الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم ميار اللتقاني

أنا حنظلة

 أهلاً أنا حنظلة العلي، أبحث عن الحياة منذ فترة، بعدما تعلمت أنها ليست مجرد اسمٍ لعيشةٍ عادية.

أنا والموت ندَّان، وقفت بوجهه -للمرة الأولى- في الثالث عشر من آب ١٩٦٩م، ألقاني والدي بين الصفحات، رأيت الشوادر وسمعت الزنانات، ومع كل هذا لم أجد معنى الحياة الذي استشعرته وآمنت به.

قالها حنظلة وهو يقف وسط المخيمات، تترامى الجثث حوله في كل مكان، نادى الحياة مرةً أو مرتين حتى استجابت:

"ناديتني كثيرًا أنا أعلم، لكن ما الفائدة؟ في بلدنا لو جاز تقارب الأضداد لضاجعت الموت وكلي ثقة به، إنه أصدق الخلق هنا، وصرت -أنا- حقيقة باهتة فلا تأمل فيَّ كثيرًا".

صمت كارهًا الرد الذي لم يتوقعه، قرفص معرضًا بوجهه تجاه الخيمة، فعبست الحياة مناديةً إياه، لكن نظرته السامية -التي سعى إليها- دفعته ليصرخ بوجهها معاندًا: "لستِ الحياة، مستحيل!" قبل أن يغادر المكان.

دار في الأرض بلا وجهة، حتى وصل للشمال، وجد سلسلة جبالٍ فتعمق بينها، ثم اتخذ من سفح إحداها مقعدًا، وأسند رأسه إلى الجبل، دفن كفه وسط الرمال شاردًا حتى تنبَّه على حركةٍ بعيدة منه، نظف نفسه واقترب بحذرٍ بين الجبال حتى اتضحت له الرؤية..

 هيا يا أخي، الحرية لنا.

قالها رجلٌ ممن رأى لخمسةٍ من أصحابه الذين اجتمعوا حول فتحةٍ في الأرض، قبل أن يُلقي أحدهم ملعقةً كانت بيده، استجمع حنظلة قواه ولحقهم بسؤاله مرتبكًا: "اسمعوا أنا لست عدوكم، وأظنكم تعرفوني لكن قلتها لكم لتنتبهوا.. أخبروني، ماذا بعد الهرب دون صوت؟ أين الحياة إذًا"

لم يردوا عليه وتفرقوا كما خططوا، وخُلِّف وحده أمام الحفرة تتدافع التساؤلات داخله حتى دفعته أن يعبر النفق إلى الزنزانة وراءه، دلف يعبث بالأوراق على الأرض، بالمخططات الناقصة التي عرف منها أن الزنزانة لأسير يسمى زكريا، وأن اليوم هو السادس من أيلول، وأن الملعقة بيد الهارب كانت أداةً للحفر، فُتحت الزنزانة فتوارى الصغير خلف الباب حتى دخل السجانين وأدركوا الحادث، ثم خرج سريعًا أثناء تفقدهم النفق، ركض بين عيون المعتقلين الزائغة، حتى وصل إلى مخزنٍ من الأوراق، كان مليئًا إلى آخره بالمستندات وصور المعذبين التي جذبته بينها إلى نومةٍ بأحلامٍ قلقة -رغم طولها- ففي البداية رأى أباه يحك فمه بالممحاة، مرددًا: "سامحني يا حنظلة، العالم هنا لا يسمع لذا لا فائدة من ظهور وجهك والهتاف، يكفيك التعبير عن رفضك بيديك خلف ظهرك يا بني، واعلَم أنني سأدعك تتحدث مرةً أخرى بعد النصر، أما الآن فاحفظ أن ولدي حنظلة في العشر من عمره، صامتًا، ومنتصبًا، وسيظل هكذا حتى تعود بلاده حرة".

حاول المقاومة لكن أتم والده ما نوى متابعًا: "افهم ولا تتغابى، أنت في بلدٍ سُلبت حريتها الحياة، أصبح صوت دمارها أعلى من صراخ النساء والأطفال، أعلى من صوت صراخك يا فتى، كف عن هز رقبتك رفضًا وعِ كلامي؛ إنني عقب ما رأيت في ٧٣ اهتز يقيني بكل شيء، إلا بك فلا تخن ثقتي في فهمك".

استيقظ من نومته وزاح الأوراق الحديثة من فوقه، قلَّبها فلفت نظره تكرار تاريخ (سبعة تشرين الأول) لكن السنة في ذيل العنوان دهته أكثر فحدث نفسه: "الرابع والعشرين بعد الألفين، يبدو أنك خلفت أصحاب الكهف بنومةٍ أقصر! أيًا ما كان دعنا نرى ما كُتِب؛ «تصعيدًا غير مسبوق» يبدو أن الحياة غدت تحاول" تنهد بظفرٍ وحمل الصحيفة داخل بنطاله مغادرًا الغرفة، فسمع صوتًا يخنقه أنه تعلم لهجته غصبًا: "كانت دميتي اليوم عجوزًا جائعًا".

قهقه محدثه وهو يضع قدميه في وجه الآخر بنصر: "لا وقت لدي للدمى الفاسدة، تذوقت دماءَ فتاة بضفيرتين، أغرى بندقيتي تماثل طولهما."

تمعض وجه الأول لكن سرعان ما قام من أمام نعل رفيقه وسار في أركان الغرفة بتلذذ: "توفيق، كان جده محاربًا، قضى حياته لاجئًا ثم ناداه رغيف خبز إلى مصيدتي، هوت طلقاتي إعادة تشكيل وجهه كعروس الساحر، انطلقت إلى فمه وعينه ورجليه، ثم ألحت علي أذني أن أغير إيقاع الرصاصات فلحنت لها سيمفونية تكسير عظامه أسفل دبابتي" ثم جلس إلى جانب رفيقه ورفع قدمه على المكتب هو الآخر كنوعٍ من الظفر بتساويهما وهو يتمتم: "أنسيت من جاء برأس الغول؟"
"أبلهان".

قالتها فتاةٌ ممسكةً بسوطٍ جلدي رفيع، قبل أن ترتفع إلى المكتب وتلسع قدم كلٍ منهما مرة: "أسمعتما هذا؟ صوته على الجلود أزكى! أدخل الزنزانة على الرجل في ليلته الأولى فتأخذني نشوة تسلطي عليه، بعدما أضع الطعام أمامه ومع علمي أنه لا يطيقني أربت بيدي على خده بدمعةٍ مصطنعة وحين ينظر لي بعجب، وتنزل يده إلى الصحن، يسبقني هذا (الكرباج) إلى خده الآخر".

تعالت ضحكات الجميع فتابعت: "ليس هذا فقط، حين تنتابني رغبة أكبر أرفعه لأعلى فتُظهِر (إيلان) نفسها من أمام الباب لتكون حجة قسوتي عليه، أشير له بسبابتي أن ينتظرني لحظة، وأروح لأغلق الباب -الذي تركته عمدًا لحبك فيلمي المفضل- ثم أبدأ بإيضاح أنها كانت تراقبني لذا فعلت ما فعلت، أجلس أمام الأكل، وأشير له أن يأخذ منه، فيُسلب اطمئنان محياه حين يتذوق الطعام الجاف، فأعاود لمس وجهه المكرمش، أبصق فيمَ أمامه، ثم أودعه وأنا ألعق عرق خوفه من يدي قائلةً: "لا أحب إليَّ من طعم خوفكم يا جميل، وطالما أنتم هنا لن أموت من الجوع."

"لن أموت من الجوع"

وقعت الكلمة على أذن حنظلة كإشعار إفاقة بعد هول ما سمع.

الجوع.. الجوع كافر مهما بلغ إيمان صاحبه!

فرَّ مودعًا المساجين بعينه، متجهًا إلى المقابر يجر قدمه وخيبة رجاءه، جلس على الرمال دافنًا رأسه بين ركبتيه فسمع حوارًا -من الأسفل- عرف أطرافه جيدًا:

 عمي توفيق، أنت هنا!

= كم كنت أتمنى أن يُذاع اسمي على شفاهك يا إسماعيل.
 حبيبي، قُدِّر لك أن تسمعه في قبرك!
= أتعرف يا بني؟ بت أتساءل دائمًا، أثمَّة موتٍ دون غزة بهذا الحلى؟
 لا واللهِ يا عمي، أخبرني كيف الأحوال هناك؟
= في ذهابك عزى الجميع بعضهم في فقد جزءٍ مشترك بين عائلاتهم، وبعدها -كما عهدت- جاءت ضربةٌ أخرى شتتت الناس عن ذويهم، وأخذت في طريقها ما قدرت عليه، وها أنا ذا أتيتك بعد شهرٍ وأثق أنِّي مررت كغيري، لأن الفواجع تزداد حدة.
 التزايد متوقع، ويؤسفني أني بت أنتظر وأعي أنه إما الأصحاب هنا وإما أن تغيب رائحة الدماء معلنةً سلامًا أبديًا!
= "السلام" أتعرف أني بتُّ أحلم بتلك الكلمة فوق السبعين سنة، لم أرِد سوى العودة إلى "الحرم" قريتي العزيزة، الوجه الآخر للسلام. يُبكيك أنهم يقتلون أحلامًا بريئة لا ترفع سلاحًا ولا تزيل وردةً من أرضها.
 أتعلم؟ لقد حفظت صياح الأطفال حتى أصبحت أسمعه من داخل رأسي، يبدو أنهم بقوا -رغم موتي- أحياء داخلي.

"أحياء داخلي"

أي حياةٍ تلك التي قد يحياها ميت يا ترى؟ وأي شعور قد يحسه حيال غيره؟ هل كل الموتى كذلك؛ يشعرون بأمثالهم وبمن لم يلحقوهم أيضًا أم أن شعبي قد تميز بهذه الخاصية؟

هنا وقفت أفكار الصغير فخط "الحياة" على الرمال، حرك يده يمينًا ويسارًا تحتها، كأنه يجيب من قال: "ضع ألف خطٍ تحتها لو قدرت".

نظر إلى السماء متمنيًا لو وقف على ظهر الكون وصاح معترضًا بكل الألفاظ الممكنة دفاعًا عن الفكرة التي في نفسه لكنه أدرك أن كل شيء في عالمه منقوص، نفض الغبار عن فخذيه وتوجه إلى عين الحلوة بلبنان، حيث عاش أغلب أيامه، وفي طريقه حاول الموت إغراءه أكثر من مرة: "كان أبوك -في آخر لحظاته- مطواعًا رغم صلادة رأسه، فمن أي طينةٍ أنت لتظل هكذا؟ اسمعني، وصدقني سترتاح كثيرًا لو سمعت؛ ما مزية الحياة التي تدور الأرض من أجلها، وأنا أمامك؟ إن الحياة أكذوبة خلقها الفنانين كأبيك، لكن ها هو قد اعترف وولى. صدقني إنها مجرد نزوة، وأنا الحق الأخير، تعال ولن أشعرك بالألم".

أراد الصراخ بوجهه لكن لا جدوى من المحاولة، ركض كثيرًا حتى وصل إلى خيمته القديمة، وقف حيث أثنى (غسان كنفاني) على رسومات والده، وربت على لوحة ناجي أمامه مفكرًا: "استحققت الثناء حتى من الموت يا أبي"!
أحضر ورقةً وبدأ بالكتابة: "مرحبًا بابا، أولًا أريدك أن تعذرني.. فأنا مثل زوجتك لا أحسن الكتابة لكن أريد التحدث إليك، وقد قالتها من قبل؛ لا ينبغي للواحد منَّا أن يكون نابغةً كي يبكي على الورق، أبي أخبرني رجاءً أليست الحياة التي نقصدها صاحبة صوت مسموع، لا تهاب الموت ولا تفكر في الرضوخ له مهما حصل؟ أليس هذا ما سقيتني إياه بحبرك؟ فلم تغير الآن؟

بعد تركك إياي في حواري لندن عدت إلى مسقط رأسك كي يضمني، حزت تقديرًا كبيرًا كالذي لقيت أنت، عشت بين المخيمات سنين، رأيت الحياة تهوي قتيلةً أمامي مرارًا، ولهذا اعتقدت أني أخطأت التعرف على ما أمامي، فتلك المترنحة بالتأكيد ليست (الحياة).

لففت الطرقات بأقدامٍ حافية أبحث عن الحقيقة متسائلًا أزافت الأصول أم أنني المخدوع الغارق في مياه المثالية، وزُعزعت ثقتي أكثر حينما اعترفت الحياة التي أجابت أنها على شفا الاستسلام، لكن لحظة! كيف أجابتني لو كان صوتي مكتومًا؟ لقد كان الموت إذًا، وهذا أكثر تفسيرٍ منطقي إذ وصفني بجمود الدماغ حينما حادثني بصورته في طريقي إلى هنا..
دعك من هذا الآن، لقد فررت منه في اللقاء الأول وذهبت إلى (الجلبوع) ذلك المعتقل في بيسان، فوجدت حياةً تود التحرر، لكنها صمتت لئلا تُكشَف، ومع الأسف أُسِرت مرةً أخرى..

بعد ذلك سُلبت مني يقظتي ثلاث سنين، قابلتك فيهم بالمناسبة، وبمجرد استيقاظي شعرت بالتقصير تجاه سعيي، لكن ظننت مما رأيت بعد تصنُّتي على الحاضر أنَّ في غفوتي رحمة.

آه تذكرت شيئًا.. في جولتي الثانية بالجلبوع وجدت صحفًا تحمل تاريخًا مهمًا، كان السابع من أكتوبر، وأثناء قراءتي لها أحسست بحياةٍ تنبض داخلي، قبل أن يكتم فمها حديث الجنود الذي سمعته بعد ثوانٍ من الاطلاع، كم كان حوارًا مؤلمًا يا أبي!

ذهبت بعد ذلك إلى القبور ألهث وراء فقيدتي، قد ترى تلك الوجهة عبثًا لكنه الموت؛ لعب على أوتار عقلي جيدًا، أنساني ما قرأت، واستبدله بما سمعت منه ومن أصحابه، نسي أنه خلَّف تحت الأرض رفقةً صادقة، صحيح قد شوش على مسامعي حين أمرني بوضع ألف خطٍ تحت كلمتي، وبضحكاته بعدما هبت الريح، لكنه لم يفلح في رسم نهايتي، بابا إنكم محظوظون بموتكم، وقولي هذا ليس سخطًا على حالي، فعلى الأقل وجدت معنى لحياتي ولو تأخرت، بعد كتابتي لك شعرت برأسي وقد صارت أخف، رُتِّبت أفكاري، وتذكرت ما أنستنيه وسوسة الموت، ثم وصلت بعدها يا بابا، إن الحياة وراء كل انتفاضة شغفٍ ومقاومة، وبما أننا أهل ذلك فقد وجدتها داخلنا جميعًا، أنا وأنت، الأحياء والأموات من شعبي".

أغلقَ رسالته وقام بقلمه متجهًا لحائط الخيمة، رسم نفسه وهو يحمل صخرةً وكتبَ بجانبها: "نحن الحياة؛ لا تعبث معنا".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى