الثلاثاء ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم هيثم أبو الغزلان

أنفاسُ الموتى

تهتزُّ القاعة الواسعة في المستشفى المُتهالك، كأنّ ريحًا تُوجّهُها في كلّ الاتجاهات. لم نغادر المكان القريب من المخيم قبل بدء استهدافه بالقصف، ظنناه مكانًا آمنًا، إلى أن بدأت أنفاس البشر تختلط مع بعضها، أو تختلط مع أنفاس الموتى المُنقطعة!

يختلط كل شيء أمامنا حتى الموتى يجدون مكانهم هنا بيننا، يُزاحموننا على حيّزنا الضئيل. لا تتوقّف الأعين عن الدوران، والأنفاس تلهث خوف الانقطاع، والرجاء متّصل بمن يستطيع المساعدة. تَسَمَّرت في مكاني أحمل طفليَ الرضيع، وإلى جانبي يقف شقيقاي "عامر" و"سميرة" اللذان تركهما والداي في عهدتي، قبل وفاتهما بسنوات قليلة من الاجتياح "الإسرائيلي".

في الممر الطويل، يلفظ فتى أنفاسه الأخيرة بالقرب منّا، وتزكم أنوفنا رائحة الجثث المحروقة والمكوّمة فوق بعضها، بينما الجرحى المُقطّعة أوصالهم يتألمون ويصرخون، ورائحة الموت والقذائف تحتلُّ المكان والأنفاس. تدور الأعين خوفًا ورعبًا، وتنكتم الصرخات، كأنّ الكلَّ يقول: اللهم نفسي. اللهم نفسي. فالوقت لا يتّسع للحزن الممتدّ، ولا لأيِّ فعل غير محاولة النجاة التي تقترب من المستحيل! صرخات خليل التي كانت تجلجل في المكان بدأت بالتوقّف تدريجيًا! من ينتبه في ظلِّ ما يحصل لطفلٍ إن بكى، أم لم يبك؟!

..يقترب الموت منا أكثر مع كل انفجار قذيفة، لكأنّه جندي يتربّص من كل نافذة ضوء تُحدِثُها قذيفة، أو كوحشٍ برّيٍّ يحمل سيفًا وينتظر الهاربين من جحيم الموت ليقضي عليهم واحدًا تلو الآخر. لعلّه وحش سينقضّ على الموجودين، أو سيقتحم المكان من باب، أو نافذة، أو لعلّه يُدمّر المكان فوق من بقي من الأحياء.

ضممت رضيعي ذي الأربعين يومًا إلى صدري، فَشَعرت بأنفاسه بدأت بالتغيّر! وبتُّ أفتقد صوت بكائه الذي كان يملأ المكان. لعلّه نائمًا.. قلتها وأنا غير مقتنعة، فصوت بكاء شقيقتي التي تتعلق بثيابي أنساني أنفاس رضيعي. فتحسّستها وحاولت طمأنتها، لكنها لم تشعر بالأمان!

تنير القذائف المكان المظلم، وبعضها تخترقه مُحدِثةً فجوات جديدة، فينتثر الزجاج، وتنتَشر الجثث، وتزكم رائحة الموت الأنوف، في جحيم يسمع كل من فيه حسيسه!

توقّف القصف برهة من الوقت، قبل أن تنفجر قذيفة بالقرب منا، جعلتنا نتحسّس رؤوسنا، بينما كان شقيقاي ينوحان من شدّة الخوف!

فكّرت في الهروب، ولكن هل نهرب من الموت، أم إليه، وهو إلينا أقرب؛ فبين الموت المُحقّق هنا، والهروب غير الآمن، لا توجد إلا قذيفة أو رصاصة، أو ربّما صاروخ من طائرة لا تغادر السماء، أو بارجة في عباب البحر تُحوّلنا صواريخها صيدًا ثمينًا لها. في تلك اللحظات، كانت الأنفاس تتلاشى، والرعب يستمرُّ بلا انقطاع!

يتوقّف القصف لبعض الوقت، فتزداد حركة الأحياء، الكلُّ يركض بلا هدف، ويسير في كلِّ الاتجاهات، كأنّ القيامة قامت هنا، فلا يسأل الحميم عن حميمه.. لم تعُد عيناي تُصدّقان ما تريانه، فمن خلال دائرة واسعة أحدثتها قذائف مُتعدّدة في جدار سميك من جُدر المستشفى؛ اختلط كل شيء في المكان؛ النار والنور والأنفاس في مشهد ترى فيه الموتى يخرجون من بيننا، والأحياء يمضون بكل خوف إلى مستقر الموت هربًا من حياة غير آمنة!

استبدّت بي حيرةٌ قاتلةٌ: هل أُترك رضيعي في أرض المستشفى وأغادر؟! أم أصطحبه معي وأدفنه في مكان آخر؟! كان قلبي ينخلع من مكانه، حين أنظر إلى وجهه الملائكي، وأتساءل:

هل كان يحلم بحياةٍ مثل هذه الحياة؟!

..تناهَت كلماتي إلى مسامع جارتي، التي فقدت زوجها أمَامَنا قبل ساعات قليلة، فقالت:

الكل بدّو يموت.. والموت علينا حق.. صغار أو كبار كلنا ميتين، بالأمس كان زوجي معي ومع الأولاد، وهيّو اليوم أمامنا مش قادرين ندفنو..

قالت كلماتها قبل أن تواري دمعًا فرّ من عينيها.

أشحت بنظري عنها، وقلت:

الله بعين.. وحدّثت نفسي مجدّدًا: هل من المجديَ البقاء، أم علينا المغادرة سريعا؟!

..لبرهة، اتّكأت على ما تبقّى من حائطٍ في زاوية الغرفة، أحمل رضيعي بين يدي، وإلى جانبي يقف شقيقاي، وأنا أحاول الحفاظ على ما تبقّى من قواي، بعد ليلة طويلة من القصف لم نذق فيها طعم النوم، لكن انهمار القذائف مجددا، دبّ الفوضى في المكان كله.. وصارت النظرات الخاطفة مجبولة بالخوف والشفقة، وفي صدري غضبٌ تنوء بحمله الجبال!
لم يعد أحد قادرًا على التقاط أنفاسه في ظل القصف العنيف الذي جعلنا كالفراش المبعوث!

كانت عينا شقيقيّ لا تتوقفان عن الدوران، وجسم كل واحد منهما يزداد إصفرارًا كأنّه ورقة من شجرة مرّ عليها فصل الخريف ولم يرحمها.. لفتني وجود علبة "مارتديلا" مفتوحة، تركتها جارتي، حين كانت تُطعم أولادها الذين تحلّقوا حولها قبل أن يبدأ القصف ويتفرّق الجَمع. فاقتطعت ما بقيَ منها، وقدّمتها لهما بعد أن هدّهما الجوع والتّعَب والسهر!

كانت لقيمات قليلة لا تسمن ولا تغني من جوع، لكنّهما التهماها بسرعة البرق، كأنّها تساوي الحياة.

بَدَا أنّ تلك اللقيمات القليلة قد أعادت عامر إلى الحياة من جديد، رمقني بنظره، وأنا لا زلت متشبّثة برضيعي الصغير، وقال:
مدّديه هناك قرب الجثث..

لم أمنحه الوقت ليُكمل جملته، وخاطبته بحزم:
مستحيل.. سيبقى ابني معي.. هل تترك الأم ولدها؟!
فقال: بس هو ميّت!
بعدين رح أدفنوا.. بس مش رح أتركوا..
قلت جملتي، ثم هَدهَدت طفلي كأنّه قام يسعى بين يديّ وأنا أُقبّله!
رمَقَني عامر بنظره، ولم ينبس ببنت شفة!

..زادت حدّة القصف، وبدأت الانفجارات تتوالى تباعًا وتتصاعد، فالقيامة عادت لتقوم من جديد، ولم يعُد يعرف أحدٌ أحدًا.. فاختلط الصراخ مع أجسادٍ تتطاير مُتفتّتة لتلتصق بكل شيء أمامها.. وغبار يملأ صدورًا تتقطّع أنفاسها.. وشظايا قذائف تتوزّع في كل الاتجاهات، ولا ترحم أحدًا..

احتلّ الظلام المكان فجأة، لم يُبدّده، إلا برق قذائف يُعطينا بعض الضوء، ويأخذ منّا أرواحنا!

يصل فجأة، أحد الفدائيين إلى المكان، وهو يحمل الرشاش، ويعتمر القبعة العسكرية.. بَدَت نظراته حادّة، ونبرته حاسمة: على الجميع مغادرة المكان فورا!

قال جملته وغادر المكان مسرعًا.. ليبدأ فصل جديد من معاناة لا تنتهي، يرتعش الجسد معها، وتنهمر الدموع بانسياب، وتجعل اللسان مشلولًا عن النطق بالدعاء!

لم يُضع أحد الوقت؛ وحملوا ما استطاعوا من حاجياتهم، بينما وجدت نفسي في زاوية بلا حراك، تحت درج داخلي يقود إلى غرفة في الطابق الأول للمبنى.. همّت جارتي بالمغادرة، وضعت "بقجتها" الصغيرة على رأسها، وحملت كيسًا بيدها اليسرى، وقالت:

ما تضلّو هون.. ما سمعتي شو حكا الفدائي

آه سمعته.. يلّا!

الوقت مش لصالحنا.. يلّا عَجْلي

..غادرنا المكان مع آخر دفعة تُغادره، يسير إلى جانبي شقيقاي سميرة وعامر، بينما استأنف العدو تدميره للمستشفى، لم نبتعد كثيرا؛ فالجوع يفتك بنا، ويهدّنا التعب، وتلتصق أقدامنا بالأرض حين نحاول جرّها، علّها ترتفع قليلًا فتُكتب لنا النجاة. كانت سميرة تسير حافيةً، وقد تورّمت قدماها وبدأتا تنزّان الدم، بينما اصفرّ وجهها تعبًا؛ فمشت ببطء، تتقدّم خطوة، وتجلس باكية أحيانًا أخرى.

تملّكتني حَيرة قاتلة حين نظرت أمامي فرأيت سلسلة بشرية لا متناهية؛ بدأت منذ العام 1948، وتمضي اليوم إلى لجوء جديد لا أحد يعلم نهاياته..

..تقصف الطائرات الحربية بلا رحمة، وتوزّع صواريخها في المكان، وهي تقترب منا أكثر فأكثر، بينما تعلو دربكة السائرين في مسيرهم الطويل، كأصوات الطائرات الحربية التي يبدو أنّها احتلّت السماء، لكنّها لم تستطع احتلال قلوب وعقول البشر الذين تيقّنوا أنّها غيمة وتزول.

النار تشتعل في قلبي حين أنظر إلى طفليَ الهامد منذ ساعات.. ماذا أفعل به؟! أو ماذا أفعل له؟! أو ماذا أفعل لنا؟!
..بدأت أُشقُّ طريقي بخطى متثاقلة، وبصعوبة بالغة بين مئات البشر الهاربين من جحيم الموت، إلى جحيم أقل قسوة!! تمر الأشياء في تلك اللحظات كومضة تلمح من خلالها أحداثًا عديدة، ومآسيَ كبرى، تتجدّد مع امرأة تبكي، وتضع إلى جانب الطريق طفلها الذي غطّته "بشرشف" صغير أخضر، ليُطوّقها بعد ذلك، زوجها بيديه ويمضيان معًا؛ ربّما لِيَدُقّا جدار الخزان مجدّدًا، أو ليقلبا الطاولة فوق رؤوس الجميع.

بدَأَت قشعريرة تسري في جسدي، ويتملّكني الغضب، كيف لأمّ أن تَترُك قطعة من قلبها وحيدًا عند قارعة الطريق؟! وكيف تتركه دون أن تُغطّيه، أو تُطعمه؟! ومن يحميه من ذئاب الليل، أو كلاب النهار؟!

..يصمُّ بكاء سميرة الآذان، وهي تجلس على الأرض، ترفع قدميها اللتين لا تزالان تنزّان الدماء، وترقُب بنظراتها الخائفة حركاتي، تشدّني إليها كمغناطيس، بأننّي أملها الوحيد في الخلاص، مُردّدة: لا تتركيني وحيدة للمصير المجهول!

في تلك اللحظات الثقيلة، التي تساوي عامًا، أو أعوامًا؛ يزيد من ثقلها بكاء سميرة الذي تضجُّ به الآذان والمكان.. كان صمت الطفل الملفوف بشرشفه الأزرق، ووجهه المكشوف إلى السماء، يضجُّ هدوء، فبدا كأنّه يهرب مني حين وضعته إلى جانب الطريق، في ظلّ بقايا شجرة استهدفها القصف، ولم يبق منها إلا القليل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى