

أنا هنا
وسطَ العتمةِ التي تلتهمُ غزة، وبين جدران منزلٍ صغير يتوسط أنقاض الدمار، تسلّلت رائحة الخبز الطازج إلى أنف الطفل آدم صاحب الثماني سنوات.
في قلب ظلام المدينة الجريحة وبين قسوة القصف الذي لا يهدأ، كان بيت آدم شمعةً مضيئةً تقاوم التهجير بثباتٍ وإيمان، تمامًا كأمه التي تجلس أمام فرنها القديم، إذ تتصاعد من حرارته رائحة الخبز الدافئ، كنسمة أملٍ تعزف لحن الحياة، وكدرعٍ واقٍ يتصدى لبرودة الليل القارس ووحشة المكان.
وبينما كانَ آدمُ يرسُمُ بيتًا صغيرًا على ورقةٍ صفراءَ باهتةٍ، حلمًا بالعودةِ إلى حياةٍ طبيعيةٍ لم يعرفها يومًا، دويُّ قصفٍ هزَّ أركانَ البيتِ، صرخةُ الأرضِ المكلومةِ، أو أنينُ السماءِ التي تبكي على حالِ المدينةِ.
اتسعتْ عينا آدمَ، واحتبسَ أنفاسُهُ، شعرُ بزلزالٍ يهزُّ أركانَ روحِهِ. توقّفَ قلمهُ عن الرّسمِ، جال ببصره نحو أبوه الذي انتفض بلا انكسار إلى نافذة المنزل، ثم نظرَ إلى عيني أمه، التي تُعدُّ وجبةً ربما ستكون الأخيرةً قبلَ الرحيلِ.
كانت عيناها مليئتانِ بالقلقِ والحبِّ، تُخبئُ بينَ طيّاتِهِما حكايةَ وطنٍ جريحٍ. صوتٌ خافتٌ، يرتجفُ رغمَ محاولاتِها لإظهارِ القوةِ:
– "يا بُنيَّ، صوتُ القصفِ، لا تخفْ، نحنُ هنا معًا".
ومع ازدياد الصوت قوة، ركضت الأمُّ نحو ولدها، احتضنته بقوةٍ، كأنها تحاول أن تعطيه آخر شعورٍ بالأمان قبل أن يغيب عنها. بيد أن صوتَ القصفِ اشتد أكثر كوحشٍ يزمجرُ في الظلامِ، أو كأنشودةِ الموتِ التي تطاردُ قاطني المدينةَ بلا رحمة.
احتضنتِ الأمُّ ولدها بقوةٍ، وكأنها تسابق الزمن لتحميه من مصيرٍ وشيكٍ. وفي لحظات الأمومةِ والاحتواء، انطفأت الحياةُ بأسرها في لحظةٍ لا تُنسى. ارتجّت الأرضُ، وزأرَ الدخانُ في الأرجاء، كأنما كانت الأرضُ نفسها تئنُّ من وقعِ القصف. وتبدلت رائحة الخبز الطازج إلى سحابةٍ من الدمار يغمرُ كل شيءٍ، وتلاشت الأشياء والأصوات، وغرقَ المكانُ في ظلامٍ أبديٍّ.
وجدَ آدمُ نفسه وحيدًا تحتَ الأنقاضِ، في حضنِ أمهِ التي رحلت إلى الأبد. جسدها تحوّل إلى رمادٍ، ولكن حبّها ظل ينبضُ في أعماقِ قلبه. في تلك اللحظةِ، اختلطت آلامُهُ مع ذكرياتها، واستفاقَ وسطَ أملٍ مفقود، كأنما الحياة نفسها قد غادرت.
تحتَ الأنقاضِ، بينَ شظايا الحجارةِ ووهجِ الرمادِ، كانت الأرضُ نفسها تئنُّ من وقعِ الفاجعة. بقيَ الصغير وحيدًا، محاطًا بالظلامِ والغبارِ والرطوبةِ، يشعرُ بالعزلةِ وكأنّ الزمنَ قد توقّفَ من حوله. رغم هذا، تمسّك بالأملِ، وكأنّه وحده من يمتلكه. تذكّرَ كلماتِ أمهِ عن حبِّ الوطنِ، وكلماتِ أبيه عن الصمودِ، فاستمدَّ منهما القوةَ ليواجهَ هذا الواقع المرير.
تلمَّسَ فتاتَ الورقةِ الصفراءِ، وغبارُ الفَناءِ يكسوها، وانحناءاتُها تُجسِّدُ انكسارَ واقعٍ بينَ كفيهِ. في ظُلمةٍ رطبةٍ، انسابَ القلمُ الأزرقُ على صفحةٍ يتيمة، كانت خلفيتها منزلاً واسعًا حلمَ الطفل أن يسكنه.
كانت الورقة والقلم شاهدين على ميلادٍ أخيرٍ، أو وصيّةٍ تُخطُّ في قلبِ العدم. بدأت الحروف تتساقط ببطء، كما لو أنها تنبض بالحياة في عالمٍ غارقٍ في الصمت. بدت الأوراقُ تئنُّ بينَ أناملهِ، صدىً لارتعاشِ روحٍ قبلَ أن يخبوَ الضوءُ الأخيرُ.
"أنا آدم حسن، ابنُ العاشرةِ. لا أدري إن كانت ليَ نجاةٌ، لكنَّ العالمَ يجبُ أن يعلمَ أنَّنا هنا، وإن سقطتِ البيوتُ. علَّمتني أمي أنَّ الوطنَ ليسَ حجارةً، بل نحنُ، حاملو الحكاياتِ في القلوبِ. إذا صادفَ أحدُكم هذهِ الكلماتِ، فليُخبرَ الجميعَ أنَّنا لم ننحنِ... وأنَّ غزةَ عصيَّةٌ على الموتِ."
طوى الورقةَ، خبَّأها بينَ أناملهِ، الأملُ رفيقُهُ الوحيدُ في رحلةِ الكلماتِ. استسلمَ لنعاسٍ ثقيلٍ، ربَّما لأنَّ الألمَ قد خفَّ، أو لأنَّ الليلَ قد ابتلعَهُ تمامًا.
وفي مكانٍ بعيد، وسط أكوام الركام، سمع صوتًا خافتًا، طرقاتٍ على الأنقاض، ثم نداءً يتردد:
– "هل يسمعني أحد؟"
تجمّدت أنفاسه للحظة، تحرّكت أنامله ببطء، وطرق الحجر بصوتٍ واهن:
– "أنا... هنا."
ارتفع النداء من جديد... استجمع كل قواه وصرخ:
– "أنا هنا!"
ثم فجأة، انشقت العتمة عن يدٍ تمتدُّ إليه، ترفعه نحو النور.
مرت لحظات ثقيلة قبل أن يتسلل شعاعٌ خافتٌ عبر الشقوق، وأصابع تمتد نحوه. شعر بأن الحياة تعود إليه من جديد، لكن الضوء كان ساطعًا، أقوى مما يحتمل، وأحاطه دفء لم يشعر به منذ زمن. حاول أن يتنفس، أن يتشبث بالحياة، لكن جسده كان أضعف من أن يحتمل... استسلم لوهج النور وغاب عن الوعي.
بين أروقةِ المستشفى، استيقظَ آدمُ من غيبوبةٍ طويلةٍ، كأنَّهُ يعودُ من رحلةٍ إلى عالمٍ آخر. كانت عيناهُ تتجولانِ ببطءٍ، تستكشفانِ المكانَ، بينما صوتٌ دافئٌ يهمسُ باسمهِ.
– "آدم... أنتَ هنا... أنتَ بخير."
التفتَ إليهِ، فرأى رجلًا غريبًا، لكنَّ عينيهِ كانتا تفيضانِ بحنانٍ غريبٍ، كأنَّهُ يعرفهُ منذُ زمنٍ بعيدٍ.
– "رسالتكَ وصلت... إلى كلِّ مكانٍ... العالمُ كلُّهُ يسمعُكَ الآن."
تلك الكلماتُ كانت كشرارةٍ أشعلتْ في قلبِهِ لهيبًا خافتًا، شعورًا غريبًا بالأملِ، كأنَّهُ لم يعدْ وحيدًا في هذا العالمِ. شعر بدفءٍ خفيف في قلبه، تذكر كلمات أمه حين قالت له ذات يوم: نحن الوطن، والوطن لا يموت.
سأل الرجل عن والديه، بصوت مرتجف، كأنه يخشى سماع الإجابة:
– "أين أمي؟ أين أبي؟"
نظر إليه الرجل بعينين دامعتين، ثم قال بصوت حزين:
– "يا بني... لقد رحلا... لقد أصبحا في مكان أفضل الآن."
لم تستوعبْ روحُه الصغيرةُ هذا العبورَ المُفاجئ؛ كيفَ يرحلانِ هكذا؟ كيفَ يتركانِ قلبَه الغضَّ يتيماً في هذا العالمِ الشاسع؟
صرخَ آدمُ صرخةً شقَّتْ سكونَ المكانِ، وبكى بحرقةٍ، كأنَّهُ يفرغُ كلَّ ما في صدرهِ من ألمٍ مُتراكمٍ. وبينما كانت دموعُهُ تهمي كالمطرِ، عادت إليه ذكرياتُ الليلةِ المشؤومةِ، كأنَّها شريطٌ سينمائيٌّ يُعرضُ بلا انقطاعٍ أمامَ عينيهِ.
ارتجفَ جسدُه الصغيرُ تحت وَقْعِ الذكرى، وأصواتُ القصفِ تعصفُ بأذنيه، والأرضُ تهتزُّ بعنفٍ تحتَ قدميهِ. رأى أمَّهُ تحتضنُهُ بقوةٍ، تتمتمُ بكلماتِ الدعاءِ، كأنَّها تودِّعهُ بنظراتِها الأخيرةِ، تُخبئُهُ في حنايا قلبها قبلَ أنْ تسرقهُ الفاجعةُ منها. مرَّت عيناهُ الدامعتانِ نحو أبيه الذي كانَ يُحدِّقُ في النافذةِ المكسورةِ، عيناهُ تفيضانِ بالقلقِ والخوفِ.
كان آدمُ خائفًا، لكنَّهُ جاهدَ ليبدوَ قويًا، ليطمئنَ قلبيهما، ليُخفيَ دموعَهُ التي كانتْ كالجمرِ في عينيهِ الصغيرتينِ، غير أنَّ وجعَ الفقدِ كانَ أكبرَ من أنْ يُحتمَل.
في الأيامِ التالية، تدفَّقتِ الأخبارُ إلى غرفتِهِ الصغيرةِ كسيولٍ جارفة، تحملُ معهَا أصواتًا وصورًا لم يكن يتخيَّلُها.
الصحفُ، القنواتُ التلفزيونيةُ، ومواقعُ الأخبارِ كلُّها كانت تتحدَّثُ عنهُ، عن كلماتِ رسالتهِ التي انطلقتْ من تحتِ الأنقاضِ، عن غزةَ التي نزفتْ حروفَهَا وجعلتْ العالمَ ينصتُ أخيرًا. صُورُ المظاهراتِ في المدنِ البعيدةِ، حملاتُ التبرعاتِ لإعادةِ البناءِ، اللوحاتُ الفنيةُ، القصائدُ التي استُلهمتْ من كلماتهِ... كلُّها كانت شهادةً على قوَّةِ الكلماتِ، على قدرةِ الأملِ على اختراقِ الحواجزِ والأسلاكِ الشائكةِ.
كان الناسُ يأتونَ لزيارتهِ، يحملونَ الهدايا والرسائلَ، وأعينُهمْ تبرقُ بأملٍ جديدٍ. كانوا يخبرونهُ أنَّ قصتهُ منحتهم القوةَ، وأنَّهم تعلَّموا منهُ أنَّ الصمودَ لا يُقاسُ بالحجارةِ، بل بالقلوبِ التي تأبى الانكسارَ.
وذاتَ يومٍ، جاءتْ إليهِ امرأةٌ تحملُ طفلًا صغيرًا، كانتْ عيناها تفيضُ بالدموعِ، لكنَّ صوتَها ظلَّ ثابتًا، قويًا.
– "ابني اسمهُ آدم... سميتُهُ على اسمِكَ... أنتَ أملُنا... صوتُنا."
في تلكَ اللحظةِ، شعرَ آدمُ أنَّ كلماتِه لم تكنْ مجرَّدَ رسالةٍ تُنقلُ عبرَ الشاشاتِ، بل كانتْ وعدًا، وعدًا بأنَّ غزةَ ستنهضُ من بينِ الرمادِ، وأنَّهم لن يستسلموا أبدًا، وعدًا بأنَّ العالمَ لن ينساهمْ، وأنَّ أصواتهمْ ستظلُّ تتردَّدُ في كلِّ مكانٍ.
كانتْ كلماتهُ كبذورٍ زُرعتْ في قلوبِ الناسِ، بذورًا للأملِ والصمودِ، بذورًا ستنمو يومًا ما، وستزهرُ رغمَ الدمارِ، لتعيدَ بناءَ ما هدمتهُ الحربُ، وتُحييَ الأملَ في قلوبِ من فقدوا كلَّ شيءٍ، عدا الإيمانَ بالحياةِ.
وبينما كان آدم ينظر إلى الطفل الذي يحمل اسمه، تساءل في قلبه:
– هل ستتحقق رسالتنا؟ هل سيتذكر العالم غزة؟ هل سنتمكن يومًا من بناء غزة جديدة، خالية من الدمار والألم؟