

الحرب على ايران ونظرية الأمن الاسرائيلي
تم تشييد نظرية الأمن الإسرائيلي، منذ الخطوات الأولى لتأسيس دولة الكيان الصهيوني. على نحو يضمن له الحفاظ على أمنه واستقراره من كل أشكال المقاومة وحركات التحرير التي يمكن أن يقوم بها الفلسطينيون، ومن يناصرونهم ويدافعون عن حقوقهم من جيوش تتبع البلدان العربية المتاخمة. وأيضا، بما يضمن له إمكانية التوسع والسيطرة، كلما حانت الفرصة، على كامل بلدان منطقة الشرق العربي. بحسب التصور الأسطوري التوراتي الذي قامت على أساسه دولة الكيان الصهيوني.
وتقوم هذه النظرية على أربعة ركائز أساسية وهي تتمثل فيما يلي:
1- بناء قوة عسكرية فائقة، من ناحية العتاد المتطور، بما يجعلها تربو على كل القوى المحيطة، مجتمعة. بما يجعلها قادرة على حماية أمن واستقرار الدولة الوليدة، واغراء المستوطنين اليهود بالقدوم الى إسرائيل، فلن يأتي مستوطن من بلد كان يعيش فيها آمنا الى بلد لا يتمتع بالأمن الى جانب ميزات العيش الأخرى شبه المجانية. وذلك عن طريق تحقيق الاستفادة القصوى من الدعم والمساندة اللذين تقدمهما القوى الاستعمارية العظمى في العالم. وهي المتمثلة في الحلف المعروف باسم "حلف شمال الأطلسي"، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية.
2- التخلص من الفلسطينيين بكل الوسائل الممكنة، التي تبدأ بالتضييق عليهم في سبل العيش والسكن والعمل والتنقل، مرورا بالطرد من المنازل أو الطرد خارج فلسطين، على أوهى الأسباب، وانتهاء بالقتل والابادة الجماعية، كما شاهدنا من المذابح المتوالية منذ نشأة الكيان، وكما نشاهدها الآن، ويشاهدها العالم أجمع، في غزة. بما يفضي في النهاية الى التخلص من الفلسطينيين وتحقيق السيطرة الكاملة على كل الأراضي الفلسطينية. ثم قضم كل ما يمكنه من أراض تقع في البلدان المجاورة، بحسب ما تتيحه الظروف والأحداث.
3- العمل على احداث أكبر قدر من التخريب الممنهج لباقي بلدان وشعوب المنطقة، عن طريق العمل على اضعاف اقتصادها، وتجهيل أبنائها، وافقار حكوماتها وإشاعة الفرقة والانقسام بين فئاتها (سواء أكانت طافية مذهبية أو عرقية أو قبلية أو مناطقية .. الخ). وكذلك الايقاع وخلق الكراهية والتقاتل بين دولها. وذلك باستخدام كل الطرق والوسائل المتاحة.
4- الايهام بأن دولة الكيان انما وجدت لتبقى، وأنها قوة لا يمكن قهرها، ولا يمكن النيل منها مهما كانت قوة الخصم العددية أو التسليحية، ارتكازا على عنصرين:
الأول: تكريس أسطورة تفوق (العقل) اليهودي.
الثاني: المباهاة بالقدرة على الترويع وارتكاب المذابح.
ففي العنصر الأول يتم تغذية الوعي العربي بأوهام التفوق العنصري للجنس اليهودي وتفسير نبوغ العلماء والمبدعين اليهود، بمجرد كونهم يهودا، فقط. وليس بكونهم أناسا ينتمون الى أجواء حضارية في الشرق أو في الغرب، نبغ فيه الكثيرون من اليهود وغير اليهود.
أما في العنصر الثاني بكونها فان الدعاية الإسرائيلية لا تتوقف عن التأكيد على انتمائها للحضارة الغربية المتفوقة، وأنها "واحة الديمقراطية التي تتوسط غابة بدائية متوحشة"، في إشارة الى تفوقها وتخلف البلدان العربية المحيطة بها. وفي إشارة أيضا، الى انتمائها الى الجانب الأقوى في المشهد الدولي الحديث. ومن ثم فهي الأجدر بتلقي الدعم والرعاية من قوى المعسكر الغربي الاستعماري. وبما يضمن لها، بالتالي، أن تكون بمنأى عن المساءلة القانونية الدولية. وبذلك تكون قد جمعت بين أصناف القوة المطلقة (من حيث الانتماء الى العرق اليهودي المتفوق، والانتماء الى الحضارة الأحدث، والانتماء الى المعسكر الأقوى في العالم). ومن ثم تصبح هزيمتها عسكريا، أو مساءلتها قانونيا، أو عقابها دوليا، أمرا يقع في عداد المستحيلات.
وانطلاقا من هذه الركائز، شنت القوات الصهيونية ولا تزال كل الحروب وقامت بكل جرائم الإبادة الوحشية التي عرفها تاريخ الصراع العربي معها. بل أكاد أقول أنها قد تعمدت نشر هذه الجرائم لتحقيق أقصى قدر من الترويع والإرهاب.
ولقد زادت الغطرسة الإسرائيلية، على نحو ملحوظ، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، وانفراد الولايات المتحدة، تبعا لذلك، بالهيمنة على العالم. حيث تحول النظام الدولي، ثنائي القطبية (اشتراكي - رأسمالي)، الى النظام "أحادي القطبية"، تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية. ولقد تجلت آثار ذلك في المنطقة العربية، تم احتلال العراق وانهار الجيش العراقي 2003، ثم توالت الانهيارات التي وصلت الى ليبيا واليمن وسوريا والسودان.. الخ. فلقد ضاعفت كل تلك الانهيارات من إحساس العدو بتفوقه المطلق وهو ما جعله يمعن في ارتكاب كل البشائع التي تم ذكرها آنفا.
بيد أن هذا التصور الأمني الدموي القائم على التفوق المطلق، قد تم الانتقاص منه وخلخلته، أمام عدد من المتغيرات، أهمها:
أولا: حرب أكتوبر التحريرية المجيدة 1973، التي أثبتت، بصورة عملية، أن هذا العدو يمكن هزيمته، حيث أمكن استرداد جزء من الأرض السليبة منه عنوة وبقوة السلاح. وأن الجيوش العربية قادرة عند توفر قيادة واعية وتسليح معقول أن توقع الهزيمة بالعدو. وذلك بصرف النظر عما لحق بهذه الحرب من إجراءات واتفاقات. (فهذا معرض آخر).
ثانيا: المقاومة الباسلة والصمود الأسطوري اللذين أبداهما الشعب الفلسطيني في كل من الضفة وغزة وداخل الخط الأخضر بأراضي فلسطين المحتلة عام 48. وكذلك البطولات التي قامت بها المقاومة الوطنية اللبنانية، ودور حزب الله وحركة أمل في إيقاع الهزائم بالعدو الصهيوني على النحو الذي أجبره على الانسحاب من جنوب لبنان، بطريقة مذلة وبدون اتفاقات مسبقة.
ثالثا: طوفان الأقصى 2023، حيث استطاعت مجموعات قليلة العدد والعدة من المقاومين، تعيش في قطاع فقير محاصر، من الهجوم على العدو واجتياح السور الألكتروني وأسر جنوده وايقاع الخسائر الفادحة به. فلقد كان هجوم السابع من أكتوبر 2023 بمثابة زلزال عنيف أطاح بجزء كبير من أوهام التفوق والهيمنة لدى العدو. وأثبتت من خلاله المقاومة أن سلوك الخذلان والاستسلام هو الذي منح العدو هذه الهالة الكاذبة من القوة الساحقة.
وبصرف النظر عن الجدال الذي دار حول ما اذا كانت هذه الضربة محسوبة أم مغامرة هوجاء، (فهذا ليس مجال تقييمها)، فان الحصيلة تقول أن فكرة العدو العاتي الذي لا يقهر، انما هي فكرة تنتمي الى الخيال بأكثر من انتمائها الى الواقع، بأحداثه المادية الملموسة.
كل ذلك أدى الى تدمير جزء كبير من نظرية الأمن الإسرائيلي، بيد أن كل ما حدث شيء وما يحدث الآن، أثناء الحرب الإسرائيلية على ايران، شيء آخر تماما. فلم يعد السؤال: هل هذا العدو يمكن التغلب عليه وقهره أم لا؟؟ بل أضحى على النحو التالي:
هل الدولة اليهودية، بقدراتها العسكرية الهائلة والدعم الغربي اللا محدود، ما تزال قادرة على تأمين وجود وحياة المستوطن الإسرائيلي، واعفائه من دفع ثمن سرقته لبيوت وأراضي ومقدرات الفلسطينيين؟؟ بحيث يمكنه البقاء في هذه الأرض آمنا؟؟ أم أن عليه أن يفاضل بين الدمار والموت أو الرحيل من حيث أتى؟؟ فغني عن القول أن هذا المستوطن لم يأت هذه البلاد مجاهدا أو مناضلا. بل جاء باحثا عن التملك والتنعم. وكثيرون على علم بالحال البائس والتعيس الذي كان عليه معظم المستوطنين الأوائل، عندما تم جلبهم لفلسطين قبل الحرب الثانية وبعدها.
وهذا المتغير الجديد انما هو ذلك المتمثل في الحرب الدائرة الآن بين إسرائيل وايران.