الثلاثاء ٨ آذار (مارس) ٢٠٢٢
بقلم فتحي العابد

أم الحسن

قصة تحكي عن واقع عاشه كثير من أهل البادية

كنت وراء شويهاتي هائما أنظر للأرض باحثا عما أشغل به نفسي حول الوادي الفارغ فقط من الماء، لكنه ملآن بالأعشاب والأحجار والأعواد وفوق كل هذا زقزقة الطيورالتي تتطاير بين أشجاره البرية المتدلية على حوافيه وكأنها تغترف من ماءه ، نزلت داخله داعيا شويهاتي للنزول للمرعى في الظل ماشيا فوق أحجاره المتجمعة في الوسط، باستثناء ناحية الجرف الشرقي، أين توجد حفر كثيرة، في كل النواحي، متفاوتة العمق والإتساع كانت تبدو لي في سن التاسعة ككهوف عظيمة مليئة بخلق عظيم من الإنس والجن.

تعطي هذه الحفر الإنطباع بأنها أطلال مدينة قديمة تشبه مطماطة، وقد يكشف التاريخ ذات يوم أن عليسة مرت من هنا، فمزارعنا وقرانا أطلال فوق أطلال، ليس لها حول ولا قرار!

أما هذه الحفر، فإنما نتجت عن حفر مخلوقات كثيرة للإختباء بل الإنجاب داخلها، وربما فكر الجد في أن يبقى ذلك الوادي بذاك الشكل وتلك الطريقة والحفركما هي لتبقى تلك المخلوقات تعزز دور الحياة، والتستر عن أسرار، وفي تلك الحفر من الأسرار الشيء الكثير.. فيها تقع غرائب الأمور بين أناث وذكور، بين الإنس والجن، في الواقع والخيال!.

كنت أنا الوحيد الذي لا يخاف من الواد لأني حفظت سورتي النمل والجن، وهو يعلم أني حفظتهما لمقارعة الخلائق الكثيرة ممن يسكنونه، أغلبها لايراها ابن آدم، وهو موحش بالليل ومخيف بالنهار. فكم من نعجة ماتت داخله وكم من كسر لامرأة أو رجل سببتها تلك الخلائق، وكلما نزلت داخله أريد أن أظهر لنفسي ولشويهاتي أن الإنسان محمي مادام حافظا للمعوذتين وسورتي النمل والجن، ومتسلح بقوة الإيمان والإصرار..

كنت أعلم أنه الوحيد حولي يعلم أني قتلت داخله الهدهد والبومة والغراب والسلحفاة وكل من حذروني في الصغر بعدم قتله، وقبضت على أم الحسن عشرات مرات.. نفس الحفر ونفس أم الحسن كل سنة، في طفولتنا أشياء كثيرة محيرة، طافحة بالبهجة في نفس الوقت!

ذات يوم من أيام الصيف، والسراب قد لبس باديتنا حول البيت حتى بدت وكأنها استعادت البحر، طردت نفسي من البيت والجميع نائم.

توجهت نحو الوادي أبحث عن ظله وعن أحجاره الكريمة التي تخرجها أم الحسن كما روي لي، لتعرضها على الشمس، فإذا بي ألمح ثعبانا، ساهدا في هدوء، لم أرى مثله من قبل، تبرق ألوانه الممتدة على حافة الوادي الشرقية، بينما تتدلى رأسه في اتجاه أرض الوادي التي تبعد عن أعلاه بحوالي ثلاثة أمتار.. كثيرا ماسمعت جدتي، والدي، والدتي، جيراننا أنه موجود ثعبان كبير الحجم داخل ذلك الوادي أخو الذي قتله أبي وابن عمه منذ سنين، وكان يقض مضجعي كيف هو؟

فثعبان أبي كان له شعر طويل ورأس مثل الكرة ولون أسود بالليل وأزرق بالنهار.. كنت أجد ثعابين كثيرة وبأحجام مختلفة، أقتل ماأستطيع، ويهرب مايستطيع، وأهرب مما لا أستطيع.. لكن ليس كما روي لي عن الثعبان الذي قتله أبي من قبل.

كان الثعبان الذي قتله أبي يرعبني ليلا دائما، وكثيرا بالنهار، حلما أو يقظة، ووالدي حسب الرواية أطلق عليه أربع طلقات بارود في الأول ولم يقتله رغم أن أحشاءه تكدست في الأرض.. مما استدعى طلقات أخرى لثنيه عن القتال، وحسب الرواية أخوه لايقل كبرا عنه، وهو ليس ثعبان فقط بل يسكنه جني يتصرف داخل الوادي كما يشاء، يختفي ويعود في ثوان ولحظات.

ملأت قبضتي بتيمومة وصوبتها في اتجاه الثعبان، وفي أقل من رمشة عين سقط على أرض الواد محدثا صوتا يشبه صوت حمارنا عندما سقط ذات مرة داخله.. كنت قد أصبته في رأسه، انتظرت أن يسكن ولايتحرك، حاولت أن أقترب منه لكن قدماي لم تسعفني، حتى ظهر ابن عمتي من فوق، ووجدني متسمرا في مكاني أتصبب عرقا كأنه ماء، وسروالي القصير مبلل، نظر في عيني، وصاح بي: لقد قتلته، أنت مثل خالي...
وجد عود غليظ حطه السيل من عل، ظل يجس جسد الثعبان من كل الجهات، فلما تيقن أنه ميت حاول جره من ذيله لكنه لم يستطع، فذهب يبحث عن من يستطيع مساعدته، وهو يحكي للجميع كيف قتلت الثعبان..!

أما أنا فقد استبدت بي الدهشة يومين متتالين أبيت أهذي، وأهب مذعورا أحيانا كثيرة من مرقدي طيلة اليومين! لم أصدق نفسي أني قتلت الثعبان الذي يحكى عنه، وبتلك السرعة!

أصبحت قاهر الثعابين، يطلبون مني تنظيم طلعات للبحث عنها في غيرانها، بعد أن صار الجميع لهم من الشجاعة والإقدام ما لم يكن لهم، ولا لغيرهم. منذ ذلك اليوم صرت بطل، أو سجين، أو صدفة للحديث عن إنجازاتي بين الناس!

منذ ذلك اليوم أخطأت الإتجاه نحو الكتاب وقصدت الحفر.. رغم أن الوقت ربيع، ربيع "دواهم" ليس له مثيل.. ربيع الصبا، تدخل حقلا فلا ترى إلا السماء فوقك، ولا شيء حولك، تسمع فقط أصوات الطيور والبهائم والناس والحشرات: زقزقة، نهيق، لغط وغناء.. كأنك غارق في بحر الألوان والأصوات.

أين ذهب كل ذلك الجمال؟ والنباتات التي كانت تغطي قامة أطول الرجال؟

يا لطول وخصب قمح وشعير ونوارالأقحوان ذلك الزمان.. ما زلت أسمع صوت القطا والحجل "توك.. توك..توك" فكيف لا تضرب عن فتح الكتاب، أتساوي تلك الأوراق رشاقة الهدهد، وألوان أم الحسن سواء حطت أم طارت؟
كانت أم الحسن بالنسبة لي بلقيس.. لمحتها حاطة على حافة الواد زاهية وسط الحفر.. هذه أم الحسن لم أرى تركيز من الألوان في طائر كما هو فيها، هذه من تغنت بها صليحة.. تحرك ذيلها بخفة عجيبة.. تمدد تارة جناحها الأيمن وتارة جناحها الأيسر، ترفع رأسها وتخفظه يتقدمه منقار حاد، وكأنها تترقب يوسف!
في ذلك الخضم ضاعت مني شويهاتي، ولم أفهم كيف أصبت بالغباء آنذاك إلى درجة أني لم أنتبه إلى عصا أمي إلا عندما نزلت على ظهري: أين الشياه؟

كان أبي قد سافر للشغل في ليبيا، وكانت أمي كأغلب النساء في ذلك الوقت التي تقوم هي مقام الرجل، متقلبة المزاج بسبب كثرة العيال وكثرة المشاغل: مرة وديعة وحنون ومرة هائجة وعدوانية كأنها امرأتان مختلفتان بشكل تام وحينما تكون في حالتها الأخيرة هذه فإن علي أن أختفي..
الحمد لله على أن الوقت لم يكن ليلا، سأجد شويهاتي في مكان ما، فوق التلة أو قطعوا الحدود إلى أرض الجيران.. فحقول "دواهم" مليئة بالنداء، وبالغذاء، طوال التسعة أشهر باستثناء فترة الصيف، وثلاثة أرباع النباتات البرية تؤكل، تؤكل نيئة.

وضعت الشويهات في الزريبة وأمي تلمحني، كانت منهكة فالحمل ثقيل، ولما اكتمل الطبيخ وضعته أمامنا.. التجأت لجدتي التي كانت تحفظ عشرات الحكايات.. كنت مولعا بسماع حكاياتها التي لم أستغن قط عن إعادتها، بل حفظها، إلا عندما بدأت أؤلف.. أؤلف حكاياتي بنفسي وأحكيها لابني، لأني أعرف كيف أصيب الثعبان، البومة، الهدهد وأم الحسن بضربة حجر واحدة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى