الأحد ١٨ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم علي حسين الرفاعي

المسرحية

خَفَتت الأضواء تدريجيًّا حتى لم يبقَ منها سوى ضوء خافت صغير ينسلّ كشلّال من أعلى سقف القاعة المرتفع، ويسقط في منتصف خشبة المسرح مباشرة، في حين راحت ستارة ضخمة حمراء اللون تتحرّك ببطء شديد كاشفةً عن معالم غير واضحة تمامًا. وعلى إيقاع الصّمت الذي ساد القاعة، إلى درجة أنّ المشاهدين حبسوا أنفاسهم خوفًا من أن يجرح أيّ صوت، ولو خافت، سكونَ المكان ورهبةَ الموقف، راح الضوء يتحرك حتى استقرّ في الزاوية اليسرى البعيدة ليكشف عن جسدٍ تكوّر على نفسه كجنين في رحم أمه.

استمرّ الصمت نصفَ دقيقة أخرى، والمشاهدون متسمّرون في أماكنهم، وعيونهم المفتوحة رهبةً كأفواه الجياع لا تكاد ترمش، إلى أن قطع الصمتَ صوتٌ بعيد غائر يبدو كأنه يجيء من جبٍّ عميق:

  ما زلتُ على قيد الحياة.

تبع الصوتَ الضعيفَ الغائرَ ضحكةٌ هائلة مجلجلة جعلت بعض المشاهدين يجفلون في مقاعدهم
  ما زلتُ على قيد الحياة.

سكنت الأصوات وهلةً.

 وأضحك.

مستمرًّا في إطلاق ضحكته، راح الجسد ينفرد ويمدّ يديه ورجليه كطفل صحا لتوّه من النوم، ثم انتفض واقفًا على قدميه، لتظهر عروس بفستان زفاف وهي تستطرد:

  وأرقصُ.

راحت تتمايل على خشبة المسرح، وتدندن ما يبدو أغنيةً غير واضحة وهي تقترب أكثر فأكثر من الجمهور، حتى صارت على بعد سنتيمرات قليلة من الحافة. وفجأة لمع ضوء قوي استمر ثانيةً واحدةً في اتجاه الممثلة، فكشف عن جسدٍ غطّى نحولَه فستانُ زفاف ملطّخٌ بالأحمر. لقد وقفت على حافة المسرح، ومدّت رأسها ويديها في اتجاه الجمهور كمن يحاول أن يسبح في الفراغ، أو أن يمسك بشيء ما غير مرئي.

لمع الضوء القوي ثانية أخرى، فانتفض معظم من كانوا في الصف الأول من المشاهدين حين كشف الضوء عمّا بدا وكأنه نصف وجه فقط، ثم سقطت الممثلة عن المسرح، ووقعت تمامًا أمام أنظار كبار الشخصيات الذين احتلوا الصف الأمامي كاملًا في القاعة.

لحظات لم يدرك المشاهدون فيها ما إذا كان هذا الذي حصل جزءًا من السيناريو، أم أنّ خطبًا ما قد أصاب الممثلة فعلًا. غير أنهم، مأخوذين بما يسمّيه الأنتروبولوجيون تأثير الكاتدرائية، ومبهورين بلعنة المسرحية التي ورد في حملتها الدعائية أنها مسرحية تكسر الحاجز الرابع ومعايير أخرى، لم يحركوا ساكنًا.

مرّت الثواني التالية بطيئة جدًّا، حتى ارتفع من مكان ما في مؤخرة القاعة صوت همهمة انتقلت كالعدوى، وتحولت إلى ما يشبه الهدير.

لم يستمر التململ طويلًا؛ إذْ قطعه لمعان الضوء الخافت وهو يتحرك مجدّدًا على المسرح، مترافقًا مع إيقاع موسيقى جنائزية مهيبة، ليستقرّ في الزاوية اليمنى البعيدة، ويكشف عن رجلٍ بقدم واحدة يقف مستندًا إلى عكّازه، وينظر إلى أعلى.

  اختفى الصوت... اختفى الصوت... كنت أظنه سيستمر إلى الأبد...

راح يخفض رأسه ببطء، وينظر ناحية الجمهور، ثم بدأ يتحرّك في اتجاه وسط المسرح وهو يتمتم:

  أنا آتٍ، آتٍ... لا بأس... اصبر قليلًا... ليس سهلًا أن تعيش بقدم واحدة...

ثم يستطرد كمن يحادث نفسه:

  وتحلم بأن تصبح لاعب كرة قدم؟! ها ها ها... لا بأس... لا بأس... ليس عبثًا أن اسمها كرة القدم لا كرة القدمين... ها ها ها...

قلتُ آتٍ، آتٍ... اصبر قليلًا!

وبينما هو يتقدم ببطء اختفت الأضواء فجأة سوى ما يتسرّب من النوافذ العالية للقاعة، وسُمع صوت أقدام كثيرة تعدو على الخشبة، وتبعتْها صرخةُ ألمٍ أوقفت الدم في عروق المشاهدين.

لم يتمكّن كثيرون من تبيّن حقيقة ما حصل على المسرح في هذا الوقت، غير أنّ قلّة ممن تمتلك عيونُهم القدرةَ على التأقلم السريع مع تغير مستوى الإضاءة لاحظوا أطيافًا تحركت بسرعة على المسرح، ودارت دورتين حول الرجل صاحب العكّاز قبل أن يترك واحدٌ منهم الحلقة الدائرية، ويندفع كالبرق ساحبًا العكّاز من يديه، وموقعًا إياه أرضًا، في حين راحت الأطياف تنسحب عن المسرح وهي تدوس الرجل بأقدامها.

عاد الضوء الذي يشبه الشّلال ليضيء المسرح حيث انبطح الرجل هامدًا ثوانيَ، قبل أن يبدأ بالزحف باتجاه الجمهور ناظرًا وراءه إلى خطٍّ من الدم راح يشكّله نزيف قدمه الثانية المقطوعة ويتمتم:

  فليكن... فليكن... ممَّ تشكو كرة اليد... ها ها ها... لحظة... قلت آتٍ، آتٍ... ربّما...

وما هي إلا دقائق حتى وقع عن الخشبة متكوّما أمام أنظار كبار الشخصيات في الصف الأمامي.

ارتفع في المكان صوت بكاء طفل صغير، وأخذت طفلة أخرى تركض كالمجنونة على المسرح وهي تصرخ:

  لا يا الله... لا يا الله... ليس مجدّدًا... لا يا الله!

كانت تركض محاولة تفادي الكثير من الأشياء التي تبعثرت على كامل مساحة الخشبة: أحذية صغيرة ممزقة، حقيبة مدرسية مغبرّة، صوَر بإطارات مكسورة، منضدة خشبية محترقة، جثة عصفور أزرق، دمية بلاستيكية ذاب ثلاثة أرباع جسمها، نصف طاولة زهر، نسخة مطبوعة بعناية من الإعلان العالمي لحقوق الانسان، قنينة مياه فارغة، شارب اصطناعي مزيّف...

وبينما هي تركض تعثرت بجسدٍ صغير، فانطلق منه صوت بكاء حاد دفع كثيرًا من المشاهدين إلى تغطية آذانهم بأيديهم، في حين ارتطم وجه الفتاة بخشبة المسرح بقوة، وانغرز في خدّها الأيمن مسمار صدئ ناتئ.

بدت الطفلة وكأنها لم تشعر بوخز المسمار، ولم تشعر به حتى وهو يمزق خدها، فأدارت رأسها إلى الخلف لتنظر إلى الجسد الصغير الذي همد صوته فجأة.

انتفضت الطفلة، ثم جلست وأخذت الجسد بين يديها، أدنت رأسها منه، وضعت أذنها على صدره، أغمضت عينيها، وعمّ الصمت المكان مجدّدًا.

بينما كانت فصول المسرحية تتوالى، كانت الأجساد تتكوّم رويدًا رويدًا في المسافة الصغيرة الضيقة التي تفصل بين خشبة المسرح والصفّ الأمامي من الجمهور، وبينما اقترب العرض من نهايته، ارتفع جبل الأجساد حتى صار يحجب المسرح، ويمنع المشاهدين من الرؤية. استمرّت الأصوات القادمة من خلف الأجساد تقرع آذان الجمهور، وكانت كافية ليفهم المشاهدون سياق ما يجري ولو انعدمت الرؤية.

بقي الوضع على هذه الحال، إلى أن تنحنح رجل مكتنز بملامح غربية وشعر أشقر وعينين زرقاوين، وقال متأففًا وهو يقوم عن مقعده الواقع في منتصف الصف الأمامي مباشرة:

  تبًّا... لقد دفعت مبلغًا طائلًا من المال لأشاهد هذه المسرحية اللعينة، لا لأسمعها فحسب!

ثم توجّه صوب جبل الأجساد المتكدسة، وراح يتسلقها كمن يتسلق قمة شديدة الانحدار، فتارة ينشب أصابعه في عينين شبه مفتوحتين، وطورًا يثبّت قدمه على كتف مخلوع، حتّى وصل إلى حيث بات قادرًا على رؤية المسرح مجدّدًا، ثم نظر ناحية الجمهور وابتسم ابتسامة خبيثة.

ولأنّ الإنسان مجبولٌ بالعدوى، كانت تلك الابتسامة كافية لتنشر السّعار بين الجمهور. وخلال دقائق قليلة تحولت قاعة المسرح الراقية إلى ما يشبه حلبة المصارعة الرومانية، وتحولت المساحة الضيقة بين الجمهور والمسرح إلى فوضى كاملة.

نساء ورجال بالعشرات بملابس وأزياء غريبة، وبملامح فيها الأفريقي والألباني والأرميني والأذري والبربري والإنجليزي والاستوني والقوقازي والمتوسطي والفارسي والكردي والروسي والروماني والصربي والتركي والأزبكي والعربي، وكل ما مرّ على الأرض من أعراق وقبائل يتدافعون ليتسلقوا جبل الجثث المكوّمة، ويشاهدوا المسرحية.
وبرغم الجلبة الهائلة التي أحدثها تسابقُهم الدموي هذا، غير أنها لم تستطع إخفاء الأصوات التي استمرت بالتسلل خافتة ولكن ثابتة

  كان عايش والله.
  بدي أبوسه.
  اسمه يوسف ٧ سنين، شعره كيرلي، وأبيضاني وحلو.
  بدي يوسف يا بابا.
  كان يصرخ عليّ يا كمال يا كمال!
  الولاد ماتوا بدون ما ياكلوا.
  قوم ارضع حبيبي، قوم!
  كنت نايم.
  شعرة واحدة بس قبل ما تدفنوه.
  عرسها كان الجمعة يللي فاتت، والله ما رجعنا فستان العرس لصاحبه.
  السبعة مع أمهم... السبعة مع أمهم.
  معلش!
  يا عالم جيبولي بنتي!
  أربعين سنة بشتغل عشان أبني الدار.
  كنت ناوي أعملها عيد ميلاد.
  ما تعيّطش يا زلمة!
  بيكفي يا عالم بيكفي!
  والله ما منهزّين!
  هذي مرح، بتحب الرسم كانت.
  هذي بيسان الدكتورة.
  عمر احكي بسم الله حبيبي، علّي صوتك!
  ما ضلش مكان نشرد.
  هي أمي، أنا بعرفها من شعرها!
  شكرًا يا إسعاف، بنحبكم كتير!
  والله تعبت فيه يُمّا، والله يُمّا خدت فيه ٥٨٠ إبرة عشان أخلفه!

"... فاجلس
وشاهد
ألا أيها العالم الحرُّ والمتحضّرُ
ميتتَنا الشاهقة..."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى