الثلاثاء ٢١ آذار (مارس) ٢٠١٧

أنمار رحمة الله....وإسألهم عن القرية(2)

هاتف بشبوش

الشيخ الحكّاء في قصّة أنمار حين يعودُ من الموت يجد أنّ هناك من يقصّ على أهل القرية حكايات عن المستقبل بينما هو بقي و مازال يعيدُ نفس الحكايات التي أكل الدّهر عليها كما هو حال المُعمّمين اليوم الذين يُعيدون نفس القصّة عن الماضي الدّيني المُتخلّف ويُكرّرونها ملايين المرّات دون كلل أو ملل. الشيخ الحكّاء هذا يرى من أنّ الناس قد ذهبت عنه إلى حكّاء شابّ يتكلّمُ عن المستقبل والتطوّر ومن أنّ كلّ شيء في تغيُّر مُستمر. هذا لم يرُقْ الشيخ الحكّاء فيطعنُ الحكّاء الشابّ بخنجر و يُرديه قتيلا. يرجعُ الشّيخ الحكّاء يُريد أن يلقي حكاياته القديمة فلم يجدْ غير نفر جاهل قليل على غرار طه أبي العجائز أو كريم بهلول وغيرهم من جهلاء السّماوة الجائعين الذين يركضون وراء هريسة الحسين. الحكّاء الشّيخ يستفسرُ عن الأمر ولماذا تهجرُه النّاس فيخبرونه من أنّ الحكّاء الشابّ الذي مات ترك كُتبا عديدة وراءه و اليوم الشباب يقرؤوها في بيوتهم ويجتمعون فيما بينهم. وهنا إلتفاتة كبيرة من قبل القاصّ أنمار حول الإبداع في شتّى أجناسه في العلم والشّعر والأدب و من أنّ صاحبهُ لا يموتُ بل يبقى أبد الدّهر هادرا كما الأنهارُ والبحارُ التي لا تموتُ مثلما قالها كزانتزاكيس (الشّعراء لا يموتون).

أضفْ إلى ذلك من أنّ القاصّ أنمار أراد إيصال رسالة أخرى وهي من أنّ القديم يندثرُ ويحلُّ محلّهُ الجديد مثلما حصل في مجالات الحياة العديدة،على سبيل المثال حلّت السيارة والطائرة كوسيلة نقل وكماليات بدلا من الشويهة والبعير والحصان. وفي مجال الغناء والموسيقى حلّت الألحان الجديدة، مثلما حصل للموسيقار القصبجي وأمّ كلثوم بعد أن جاء المُعاصرون في صنع اللّحن الجديد أمثال السنباطي و الموجي والطويل وغيرهم ممّا جعل أمّ كلثوم تستغني عن القصبجي الذي حزن حزنا كبيرا في ذلك الوقت، لكن هذه هي الحياة ومُتطلّباتها ونظريّتها في الجدلية المثيرة و أطوارها المستمرّة التي أبدع في إيصالها لنا القاصّ أنمار بهذا السّرد المُريح والمُبهج.
الحكّاء الشيخ يموتُ ولكن كيف يموت؟؟ يموتُ بطريقة مُغايرة ليس كالطريقة التقليديّة في حياتنا، لأنّ أنمار أراد لهذا الموت أن يكون بشكلٍ آخر، من أنّ الحكّاء الشيخ هو الذي يبحثُ عن موته فينظرُ من بعيد إلى حفرة قبر وكأنّها أُعدّتْ لهُ ويسعى لها كيْ يدفن نفسه فيها، أيْ أراد أنمار البارع هنا أنْ يقول لنا من أنّ القديم والذي أكل الزّمن عليه وشرب يجبُ أن ينتحر ويستحي من نفسه إذا كان ولابُدّ، فيجبُ على هؤلاء الذين يريدون أن يحكموا العراق بالقديم المتخلّف والمندثر والذي لا ينفعُ سوى أهل القبور، عليهمْ أن يرموا أنفسهم في الهاوية وبهذا يُريّحوا ويرتاحوا، و إلاّ سينتهون كنهاية المُجرم صدام،لأنّ الحياة تبغي انقلابا كما قالها يوما جميل صدقي الزهاوي وهو يُشجّعُ المرأة على نزع الحجاب. و بهذه الطّريقة يُنهي الشيخ الحكّاء حياته في حفرةِ قبرٍ لأنّه ما عاد ينفعُ أمام عجلة التّطوّر هذه، وأمام نظريّة الجدل المُثير التي تقول من أنّ كلّ فكرة جديدة ذاتُ فائدة على البشريّة تُلغي تلك الفكرة القديمة العديمة النّفع التي صدئت بفعل الوقت.

ينتقل بنا أنمار إلى قصّة أخرى نشهدُ فيها نفس نهاية الحكّاء و انتحاره أو حُبّه للموت بدلا من الحياة التي ما عادت تنفعُ في ضررها و قسوتها فيحلّ محلّها الموتُ الذي يكونُ راحة للشّخص المعني في بعض الأحوال كما نقرأ في قصّة المعلّم أدناه وفي القرية أيضا:

قصّة المعلم....

تحكي عنْ حُكم الجاهل للمثقّف وكيف يهربُ المثقّفُ من حُكم الجاهل كما حصل قبل خمسمائة عام وسيطرةُ الكنيسة في حُكمها الجاهل وكيف أعدمتْ الكثير من العلماء و الاستخفاف بعلمهم ومقدرتهم.

هذه القصّة تتحدّثُ عن الحوذي الذي هرب حماره إلى الغابة ولم يعُدْ على طريقة القول الشّهير (ذهب الحمار وأمّ عمرو فلا الحمار عاد ولا أمّ عمرو) بعد ذلك لم يعرف الحوذي أيّ طريقة أخرى يستطيعُ بها العيش والخلاص من الفقر والبطالة التي حلّت به حتّى جاءه مُعلّم القرية وأنقذهُ من الورطة التي هو فيها، حيثُ قدّم له المساعدة الجليّة فلمْ يُصدّق الحوذي، فأجابه المعلم:

(نعم...سوف أساعدك...طلبات التّوصيل أجّلها إلى الليل، و أنا و أنت سننقلها بالعربة ذاتها، سأجرّها...واللّيل سيكون ساتراً لي و لك، إلى أن تجمع مالاً كافيا يُساعدك على شراء حمار آخر بدل الذي هرب).

يعني من أنّ المعلم صيّر نفسه حماراً، لكنّ الجاهل بدل أنْ يشكُر المعلّم على صنيعه راح يضربهُ بالسّوط، على اعتباره حمارا، وهذا ما يُسمّى بـ:عضّ اليد التي امتدّتْ له. في العراق يقولُ الكاتب باقر ياسين بأنّ هناك ظاهرة مستشرية هو أنّ عامل المقهى على سبيل المثال الأميّ يقول للمثقّف المؤلّف للكتب وهو يقدّم له قدح الشّاي (أنت لا تفهمُ شيئا)، هذه الظّاهرة موجودة منذُ زمن الخليفة المأمون ورأيه بعامّة الشعب والذي اشتهر في التاريخ العربيّ الإسلاميّ بأنّه من أسّس "دار الحكمة" وكان يقرّب العلماء والمفكّرين في عصره،لكنّ بطون الكُتب لاسيما في "اللّطائف" للمقدّسي تنقل لنا قولاً له في الإنسان العادي الذي نسمّيه اليوم "المواطن"، وفي "العامّة" من نُطلق عليه مالي و ملفظ "الشّعب "..جاء في قوله:

("كل شرّ أو ضرّ في الدّنيا إنّما هو صادر من السّفهاء والعامّة،فإنّهم قتلة الأنبياء والأولياء والأصفياء،وهم المُضربون بين العلماء والنّمامون بين الأمراء،والسّاعون إلى السّلاطين،ومنهم اللّصوص والسّراق و القطاع و الطرارون والجلادون ومثيرو الفتن والمغيرون على الأموال).

المعلّم في قصّتنا أعلاه يضيقُ ذرعا من الحوذي و قسْوته فيُفكّرُ بالهروب إلى الغابة كما هرب حمار الحوذي فهناك الحياة أفضل حيث الوحوش الضاريّة فهي أرحمُ من البشر لنر ماذا قال المعلّم:
(لا مكان لي سوى الغابة البعيدة،حيث تنتظرني الوحوش والذئاب...! لكنّني سأكتشفُ فرصتي هناك، أفضل من الذلُّ والقهر والمرض والمهانة.سأهربُ إلى الغابة، لا مجال لديّ للتّفكير، سأقطعُ الحبل المربوط بعنقي و أنجو بنفسي... الغابة أرحمُ).

يهربُ المعلّم إلى الغابة ولم يعدْ و تنتهي القصّة بمشهد مُحيّرٍ وهو قدوم مُعلّم آخر إلى القرية مُتهندم وأنيق و يبدو عليه سوف يلقى نفس المصير الذي لقيه زميله المعلّم الأوّل. رسالة رائعة من قبل القاصّ أنمار حول المصائر التي تنتظرُ مثقّفينا وسط مجتمعات لا تريدُ أن تتعلّم أو ترى التّنوير بل تُفضّل البقاء على حالها وتقاليدها التي لا تصلُحُ لهذا الزّمن الجديد زمن التكنولوجيا الذي قارب في أن تكون رحلاته إلى المجرّات الأخرى، بل يريد البقاء في مكانه مراوحا حامدا الربّ على لا شيء.

أنمار استطاع أن يعزف لنا سيمفونيّة رائعة احتوت على خلطة من كافّة أصناف المجتمع و مهنها المختلفة، ولذلك جاءت لنا القصّة الرائعة أدناه ( العازف):

الـــعازف.

يُصوّرُ لنا أنمار كيف أنّ الموسيقى مُهمّة في عالم السّمع فهي التي تتعلّقُ بدربة الأذن، فبدون هذه يتحوّلُ الإنسان إلى حيوان يستخدم الإيماءات والإشارات، الموسيقى لازمت كلّ الشّعوب منذ العصر البدائي مع الآلة البسيطة للعزف حتّى اليوم لنرى الموسيقى تحتلُّ المركز المتقدّم لثقافة الشّعوب لأنّها تُساعد على إفراز هُرمون السّعادة، لذلك نُشاهد اليوم العديد من المطربين في كافّة أنحاء العالم حتّى أصبح الطرب مهنة تدرُّ على صاحبها الملايين من الدولارات أمثال المُغنّي الرّاحل مايكل جاكسون ومادونا و بريتني إلى كاظم السّاهر إلى العازف نصير شمة والكثير من المطربات العربيات اللواتي تحتلن مراتب مُتقدّمة في الثّراء نتيجة العزف والطّرب والموسيقى التي تمنحُ السّعادة و الهناء للفرد.

في هذه القصّة يتحدّث أنمار عن قرية فقدت السّمع نتيجة الصّرخة المدويّة القادمة من السّماء أو من باطن الأرض فأدّت إلى فقدان سمعهم و أنّ المولود يأتي بدون صيوان، و لذلك أهل القرية يحتفلون كلّ سنة (بعيد الصّرخة ). لنقرأ السّرد الخلاّب أدناه و ما قاله أنمار:

(منذ مئات السّنين أرعدت (الصّرخةُ).ولم يُميّز أهل القرية في ذلك الحين المكان الذي أتتْ منه. فبعضهم قال أنّه أنزلتْ من السّماء، وبعضهم قال من باطن الأرض. فتصارعت الآراء،واختلطت الأحكام. لكنّ الحقيقة الماثلة أنّ أهل القرية فقدوا السّمع من ساعتها.ولم يكتفوا بالصّمم، بل توارثوه جيلاً بعد جيل.ومع جريان الأيّام في أودية السّنين، اختفت آذانهم، بعد أن تضاءلت شيئاً فشيئاً، حتى صار المولودُ يُولد بلا أذُنين).

حتّى جاء عازف الكمان يعزفُ لهُم لحنا لكنّ أهل القرية أعطوه الجفاء وبقيت الحيوانات هي التي تستلذُّ بأنغامه، فراحت القرية تخافُ من هذه الفتنة التي أشعلها العازف بينهم وبين الحيوانات التي أحبّت النّغم، فاجتمعوا بعيد الصّرخة على طرد العازف، لكنّ العازف ظلّ يعزفُ في الظّلام مُتخفّيا حتّى طربت القرية على أنغامه وغفت ليلتها هادئة مُطمئنة بينما هو يرحلُ من القرية مطرودا، لكنّ النسوة لم تعرفن من أنهنّ ولدن صغارا بصواوين صغيرة.

فيما تقدّم أعلاه وعن التصوّر المُبهر لأنمار حول الموسيقى وأهميّتها لديمومة الحياة، يجعلني أنقل ما قاله نيتشه بخصوص ذلك (حين تدخلْ مجتمعا ولمْ تسمعْ الموسيقى تيقّنْ أنّه مجتمع دينيّ مع كثرة الجهل و الجوع)، كما و أنّ هناك الصّرخة الأسطوريّة التي أتتْ من باطن الأرض في عالم الموسيقى حيث أورفيوس و كيف دخل إلى العالم السّفلي لكيْ يستردّ زوجته وقصّته الشّهيرة فيجعلُ الأشجار و الأحجار و الطّيور والبشر برجاله ونسائه يستمعون إلى ألحانه الموسيقيّة.

الموسيقى هي الجبريّة المفروضة على البشر كما جبريّة الطّعام و الجنس والدّفاع عن النّفس، هي الإيقاع الذي خلقهُ الربّ ونثرهُ في الوديان وبين الطيور وزغاريدها وبين الأشجار.

الموسيقى هي لُغة عالميّة بصيغ أخرى جميلة تدخلُ الرّوح قسرا، فكلّ العالم اليوم بشتّى صنوفه وأديانه وقوميّاته له موسيقاه الخاصّة به،لكنّه يستطيع أن يستلذّ بموسيقى الشّعوب كافّة ومهما كانت ألحانها وصداها. لذلك حينما نستمع لموسيقى شوبرت نجدُ أنفسنا نستمعُ للطيّور و حفيف الأوراق وكلّ ما ينتمي إلى السّعادة في العالم كافّة. الموسيقى هي الفنّ الذي لا يمكنه فعل الخطيئة بل هي التي تعرضُ لنا أجمل النّساء بأجسادهنّ التي تتمايل في الرّقص وهزّ الأرداف، هي التي رقصتْ في خضم ألحانها تحيّة كاريوكا، سامية جمال، سهير زكي، فيفي عبده وغيرهنّ، الموسيقى تُهذّبُ النّفوس وتُعطيها من الطيبة السّاذجة وسط عالم استهتر بالإنسان الذي هو الآخر أجبرته الظّروف المُدمّرة أن يفقد صوابه ويكون هتراً ولذلك جاءت القصّة أدناه تتكلّم عن هذا الإنسان الذي رسمه لنا أنمار أدناه وقصة الهتر:

يتبــــع في الجـزء الثالث

هاتف بشبوش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى