الخميس ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم وائل مصباح عبد المحسن

أيقونة الشهادة

«1»

يصحو "يحيي" على ضوء النهار المتسلل خفية من بين ستائر نافذة حجرته، يتجه إليها ببطء، يفتحها؛ ليتأمل الشجرة الطيبة، شجرة الزيتون العتيقة التى تخطى عمرها ال 5500 عام، لم تتوقف يومًا خلال هذه السنوات الطوال عن تحويل الماء والتراب إلى جذع منتصب يتحدى الزمن، تخرج منه فروع متشابكة،تعلقت بها أوراق خضراء نُقش عليها تاريخ حضارة من أقدم حضارات العالم_ الفينيقية_ هذه الأوراق التى أصبحت وستظل مظلة واقية من الشرور قبل الحرور؛لتحتضن ثمارًا ناضجة تغذى عليها الأتقياء قبل الأنبياء، وبعد أن مليء رئتيه من نسيمها العليل، يبدأ في التحدث معها كعادته منذ الصغر:مازلت على عهدي معك، هذا العهد الذي يجدد تلقائيا مع كل طلعة شمس،العهد الذي قطعته على نفسي منذ نعومة أظافري، على هذه الأرض التى بإذن الله لن تغرب عنها شمس الحرية، أتذكرينه بالطبع،"لن أسمح أن تكوني يومًا مًا مادة خام لتوابيت الموت،على الرغم من أن الموت علينا حق،وأنا أحب الحق، فهو الحقيقة الوحيدة المؤكدة في هذا الكون الذي لا يعد سوى تابوتا عظيمًا، بل أستعد له، لن أسمح أن تكوني وقودًا متاحًا للمدفأة في ليالي الشتاء الباردة، وما أكثر ليالي بلاد الشام البادرة، قد أسمح لأحد أغصانك الصلبة أن يكون ساريًا لأحدى راياتنا الخفاقة، بكل تأكيد سوف يريدك هذا فخرًا وتيهًا.

ترقص الشجرة طربًا لما سمعته،يبتسم،ثم يستطرد:

ما رأيك يا عزيزتي أن أصنع من بعض فروعك "بازل" للأطفال على شكل خريطة دولتنا، فلسطين الحرة، يُكتب عليه بكل لغات العالم، أسماء كل حبة من حبات عقد الوطن العتيق، القدس، جنين، طولكرم، طوباس، نابلس،ق لقيلية،
سلفيت، رام الله،البيرة،أريحا،بيت لحم، الخليل، رفح، دير البلح،خان يونس، غزة، الأغوار، الوسطي، ليتم توزيعه في كل مكان في العالم، حتى يصبح "أيقونة" لمقاومة الاحتلال في كل زمان ومكان.

يظل هذا الحوار الذي لا ينتهي بين يحيى مع أحد رموز نبت الأرض المقدسة حتى ينتبه لوقوف زوجته "صالحة"
خلفه صامتة في وقار؛لتزداد جمالًا،فالصمت في حرم الجمال جمال،تتنهد قائلة:
ألا تشبع من هذه المغازلة،أنى لا أغير إلا منها.
يقبل جبينها،قائلًا بنبرة صادقة:أيعقل أن تغيري منك؟

منى؟!
نعم،ولكل امرأة فلسطينية؟
تهز رأسها مستفهمة؛ليتابع:طولها الذي يبلغ 13 مترًا هو قامة المرأة الفلسطينية التى لا تعادلها أى قامة،بينما جذرها البالغ 25 مترًا هو ما يجعلها مستقيمة، كظهر الأم الفلسطينية التى لا تنحني أبدًا إلا لمن يستحق،للخالق العظيم،أليس كذلك؟
بلى.
محيطها الذي يتخطى ال 250 مترًا،ظلها الظليل الذي يحمى الصغير قبل الكبير؛ليشعرنا جميعًا يدفئ الوطن،
لذا ستظل هذه الشجرة رمزًا للمقاومة وعروسًا لفلسطين.
تبتسم صالحة بعد أن توهجت ملامحها بالسعادة،وصبغت وجهها حمرة سحرية،قائلة:
كأنك توصف خالتي "أمينة غنام" خنساء طولكرم،هذه المرأة الصابرة المحتسبة.
أم عبد اللطيف ليست استثناء ولن تكن،فرغم استشهاد أبناءها الأربع في أقل من ستة أشهر،ومن بعدهم الخامس
بعد أصابته بالمرض اللعين،إلا أنها ظلت نورًا ونارًا وستظل إن شاء الله لمخيم نور الشمس.
حين ينطفئ مصباح يوقد المولى عز وجل بدلًا منه ألف مصباح "سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبدلا" صدق الله العظيم.
يشرد كأنه يتذكر،قائلًا:سبحان الله نفس الآية الكريمة التى كان يرددها والدي في بداية رحلته الحزينة بعد النكبة
حاملًا الزاد القليل على كتف،وعلى الكتف الآخر شقيقتي الكبرى.
رحمة الله عليه وعلى والدي.
كم تمنيت أن يكونا معنا اليوم؛ليحضرا الخُطبة الرابعة.
الخُطبة الرابعة؟ّ
نعم،ثلاث خُطب في ثلاثة أيام متتالية.
يعد على أصابعه قائلًا:خطبة الجمعة،السبت خطبة عرفه،الأحد خطبة العيد،ماذا عن الخطبة الرابعة هذه؟
خطبة النصر في ذكرى يوم التحرير،اللهم هيئ لنا من أسباب النصر ما به نصرنا وعزتنا وكرامتنا،آمين يا رب
العالمين.
آمين يا رب العالمين،يا ترى ماذا ستقول فيها؟
يهمهم في سعادة،قبل أن يقول:دعيها لحينها،وهيا بنا حتى لا نتأخر.

«2»

من كل حدب وصوب يأتي الجميع،يجلسون أمام المنصة،ينتظرون سماع كلمة السيد رئيس البلاد؛لتنطلق الزغاريد،حتى تغطي سماء فلسطين،من رام الله إلى طولكرم ونابلس والخليل،إلى خان يونس وغزة،من صخرة القدس حتى رفح،كالرعد يدخل في كل بيت،يخرج من نخلة ضربت موعدًا للقيامة في عمق دير البلح،قبر يوسف،سيدنا الخضر في بئر زيت،ياه يا فلسطين،يا دعوة نبي الله سليمان عليه السلام بملك فريد،لا ينبغي لأحد من بعده،يا مجمعة الإنس والجن والطير والحيوان تحت راية واحدة،قبل أن يأتي الأعداء ليحتلوكِ؛ليرسلون إلى البابا يهنئونه بقولهم:"إذا أردت أن تعلم بما جرى لأعدائنا فثق في إيوان سليمان ومعبده،كانت خيلنا تخوض في بحر من دماء المسلمين إلى ركبتيها".

ها هو السيد الرئيس "يحيي السنوار" واثق الخطوة يمشي ملكًا،كما وصفه الشاعر الكبير "إبراهيم ناجى" رغم أنه لم يراه،يتجه إلى المنصة في كبرياء،على سجادة حمراء طويلة،صُبغت بدم شهداء هذا الوطن،يقف عليها في شموخ؛ليستعرض الحضور في سعادة قبل أن يصيح:

أخلع نعلك واغرس قدمك في أرضك التى حاول الأعداء مرارًا وتكرارًا سرقتها،اخلع نعال الكون كي تراها،غض طرف القلب عن سواها،لماذا،لأنها أرضنا المقدسة تحمل دافئًا لا مثيل له،وطهرًا لا يعرف للتشبيه مثالًا،فحدود الأوطان كلها دون قدسنا الطاهر يغطيها التراب،أرض المحشر والمنشر،كما أخبرنا من لا ينطق عن الهوى،المصطفى صلى الله عليه وسلم أمرًا بإرسال الزيت لإضاءة أقصانا الطاهر.
يتوقف قليلًا،لا تسأل لمّ توقف،فلا أحد يستطيع أن يسأل نيلسون مانديلا وكذلك السنوار،يرفع يده ليوقف التهليل،
متابعًا في همة ونشاط:

لا نحتاج طعام،ماء و كهرباء،وقود،لا نحتاج مساعدة من أحد،قريب كان أو بعيد،وبأذن الله لن نحتاج،لقد عاد سيدنا "بلال بن رباح" رضي الله عنه ليأذن فوق المسجد الأقصى مرة أخري،لتتهاوى أوثان الصهيونية كما تهاوت الأوثان والأصنام من حول الكعبة المشرفة يوم فتح مكة،لقد بُعث أمير المؤمنين الفاروق "عمر بن الخطاب" ثانية؛ليتسلم مفاتيح القدس الشريف،لتستيقظ خير أمة أخرجت للناس على أصوات أبنائها يكبرون،يهللون،يرتلون في خشوع "إن هذه أمتكم أمة واحدة".

تنطلق موجات التصفيق؛ليأخذ القائد نفسًا طويلًا،يخرجه ببطء مع ترقب الجماهير الغفيرة،كانت تزفر معه لحظة بلحظة زفراته،فهي تعرفه جيدًا وتعرف ما قاساه وعاناه طوال تاريخه الوطني المشرف،ومع انحصار الموج،يعاود
الحديث:تفاعلكم الصادق هذا يأكد بما لا يدع مجالًا للشك،التصاقنا بالأرض التى قال عنها سبحانه وتعلى "ونجيناه ولوطا إلى الأرض التى باركنا فيها للعالمين" لمّ لا وبيننا وبينها حبلًا سُريًا يربطنا بها،لن ينقطع أبدًا،ميثاقًا غليظًا يحثنا دائمًا وأبدًا على الحفاظ عليها،وسنظل هكذا بإذنه تعالى وتوفيقه حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

يرفع قبضة يده متابعًا بثقة ويقين:في أعالي القمم والأحراش،فوق الأرض وتحت الأرض،في عنان السماء،ستظل راياتنا خفاقة،فوق مآذن قدسنا الطاهر،وفى أيد كلًا منا غصن الزيتون الذي عادت به الحمامة التى أرسلها نبي الله نوح عليه السلام ليتيقن من اندحار ماء الطوفان،طوفان الغضب،بعد أن أصبحت المسافة صفرًا بين الحلم والواقع.

يشير إلى الخريطة الكبيرة لدولة فلسطين الحرة التى تزين المكان،التى تخفى داخل حدودها سرًا دفينًا وحبًا عظيمًا،ليس من قبل أبناءها فقط،بل لكل من ينتمي لدين السلام،الإسلام،ولمّ لا و انتصارات المسلمين الكبرى أجنادين وبيسان واليرموك وحطين وطبرية وبيت المقدس وعين جالوت وقعت داخل هذه الحدود،يحيها بالتحية العسكرية التى تليق بها،قائلًا:رددوا معي،فدائي فدائي فدائي يا أرضي يا أرض الجدود،فدائي فدائي فدائي يا شعبي يا شعب الخلود،بعصف الرياح ونار السلاح وإصرار شعبي لخوض الكفاح،فلسطين دارى ودرب انتصاري،فلسطين ثأري وأرض الصمود،فدائي فدائي فدائي يا أرضي،يا أرض الجدود.

يمسح السنوار الدموع التى تساقطت منه،يتذوقها ليتأكد أنها بنفس طعم دمعة المسيح،لكل الشعب الفلسطيني يعرف جيدًا ماهية الدمع،منذ أن بكى آدم عليه السلام،ومن بعده السيد المسيح على هذه الأرض المباركة،قبل الرفع إلى السماء،يبلل شفتيه من نفس الدمع قائلًا:إن شاء الله يظل نشيدنا الوطني دائمًا وأبد،يُلالى مع آذان الصلوات خمس مرات في اليوم على مآذننا الغوالى،ترفرف كلماته مع رايتنا الخفاقة في العلالى،وتظل دولتنا حرة مستقلة من نهرها إلى بحرها بإذن الله الغنى المغنى الوالي.

يتصاعد هتاف الجماهير"عاشت فلسطين،عاش السنوار" فجأة يدوى صوت انفجار صاروخي شديد،يتفرق
الجميع؛لتجرى صالحة باتجاه المنصة،لتجد زوجها مازال واقفًا كأشجار الزيتون بين حرسه،والدماء تنفجر من كل
جزء من جسده الطاهر،تصرخ في لوعة،تحضنه بقوة؛لينظر إليها بوجه مستبشر، ويقول:

يا أم إبراهيم،ألم أقل لك أن أكبر هدية يمكن أن يقدمها لي العدو أن يغتالني،وأنا حقيقة أفضل أن أموت على يد أف 16 أو صواريخ كما حدث الآن،ولا أموت بالكورونا أو الجلطة أو السكتة،أو حادث طريق،أو بهذه الموتات.
تغالب صالحة دموعها؛لتقول:لن تموت بإذن الله.
تصرخ فمن حولها:أين الأطباء؟

يقاطعها بابتسامة قائلًا:سيقول العدو الجبان قتلنا السنوار،لكنهم لا يعلمون أن الموت في سبيل الله أغلى أمانينا،لقد أغتال العدو مئات القادة العظام من قبلي،ولم يتوقف نضال الشعب الفلسطيني عن احتلال أرضه،تدنيس مقدساته،حرمانه من حريته وكرامته،ولن يتوقف إن شاء الله.

يكاد السنوار أن يسقط على الأرض،تسنده زوجته الصالحة صالحة،تمسح الدم الطاهر الذي بدأ يسيل من فمه؛لينظر إلى أعلى،يبتسم قائلًا: أنى أشم رائحة الجنة، أرى مقعدي فيها،اشهد أن لا إله إلا الله،وأن سيدنا ورسولنا وحبيبنا وقدوتنا محمدًا رسول الله.

تغمض العينيين التى كُحلت برؤية أولى القبلتين وثاني البيتين وثالث الحرمين،طاهرًا،محررًا تحت راية التوحيد الخفاقة؛لتزغرد صالحة، فتقلدها النساء اللائي احتطن بها،بينما تنطلق حناجر الرجال بالتكبير والتهليل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى