الجمعة ٦ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم محمد نادر زعيتر

أنا ... والكتاب

يا أيـّها الكتابُ كيف أنني

أنسى وداداً كان يوماُ بيننا

تخصص لي في المنزل الذي أقيم فيه جناح فيه غرفتان متجاورتان، اتخذتُ إحداهما ما يسمونه مكتباً وأسميه "صومعة" فيها حياتي المستقلة: تلفاز، خطا هاتف إلى جانب الجوال، حاسوبي المزود بالاتصال الشبكي الدائم، والآلة الطابعة الحديثة، وحقيبة فيها المستندات العائلية, وساعة حائط كبيرة، وطاولة متوسطة الحجم تبعثرت عليها أحدث الكتب اطلاعاً وأوراق وأقلام، وزودت الغرفة بكرسيين لجلوس الزوار الخاصين جداً، وفي الغرفة مفرش يصلح كمقعد خلف الطاولة التي ترسّخ عليها الحاسوب كما يصلح كسرير للنوم، إذ إنني أنام مستقلاً وأنى أشاء.
أما الغرفة الثانية المجاورة للصومعة المنفتحة عليها فتضم خزائن فيها كل الموسوعات والكتب التشكيلية ومؤلفاتي ومحاضراتي ومخطوطات مرجعية وكل اللوازم: مواعين ورق الطباعة، القرطاسية في أدراج، جهاز تصوير حاسوبي، طاولة مكتبية خشيبة فخمة من الطراز التراثي تعود لنصف قرن وعلى سطحها زجاج سميك، وكرسي برام حديث. لاحظت أنه بدأت تتسلل لهذه الغرفة مدخلات غير متجانسة مع الموجودات الثقافية من مثل لوحات وآثاريات ودزينة كراسي الحديقة البلاستيكية وقد رصفت فوق بعضها ، ووضع فيها وبشكل فظ منشر الغسيل أيضاً، هذه الغرفة أصبحت تمثل الفوضى التي غصّت بها وكادت تنوء بها وطفح الكيل كما قالت زوجتي....

ــ يجب عليك جرد هذه الغرفة واستغن عن ما لا يلزم ولن يلزم،
ــ هذا كلام صحيح! لكن كيف يتميز ما يلزم وما لا يلزم؟

تكرر الطلب وصار إلحاحاً وصار واجباً عنيفاً وعاجلاً. أذعنت للطلب وكان أول المهمات أنني تبرعت بالطاولة العتيدة ذات الأدراج الثمانية لمكتبة الرضوان فاستقبلوها بالشكر الجزيل، وتخيلت وأنا أشاهدها محمولة من قبل أربعة أشخاص كأنما هي النعش المغادر، شيّـعتها بتنهد من الصميم وبدمعة لم أُشْعِـر بها أحداً، بلى فقد كانت السمير في دراستي ودراساتي لأكثر من نصف قرن، أما زوجتي فكأنما انزاح عبء ثقيل.
جاء دور الكتب....
ــ يا ألله أي كتاب ألقيه في الهباء؟ الكتب المقروء منها كان الزاد، وغير المقروء هو المعاد.
ــ هذا المخطوط الذي داخله الغبار لمَ؟ قالت زوجتي التي رجوتها أن تبتعد عني مؤقتا وتتركني في مصيبتي، كانت أكثر الكتب عن مسألة اليهود إذ أنني معني بتاريخهم وحراكهم منذ أن اتجهت للثقافة.
تراكمت في كومة على عتبة في الحديقة المتواضعة بعض الكتب المرشحة لتنفيذ أحكام الإعدام ، وساعدتني زوجتي بأن جلبت كيساً أسود كبيراً كي ألقي فيه ــ كما الفضلات ــ بالكتب التي ستغادر الحياة نهائياً بلفظها خارجاً في مجاهيل المصير.

وكان سجال بين أصدقاء بلغة أخرى
ــ يا هذا الكتاب العزيز، كيف لي أن أتخلى عنك؟ فيك بعض العلم المفيد هل من الوداد أن أودِّعك هكذا؟
ــ مالك متردد متردداً ! إنه لن يكون مآله بأفضل من الغوالي الراحلين الذين يتواردون نحو الغيب دون أسف.

وأنهتْ [1]] المشهد بأن بادرت لنزع الكتاب من يدي ورميه في الكيس، وطلبت الاستمرار بتصفية الكتب الأخرى تباعاً.
ووقع في أسري كتاب آخر
ــ ألم أزودك ببعض مكنوني من العلم نسخته في موسوعتك "أشد الناس عداوة" فكيف تجافيني بالطرد المهين؟
وكتاب عن السامية:
ــ ألم أكن معينك (بضم الميم أو فتحها) وتباهيت ذات يوم بما قدمت وتقدمت في موضوع السامية؟ وكررت المحاضرة ذاتها في دير الزور واغتبطت بالثناء عليك.
موسوعة عتيقة عن الروح، أكثر من 3000 صفحة:
ــ يوم عثرت عليَّ في مكتبة قديمة فرحت نفسك أيما فرح، وقلت كما أرخميدس وجدتها، فكيف تسمح ذات نفسك الآن أن تلقي بي في العراء وأنت الذي استحلبت موسوعتك الروحية الشهيرة التي تعلن حالياً في مول كبير في المدينة من صفحاتي؟

دفتر فيه قصص اجتماعية:
ــ أنا نتاج فكرك ولا تزال تقتنص مني الحكايا صغتها في مؤلف "عواطف وعواصف" كيف تقبل أن تكون أوراقي في مهب الريح؟
مجلد ديني:
ــ لا لا أسمح لك أن تبددني، ابحث عمن هو أقرب لله منك، أيها الجاحد إن فعلت! امتثلت بأن أعدت حفظه .
كتاب في النحو:
ــ كم مرة عدت إليَّ وأنقذتك، ألست الصديق منذ كنت في الجامعة، بل قبلها يوم كان المرحوم والدك يحفّــظك ألفية ابن مالك أنا لا أتغير وعلمي هو هو، أقلع عن الجفاء يا صاح، وصاح منادى مرخم " ترخيماً احذف آخر المنادى * كيا سعا فيمن دعا سعادا" [2]].

كتاب في التاريخ:
ــ بعد أن اهترأت صفحاتي من كثرة تقليبها، الآن تستغني عني ! التاريخ لا يتغير، لكن الإنسان هو الذي يتغير.
وهاهو كتاب في الحب "طوق الحمامة" للأندلسي:
ــ أنا الحب الذي انطلق من الأندلس وشاع في الغرب ولا يزالون يستمتعون به ويعرفون الحب على غراره وينسجون الشعرر على منواله
الكتاب الأصفر بأجزائه السبعة لابن عبد ربه الآندلسي/ العقد الفريد/:
ــ أيها العاق أتهجر كتاباً ورثته عن والدك المرحوم؟ أتذكر أنه قال لك هذا هو الجامع: أدب ونحو وبلاغة وعروض وتجويد وخطب وحكم وتاريخ وحكايا الغابرين، ألأنني أصفر قديم؟ أليس في صفار البيض الغذاء دون بياضه، أليس الأصفر شعاغعً للشمس البهية ولوناً للذهب سيد المعادن، أوليس كلما عتق كان أثمن؟

استغرق الحوار وقتاً لا يقدر،
وزوجتي تركتني بعد أن ملَّـت من الانتظار وأنا أصغي لحوار فريد لم أستطع أن أقاومه. وشعرت بالحيرة والحرج فيما أنا مقدم عليه.
لقد امتلأ الكيس الأسود بالكتب، وصار جاهزاً أن يرمى به في حاوية القمامة في الشارع العام في جنح المساء.
ربطته زوجتي بإحكام، ساعدها حفيدي في حمله وأنا مطرق التفكير فيما أقدمت عليه.

تابعت عن كثب مسيرة الرحيل باكتئاب ظاهر وعبرات قلبية حرّى وِشعور كما الغمام إذا ران على الجنان أن تؤول هذه الذخيرة إلى البوار.
أمرت زوجي حفيدها أن يصعد على درجات السيبا السلم ويودع الكيس في السقيفة بدلاُ من طرحه خارجاً مثل النفاية، وذلك....إشفاقاً علي!!!

وعدني حفيدي أنه سوف يحضر أي كتاب مما في الكيس أحتاج إليه لاحقاً.

يا أيـّها الكتابُ كيف أنني
أنســـــى وداداً كان يــوماُ بيننـا
كتابيَ العـزيزَ لا عدمتكَ
يا صنوَ روحي يا جليسي الغاليا

حضر ابني الطبيب وفيما هو يتطلع إلى كتاباتي رأى هذا الكلام فتأثر وعاتب أمه التي أنكرت كلياً، وقالت ألم تر أباك صار شاعر هذه الأيام، والله يقول عن الشعراء أنهم في كل واد يهيمون!

ركبني الغم، واشتد بي القهر، ما عدت أحسن التصرف، أحسست برعشة في يدي، انتابني قلق شديد، ثمة نخزة حادة في صدري، عند الطرف الأيسر، اتصلت بابني، وصفت له الحالة، وهو طبيب قلب، قال لي: لا تقلق، سوف آتي حالاً.

وفور دخوله سأل أمه:
ـ ما الذي جرى مع أبي في هذا اليوم؟

أجابت بكل بساطة وعفوية:
ـ أنا وهو جمعنا بعض الكتب القديمة التي لم يعد بحاجة إليها، ورفعناها إلى السقيفة.
وتدخلت أنا غاضباً ويدي ترتعش:
ـ وبعضها وضعناه في كيس أسود، وركنته أمك في زاوية الحديقة، وغداً في الصباح الله أعلم ماذا يحل به.
ضحك ولدي وقال:
ـ لا تقلق، قبل أن أقيس ضغطك تفضل معي.
ومضى إلى غرفتي، قعد أمام الحاسوب، واتصل بالشبكة العالمية، ثم سألني:
ـ أي كتاب تريد
فوراً قلت له:
ـ طوق الحمامة
قال لي:

ـ هنا أمامك على شاشة الحاسوب عدة نسخ من طوق الحمامة، يمكنك أن تختار ما تشاء، ويمكن أن تجعل الخط بالحجم الذي تريد، لا تقلق، كل الكتب التي في السقيفة، بل كل كتب العالم، موجودة هنا بين يديك، هل تريد ثمانية ملايين كتاب؟ مكتبة الإسكندرية كلها هنا.
ونهض من وراء الحاسوب، وقال لي:

ـ تعال الآن لأقيس ضغطك.
قلت له وأنا أقبل وجنته:
ـ شكراً، لا ضرورة، لقد شفيت.
ثم همست في سري:
 
يا أيـّها الكتابُ كيف أنني
أنسى وداداً كان يوماُ بيننا

[1حذف علامة السكون لأن التاء هنا متحركة بالكسر للالتقاء الساكنين

[2[حذف لا داعي للشرح


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى