

أنشودة ثورة الصقور
العشق في المعارك؛ لا يجرؤ عليه إلَّا من وهب نفسه في سبيل أرضه، ودنا بروحه محلِّقًا كما طائرات الحرب، وجسده صوب القبر ينوء حاملًا وردة عشقه الآفلة!
كثرٌ يذكرون صبيحة يوم الثالثَ عشرَ من نوفمبر القادم بغيث السماء، لكنَّه تلك المرَّة من عام 1966 جاء ساقيًا للأرض، محمَّلًا بقطرات الدماء، تلك التي سالت طُهرًا على أطراف قريَة السمُوع، بينما قوَّات بني صهيون تحشد عصاباتها حولها؛ تمهيدًا لاحتلالها، وجنودهم بين بساتينها في لهوٍ، وضبَّاطهم يشدُّون أزر متعتهم! يومها، كان ضابطًا ينادونه «شمعون» يسوق كالبهيمة جنديًّا لا يمكن وصفه إلَّا من زمرة الأغبياء، تفوح منه رائحة نتنة لم يستطع قائده تحمُّلها؛ فأسرع في خطاه أمامه مخمورًا هو الآخر، يرقصُ على صراخه، وكان اسمه الجندي «يائير». جاءا برفقة عصابة للسموع يحملون دلال الخمر، وقبح الفكر، ومجازر البطش!
سأل يائير سيّده شمعون لمَّا ثمل: «لمَ يا سيّدي نشرب الآن؟ فلننتظر النصر».
هذا ما جعل أثر الكأس يطير من رأس شمعون؛ الذي اتهمه بأن أمثاله الأغبياء، هم من يثبتون للعالم أن الصهاينة يخسرون ولا ينتصرون؛ مشددًا عليه إن سألته صحفيّة عن رأيه في الحرب؛ أن يتظاهر بالموت. لكنَّ يائير بقي يمشي وهو يفكِّر بنصيحة شمعون، إلى أن فاض به الصبر، فاقترب من قائده آملًا مصادفة الإجابة التي ترجوها نفسه:
«ولكن يا سيِّدي، إن تظاهرتُ بأني ميِّت، فكيف سأخبرها بأن تذهب إليك لتبلغها إجابة سؤالها؟».
– هل حقًّا تفكِّرُ جليًّا في هذا الأمر؟
– ولمَ لا أفكِّر يا سيّدي؟ فجنديُّك يائير من الأشاوس، وهو أحد دهاة الحرب، وهذا ما يجعلنا في كل مرَّة نفشل.
جُنَّ جنون شمعون، ومن فرط سكره؛ أمسك بيائير من عنقه قابضًا عليه بشدَّة، صارخًا وباصقًا بوجهه «يا لغبائك المستفحل! نحن لا نفشل، نحن الصهاينة نخسر فقط» ثمَّ جلس شمعون أرضًا يلهث ككلبٍ فوق بئر جافٍ، نادبًا حظَّه أنه ما خاض حربًا إلا وجنوده فيها مصنَّفون من فئة العاهات، والإعاقات الشديدة؛ متوعِّدًا يائير إن لم يكسب الحرب؛ فسيقتله كما هم غيره، ويشيع أن العرب هم الجناة!
استنكر يائير وصف شمعون، وكيف أنَّه يراه غبيًّا، وهو نسل أحد الذين احتل أرض فلسطين؛ فأفحمه شمعون بقوله: «البطن بستان يا يائير»، ثمَّ أشعل غليونه بخنوعٍ، وقد داهمته رياح السموع الصادقة، فراح ينصح يائير بأن لا يغرنَّه حماقات جيش منظمة الصهيونيّة؛ لأنّها تضحِّي بأبنائها في سبيل مصلحتها، والهيمنة الاقتصاديَّة هي لعبتها منذ البداية، وتجارتها حتمًا رابحة. ثمّ أخرج قنينة خمره وشرب بقيتها؛ فنحب وهو يبوح أنهم جنود الجيش وضباطه ما هم إلا أدوات للقتل فقط، ومن يجلسون على مقاعدهم في الموساد؛ هم من يلعبون بالجنود في شطرنج خريطة العالم. وبينما هما كذلك؛ هبَّت مجموعة من الأطفال عليهما، يرشقانهم بالحجارة كأنهم يرجمون ضبعًا يأكل جيفة. قذف أحد الصبية حجرًا فكان كقذيفة فوق رأسهما:
«ولكوا والله غير جيشنا هلكيت يوكلكم أكل».
وقال صبيٌ آخر بدى ملوّحًا بزجاجة:
«استنوهم إذنّكم زلام، هيهم نازلين علينا، مش مطولين».
وبعد أن أُصيب يائير بحجر في رأسه؛ قال أصغرهم:
«طياراتنا رح ترفرف فوق روسكم، خليكم بس شوي».
وتنبأ يائير أن الحرب بدأت فاقترح الهرب؛ وراح يركض بين البساتين، فركض خلفه شمعون ليردعه؛ مخبرًا إيّاه أنه من الجنود، يلطم وجهه بيديه، ويسأل الدنيا برجاء غريب:
«ماذا فعلتُ في حياتي ليتمّ بلائي بيائير؟!».
ومن علٍ؛ ظهرت طائرة F16 يقودها صقرٌ طيّار اسمه «موفّق السلطي» وراح يزلزل الأرض تحتهم بقذائف طائرته، مُقسمًا ألّا يعود إلا شهيدًا أو منتصرًا. معلنًا لرفاقه البواسل أن السمّوع هي عيناه وريحان قلبه، وأطفالها ورود حياته. ثمَّ راح يوجِّه صديقه الطيّار «جاسر» بأن يكون درعًا فوق جنوبها؛ فاستجاب سمعًا وطاعة وحبًّا للأرض، ثم خاطب الطيّار «إحسان» بأنّ له شمالها وينابيعها، وليكن غضبًا على أعدائها، أولئك الطامعين في الجلوس تحت فيّ أغصانها؛ فرد عليه: «سأصطادهم كما الأسد الذي يطارد فريسته». وأوصاهما «موفق» بأن يغرسا علم العروبة فوق قمم السموع الباهية!
اشتدّ عود الصباح؛ فخرج أهالي سمّوع يرحِّبون بطائرات الجيش، يشيرون لأبطالها بالتحيّة، ونسوة في الخلف يزغردن، وعجوز يحييهم ويهجو الأعداء:
«فليحمِكم الله بعينه التي لا تنام، أرهبوهم، أرهبوهم».
وصاحت امرأة تحمل رضيعها:
«مرحبًا بحماة العِرض والشرف، أنا أختكم ابنة القرية».
ثمَّ أبلغ الطيّار «موفق» زملاءه؛ أنهم ها هم؛ أهل السمّوع أهلهم؛ يهللون ويرحبون، فلتكن تحيتهم عليهم نصرًا؛ لأنَّ رباط الدمِ والعروبة لن يهون، وحجارة الأطفال قذائف أرضيّة، وعصيُّهم كالرماح العصيَّة.
بدأ الرصاص فعله المُرعب، وهرع الناس من كل صوبٍ إلى منافذ الأمان. لاحظ الطيّار «موفّق» أن الصهاينة يمارسون الخداع؛ لأن قسمًا منهم راح يتسلل إلى مدينة «يطا» كما استوضح من رفاقه؛ فأخبره «إحسان» أنّهم يريدون تشتيتهم في فرق، ثم يهجمون فجأة. وأكَّد «جاسر» أن مرادهم قرية السمّوع إن صدق حدسه. ثمَّ ناجت المرأة العجوز ربَّها:
«اللهم إنّي ناجيتك، فاجعلنا وهؤلاء الصقور من أهل بيتك».
وقال زوجها وهو يسندها: «واقذف أيّها القديرُ في قلب أمهاتهم سكينتك المُثلى» وفرحًا بطائرات الجيش؛ لوّح طفلٌ لها يخاطبها:
«عندما أكبر؛ سأصبح طيّارًا، وستكون أمّي الحنونة؛ والدة الطيّار الشهيد!».
أشرقت شمسُ الحصاد، آمرةً المُدافعين عن أرض السمّوع؛ تجهيز مناجلهم القاطعة؛ ليزرعوا من بعدها بذور الحريَّة، وليكونوا حُصَّادًا لكل من أراد النيل من عفَّة حُرَّة، ويجعل الأطفال عبيدًا. وهجم الصهاينة بسرب من الطائرات يحاربون أهل السمّوع المسالمين؛ فأمر «موفّق» بتفريقهم كالذباب عندما يُهاجَم؛ ليشتت وحدتهم المهزومة، ويصطادوهم كالفئران. ثمَّ وجّه قذيفة بنكهة الهزيمة لطائرة ميراجهم المحلّقة، معلنًا أن لن تُهزم أرضٌ تكسوها الهمم. لكنّ الصهاينة لا يؤمنون بالمواثيق والخلق؛ فسرعان ما لمح الطيَّار «إحسان» أفراد ضباع العصابات الغدارة تحاول افتراس أشبال قرية السمّوع، ثمَّ أمطروهم بوابل من رصاص، محاولين طي تاريخ القرية برصاصهم النجس؛ فسقط الرجال والنساء ولم يحتمل فراقهم الأطفال!
وقتذاك؛ هرع سرب طائرات الجيش في قصف الصهاينة أرضًا وجوًّا؛ فصاروا يهربون أمامهم كالجرذان، فارّين جميعهم، تلطّخ جباههم حبّات عرق جبينهم؛ فهلَّل الناس ببكاءٍ فرحًا لردِّ العدوِّ، وخسارة الأحباب في آن واحد. وبعد تأمين المنطقة، وخلوِّها من الصهاينة؛ عاد سرب طائرات الجيش إلى القاعدة للتزوّد، إلّا «موفّق» بقي محلِّقًا يرقب الأجواء خشية الغدر والمكيدة، ولمَّا اطمأن قلبه، خاطب السمّوع وأهلها مودّعًا:
«آن لي الآن المغادرة، ما أغلى تُرابكِ على قلبي!».
لكنَّ القدر محتوم لا محال، والموتُ دفاعًا عن الأرض شريعة الأبطال؛ فقد لمح طيّار صهيوني من بعيد طائرته؛ فوجّه نداءً عاجلًا إلى جميع طائرات ميراج:
«الطيَّار قائدهم في المصيدة، حاصروه فورًا وبحذر».
ثمّ هاجموه من كل صوب وحدب؛ ليقتلوه، وراح طيَّار «الهوكر هنتر» يجوب السماء فوقهم، يقذفهم من علٍ، ومن بين الجبال يجود براعة مثل طيور الأبابيل. وتنفّس قبل ربوة صعداء الشهادة، شاعرًا أنَّ اليوم عُرسه في السماء، ورأى أمَّه تزغرد وتقترب من بعيد، تناديه
«تعال، فعرسك فوق سمّوع».
تجاوز الربوة قائلًا:
«قسمًا لن أبرح سماء سمّوع، إلّا منتصرًا أو أكون من المستشهدين... كأجدادنا نحبُّ الموت في المعارك على أن نُهان».
قذفوا طائرته؛ فزُفّت روحه إلى السماء، بينما الصبية يلهون بألعابهم فرحًا بالنصر!
تمّت.