
– كان يوسف متعلقاً بتلك الشجرة العتيقة تعلق الروح بالجسد. يحمل عصا صغيرة طوال الوقت، يلوّح بها في الهواء كفارسٍ يتدرب على القتال، ويُقسِم للجميع أنه حارس الشجرة الأمين وسيدافع عنها عندما يأتي المحتلون الصهاينة، ولن يسمح لهم باجتثاثها من جذورها.
أغمض العجوز عينيه للحظة، وكأنه يستحضر الصور من أعماق ذاكرته، ثم استأنف حديثه:
– كان يدّعي أنه بطلٌ وسيحمي القرية، وكان الجميع يضحك ويستهزئ به، ولكن سُميّة كانت الوحيدة التي تصدقه رغم صغر سنها. لم تكن تتجاوز السابعةَ آنذاك، ولم تكن تناديه سوى ’حارس شجرة اللوز’. كان الجميع يؤمن أنهما سيتزوجان عندما يكبران، وسيقام لهما عرسٌ عند شجرة اللوز. أتذكر ذلك جيدًا، كنتُ أكبرَ منهما ربما بخمس سنوات.
كان حسام يُصغي بفضول، وعندما سكت العجوز ألح عليه بصوت مندفع:
– أكمل! ماذا حدث بعد ذلك؟ وما حكاية الجرس والفرس؟.
أخذ العجوز نفسا عميقا قبل أن يواصل:
– حين حاصرت العصابات الصهيونية القرية، هرع الرجال يجمعون ما استطاعوا من مناجل وأدواتٍ للدفاع عن قريتهم. لم يكن في القرية أسلحة! نهض الشيخ حامد بينهم قائلاً: ’علينا إخراج النساء والأطفال إلى مكانٍ آمن، سيمتطي أحدُ الرجال فرسي الشهباء التي تحمل في عنقها جرساً ويقف على التلة عند شجرة اللوز. حين نبدأ القتال وينشغل الجنود، نرسل إليه الإشارة.. فيُطلق الفرس، فيطرق رنين الجرس أبواب القرية، هذه اشارة الهروب لتتسلل النساء وأطفالهن تحت ستار الظلام."
توقف العجوز فجأة، وانهمرت الدموع من عينيه، ثم أكمل بصوتٍ متهدّج...
– في تلك الليلة.. تلاشى يوسف من بين الحاضرين. انسلّ بين الأزقة الضيقة ببراعة، وصل إلى الحظيرة، امتطى الفرس واختبأ بين أغصان شجرة اللوز الكثيفة. رأى الجميع ظله هناك، وفي اللحظة التي حاولوا فيها اللحاق به، دخل الصهاينة كالسيل الجارف وبدأ القتال في كل زاوية.
– ويوسف؟.
سأله حسام وقشعريرة تسري في جسده
– قال أحدُ الرجالِ الشهودِ على الواقعةِ والناجينَ من المذبحةِ: "إنّ بعضَ جنودِ الصهاينة حاصروه فأخبرهم أنه حارس شجرة اللوز ولن يتزحزح من مكانه. ثم عندما اقتربوا منه، أخبرهم أن تحتها نفقا وأسلحة، كي يخيفهم فيبتعدوا ويُطلق الفرس.
ابتسم أبو ناصر ابتسامةً حزينةً ثم تابع بصوتٍ خافت:
– زرع يوسف تلك الفكرة في أذهانهم برغم صغر سنه، كان ذكياً يفوق عمره بكثير... لكن حين رأى بأم عينيه الجنود يتجمعون حول شجرته الحبيبة، يعدون العدة لاقتلاعها من جذورها، انفجر غضباً وهاجمهم بكل ما أوتي من قوة.
مسح أبو ناصر دموعه قبل أن يكمل:
– أمطروه وفرسه بوابل من الرصاص... سقط جسده الصغير هناك، تحت ظل الشجرة التي أفنى عمره القصير في حراستها. سقط وهو يحتضن جذعها، لم نسمع في تلك الليلة صوت الجرس، ولكن بينما كان الجنود منشغلين بالحفر بحثاً عن أسلحةٍ وهمية، تمكنت بعض النساء والأطفال من الفرار، واستمر الرجال بالقتال حتى النفس الأخير، نجا البعض واستشهد البعض.
لم يشعر الشاب بحرارة الدموع التي انسكبت وملأت عينيه ووجهه. كان منشغلاً بتلك الصور التي عبرت ذهنه، والتي ملأت كل المساحات الفارغة في ذاكرة والدته.
في ذهنه، صورٌ لظلين صغيرين تحت شجرة اللوز، فتاة في السابعة من عمرها وفتى في العاشرة، ترسم الفتاة بأصابعها الصغيرة دوائر على لحاء الشجرة المتشقق، بينما عيناها تتابعان بإعجاب عيني يوسف السوداوين العميقتين، وتصدق كل كلمة يقولها. إنه بطلها الصغير، حارس القرية وحارس شجرة اللوز.
في طريقه إلى المنزل، كان ذاهلاً يفكر في هذه القصة المنسية التي لم يعد يتذكرها الكثيرون، خاصة أن أصحابها باتوا تحت التراب. كان يشعر وكأنه عاد إلى الماضي وعاش معهم تلك اللحظات: رجال القرية يستميتون لإخراج النساء والأطفال وكبار السن من القرية التي حوصرت، وثمة أخبار مريعة تصلهم من القرى المجاورة عن مجازر لم يسلم منها أحد.
أدرك في تلك اللحظة أن والدته المصابة بالزهايمر لم تكن تهذي. إنها تعيش حالة انتظار وتأهب للهروب والنجاة من موت محتم. هي عالقة في تلك الذكرى، في لحظة أبدية بين الحياة والموت، وما زالت تنتظر الفرس وخطوات حارس شجرة اللوز.
جالت برأسه صور مقيتة لنساء وأطفال، ظلالهم المرتجفة ملتصقة بالنوافذ والأبواب. اختلط بكاؤهم بصرخات الرجال المتدفقة من خارج الأبواب المغلقة وهم يقاتلون المحتل. صامدون بأجسادهم العارية في وجه محتلٍ مدجج بالأسلحة، يحملون ما استطاعوا من عصي ومناجل في وجه العصابات الصهيوينة، والعازمة على إبادة كل من في القرية.
عندما وصل إلى المنزل، هرع إلى غرفتها، فعاودت تسأله:
– هل رن الجرس؟ أين يوسف؟.
احتضنها بقوة، قال والدمع ينسال من عينيه:
– رن الجرس منذ أكثر من سبعين عاماً يا أمي، ولكنّ تلك الفرس ما زالت تركض وتركض، ترفض التوقف، ولا أعرف إلى أين وصلت! أما يوسف يا أمي، فما زال يقف هناك عند شجرة اللوز، يحرسها. يُقال يا أمي إن الجنود فشلوا في قلعها من جذورها، كانت جذورها عميقة وأقوى من بنادقهم. ويوسف أصبح كبيراً جداً وأطول من شجرة اللوز.
ابتسمت. لم ير تلك الابتسامة العريضة على شفتيها من قبل، حتى عندما كانت تملك ذاكرتها بالكامل. كأنما ملأت كلماته ذاكرتها الفارغة.
وارتفعت أصابعها تتحرك في الفراغ، لترسم صورًا ملونة لشجرة لوز عتيقة، يقف بجوارها فتى وسيم بعينين سوداوين عميقتين، يخبرها بأنه حارس شجرة اللوز فتصدقه دون تردد.