الأربعاء ١١ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم صلاح السروي

أيقونة المكان

آليات انتاج المعنى فى روايات يوسف أبو رية

يعد المكان العنصر الأبرز فى روايات يوسف أبورية الست: (عطش الصبار 1989 – تل الهوى 1999 – الجزيرة البيضاء 2000 – ليلة عرس 2002 - عاشق الحى 2005 – صمت الطواحين 2007). فجميعها تدور فى المدينة الصغيرة، أو ما يمكن تسميته بالمدينة الريفية، التى غالبا ما كانت مسقط رأس الكاتب، حتى ان عددا من الروايات قد جاءت تحت عناوين تحمل دلالة مكانية واضحة، أو أماكن قريبة منها. مثل (الجزيرة البيضاء) و(تل الهوى) و(عاشق الحى)، حيث نلاحظ احتفاء واضحا بتفاصيل المكان، من وصف للشوارع والبيوت والحانات والمقاهى والأسواق ..الخ . كأن يقول فى رواية (عطش الصبار)، تحت عنوان البيت:

(كان هذا البيت الصغير جزءا من الدار الكبيرة للعائلة، وهذا الحائط الذى لم يفلح الجير فى اخفائه أقيم ليحجز الباب الموصل لبقية الدار، التى قسم ثلثاها المتبقيان بين اثنين من الأعمام، بعد رحيل العم الكبير، بزوجتيه وأبنائه منهما الى الحى الآخر بجوار سكة الحديد، فترك لهما نصيبه فى الدار، ان لم يترك نصيبه من الطاحونة الشرك).(ص8 - 9)

حيث نلاحظ أن (المكان)، المتمثل فى بيت العائلة والذى يجرى تقسيمه، والطاحونة (الشرك)، التى بقيت مشتركة، هى موضوع الصراع فى الرواية ككل. بعد رحيل الأم الذى تبدأ الرواية، بمشاهده وطقوسه مباشرة، انها لحظات الأفول التى تكاد تحيط بأطراف عالم كامل من أنماط الحياة والعلاقات والقيم. يقول فى نفس الرواية..(هبط الليل، وتكدس ظلامه هناك فى الأحواش القديمة وراء الطاحونة، وكان خفيفا هنا أمام أبوابها، مزقته مصابيح صغيرة تتدلى من أعمدة الشوارع، كما مزقه نور لمبة الجاز الذى ينبعث أصفر شاحبا من حجرة الطحين..)(ص 34) فهبوط الليل وتكدس الظلمة هنا ليس مجرد وصف للحظة زمانية جزئية مبتوتة الصلة عن ما يجاورها، بل هى وصف لحالة سابغة من المعانى المسيطرة على عالم الرواية بالكامل . فالأحواش القديمة وراء الطاحونة –حسب منطق الرواية – قد آن لها أن تغرق فى ظلام النسيان، بعد قيام جيل جديد، سوف يجد لنفسه طريقا آخر، ربما لاتكون الطاحونة ولا أحواشها القديمة فى أصل اهتمامه. وهو ما سنلاحظه بوضوح أكبر فى رواية (صمت الطواحين)، حين يقول:

" والطاحونة .

الطاحونة تعانى حشرجات النهاية .

انتشار الطوابين والخبز الجاهز من كل صنف، حافظ على البقاء المهدد بالزوال، لولا فراكة الأرز لانتهى زمانها، وانقضت حقبتها" (ص 167- 168).

وتصبح ، من ثم المصابيح الصغيرة التى تمزق الظلمة الخفيفة أمام الأبواب هى بالتحديد نموذج تلك التحولات التى تتهدد العالم القديم. وذلك فى تواز فاضح مع ضوء لمبة الجاز الواهنة الذى ينبعث شاحبا من حجرة الطحين.. وصولا الى النتيجة التى سنراها قد أصبحت حقيقة واقعة فى الرواية الأخيرة . انها وضعية الموت الذى تحفل بها روايات وقصص يوسف أبو رية ، الذى تصطرع عنده الحقب و المراحل ، فى قتال مصيرى لا هوادة فيه .

لقد بدا الاحتفاء بالمكان عنده واضحا لدرجة أنه قد أفرد فصلا عن تاريخ هذه المدينة (ههيا) فى مقدمة روايته (الجزيرة البيضاء)، والظروف التاريخية التى أدت الى انشائها ، ولعل عنوان الرواية نفسه يوحى بهذا الاحتفاء الخاص بالمكان . وهو نفس الأمر الذى نجده بقوة فى عنوان الرواية السابقة عليها: (تل الهوى)، وان لم يتم افراد ذات الوثيقة التعريفية بالمكان .

ويمكن أن نلمس هذا الاهتمام الخاص بالمكان عندما نلاحظ أنه لا يمثل خلفية مجانية تتحرك أمامها الأحداث والشخصيات ، بل انه يقوم بدور فاعل فى حركة الأحداث على نحو مباشر ، بما يقدمه من معطيات فيزيقية واجتماعية وثقافية خاصة ، تصبغ الأحداث بصبغتها ، لدرجة تكاد معها ألا تتصور وجود هذه الشخصيات والأحداث الا هنا ، فى هذا المكان، وليس فى أى مكان آخر، وكأنها قد نبتت من الأرض مع نباتات الحلفاء وأشجار النخيل والتوت ...

غير أنه رغم خصوصية المكان ومحليته الشديدتين , الا أننا نلاحظ أن هناك دلالة كلية تتجاوز حدود المكان الى ما هو أبعد منه .. الى وطن أكبر، وربما، الى وضعية انسانية أشمل . فهو فى "تل الهوى"، مثلا، يورد واقعة وجود أطفال لقطاء مكتوب على بطونهم رسائل تكاد تؤرخ للانتهاك والقمع الذى ألم بالوطن على طول تاريخه الحديث .. يقول:

(رحل زمن الباشوات وجاء زماننا. منذ كم عام وقع هذا ؟ أيام عتيقة اختلطت وقائعها بهذه الشبورة التى تلف المكان .) (تل الهوى ص 46)

فالشبورة هنا، وهى مفرد مكانى بامتياز، ليست مجرد حالة طبيعية منقضية بفعل قوانين المناخ، بل هى حالة تمثل وضعية الوعى والفكر المرتبط بمرحلة راهنة اختلطت فيها القيم والمعايير بما لم تعد تتوفرمعه القدرة على رؤية المخاطر على نحو واضح كما كان فى السابق عندما كان العدو ماثلا بجلاء لا لبس فيه.

وهو نفس الأمر الذى نلحظه فى رواية(عطش الصبار)، حيث نلمس تداعيات التحولات السياسية والاجتماعية التى اجتاحت مصر بعد عام 1974، على نفوس وسلوكيات شخصيات الرواية، وكذلك فى رواية (عاشق الحى) التى تطرح المكان الموحش الذى سجن فيه (حودة الأخرس ) بيد هذا (المعلم) الذى أصبح شريكا فى صفقات الفساد مع كبار رجال السلطة. ان المفارقة فى هذه الرواية الأخيرة بالتحديد تكمن فى الخوف من (بوح) هذا الأخرس ، الذى يكاد يمثل شعبا بأكمله، بما شاهده وعرفه. ولكنه رغم سحقه وسجنه يستطيع أن يصنع عرسه الخاص، وأن يثأر – معنويا – من ظالمه ، ذاك الذى تصور أنه بمنأى عن أية محاسبة. يقول:

(لكل فرد من هؤلاء قاتله والقاتل هنا ،يقبع فى أحراش الوطن الذى ترينه بريئا)(عاشق الحى ص 170 ). انها رحلة الوطن والانسان خلال غابة التحولات والتحديات، رحلة يوسف أبى رية مع الابداع الروائى ،التى اجتهد فيها لكى يصنع سبيكة سياسية –اجتماعية – انسانية، تقوم على التداخل العميق بين العام والخاص، بين الفردى والمجتمعى ،بين المحلى والوطنى. كما رأينا فى رواية " ليلة عرس " حيث تفضح شخصية (حودة الأخرس)، تلك التى تبدو نمطية وبالغة المحلية ،واقع التواطؤ والفساد والتشوه الروحى الذى يكاد يشكل ملامح المشهد المعاش فى تاريخنا الوطنى المعاصر.

وعلى هذا الأساس يصبح المكان متجاوزا لحدود الجغرافيا ،من حيث دلالته العامة ، فيضحى رمزيا سابغ الدلالة ومتعديا الى ما عداه من أماكن وأحداث .

واذا كانت روايات يوسف أبورية تتخذ من الموت والأجواء المأساوية الشائعة فى الريف المصرى محورا دائما لأحداثها – فى اتساق مع المعطى الثقافى والوجدانى للمكان – فان الموت يرتبط ، كذلك ، على نحو جلى ، بحركية جدلية لايخفى مغزاها ، تدور حول الصراع المصيرى الذى تخوضه عوالم وتكوينات تنتمى الى مراحل تاريخية منقضية مع عوالم وتكوينات أخرى جديدة ، فى طور التشكل (أنظر صمت الطواحين،على سبيل المثال).

من هنا يتواشج المكان الرمز مع الزمان المتحول ، مكونين وحدة (زمكانية) بالغة القوة والدلالة ، لتكتسب الرواية عند ه بعدا تاريخيا وانسانيا بالغ العمق والبساطة فى ذات الآن .

وبذلك يمكننا أن نزعم أن المكان ، بمستوييه : الحقيقى والرمزى ، يمثل عنصرا وآلية جوهرية من عناصر وآليات انتج المعنى فى هذه الأعمال .

آليات انتاج المعنى فى روايات يوسف أبو رية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى