الخميس ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٢
بقلم عبد الكريم المحمود

أُمّ اللغات

أكرمْ بها كلِماً أعظمْ بها لغةً
ربُّ البرية في القرآن حيّاها
بوصفه عربياً غير ذي عِوجٍ
يهدي النفوس لحقٍ فيه تقواها
لو أنزلت آيُه العظمى على جبلٍ
لظلّ منصدع الأركان جرّاها
وبوركت لغةُ القرآن خالدةً
فالله في لوحه المحفوظ يرعاها
مذ نُطق آدمَ بالأسماء علّمه
ربٌّ تخيّر مبناها ومعناها
في نظم أحرفها إعجاز قدرتها
ما اختارها الله إلّا من مزاياها
هي البيان به وحيُ السماء أتى
في كل لفظٍ به جبريل قد فاها
قد خصّها الله بالذكر الحكيم له
سبعون بطناً توارت في ثناياها
وزادها شرفاً ختمُ البلاغ بها
من خاتم الأنبياء المصطفى طاها
بخطّها حفظتْ كل العلوم لنا
مجداً نباهي به في المجد مَن باهى
فقهٌ وتفسيرُ قرآنٍ وفلسفةٌ
علمُ الحديث وتاريخٌ وما ضاهى
فكل علمٍ تربّى في رعايتها
وما توانت بحفظٍ عن رعاياها
هي الأمان لهم من كل مضطغنٍ
يريد شراّ بهم في هجر مغناها
يدعو لهدم أصولٍ من قواعدها
سعياً لطمر كنوزٍ في طواياها
هذا الحداثيّ من كرهٍ لأمته
غرّته أحلامُه في كسر مَرقاها
وصار يخدع من جهّالها فئةً
وكم سمعنا نهيقاً من مطاياها
فتارةً زعموا التعقيد في لغةٍ
لا ينطق الناس في الأسواق فُصحاها
وأرجفوا بكلامٍ أنّ لهجتهم
أولى وأحرى من الفصحى بجدواها
وتارةً زعموا ضيقاً بمعجمها
عن سيل علمٍ رهيبٍ قد تخطاها
أو أن شاعرهم يشقى بحُجرتها
فعاد من حقه تحطيمُ مبناها
والحق أن الألى ضاقوا بأحرفها
كانت تضيق رؤاهم عن خفاياها
فأغفلوا في مدى الأعصار ما حملتْ
نثرأ وشعراً وعلماً في حناياها
ما أعجزتْ عالماً عن صوغ فكرته
أو أبعدتْ كاتباً عن نيل مغزاها
ما أسقطت شاعراً عن سرج صهوتها
إن قادها فارساً بالحذق أجراها
بفضلها خفقت رايات وحدتنا
أرضاً وشعباً وديناً كان أبقاها
وطوّقتْ بذراعيها عروبتنا
عزاً وأكرمْ بمن ضمّت ذراعاها
وطبّقت أفق الدنيا حضارتنا
شرقاً وغرباً لهم تُهدي عطاياها
من كل علمٍ بأمّ الضاد أخرجه
غوّاصه درراً من بحر فحواها
وأنتجت أدباً يزهو بنُضرته
يبقى مدى الدهر فوّاحاً بريّاها
بها سمتْ في سماء المجد كوكبةٌ
من العقول وزادت في الدنى جاها
وفخرها لغة القرآن ما اتّخذت
من غيرها نسباً يعلي سجاياها
فبوركتْ في مدى الأعصار والدةً
كل اللغات فلم يولدنَ لولاها
وبوركت في مدى الأعصار شامخةً
مثل الجبال بديعُ الكون أرساها
كم من عدوٍّ تحدّى رأسها نزقاً
بسيفه فتهاوى مَن تحدّاها
وكم تقصّدها مستعمرٌ شرسٌ
ببطشه باغياً واللهُ نجّاها
وكم أراد لها مستشرقٌ وقحٌ
بكيده مقتلاً في محو ذكراها
وكيف يطفيء نور الله منتقصٌ
يريده ظلمةً واللهُ يأباها
فاقت بميزاتها كل اللغات فما
لها نظيرٌ بما تحويه داناها
يُشتقّ من لفظها في نقل أحرفها
الفاظ هائلةٌ ما كان أثراها
وأبهرتْ دارسيها في ترادفها
من عمقها ميّزت باللفظ أشباها
وخصها الله بالاعراب منقبةً
فيه يكون دقيق الفهم مرماها
وزانها بجمال الصوت في أذنٍ
تميز في زحمة الأصوات أحلاها
أدامها بشبابٍ زاهرٍ أبداً
تشيب كل لغات الأرض إلاّها
قد خاب من يبتغي من أهلها بدلاً
عنها وأغضب مَن للدين زكّاها
ومن تغرّب عنها دون حاجته
فللنفاق وريثاً صار عقباها
أين الحماة لها أبناءُ جلدتها
فمن بنيها تعالى صوتُ شكواها
تشكو عقوقاً لها من كل منتحِلٍ
مذاهبَ الكفر بالاجحاف جازاها
كالأمّ تبكي على أبنائها أسفاً
أن قابلوها بإنكارٍ لمسعاها
وغادروها لجهلٍ نحو هرطقةٍ
باسم الحداثة ضمّتهم لمرضاها
فلستَ تفهم من أقوالهم كلِماً
ولستَ تعقل فكراً من حُميّاها
نعقٌ يثير صُداعاً عند سامعه
أو كالنعاج ثغتْ من جدب مرعاها
أولاءِ قومٌ أضلّ اللهُ صنعَهمُ
في عقّ أمٍّ قضاء الله أعلاها
فبوركت حرّةً أمّ اللغات على
رغم الأعادي بعزٍّ طولَ دنياها
وبوركتْ لغةً من يوم مولدها
ليوم عودتها لله مولاها
وبوركت لغةَ طاب الحديث بها
لساكني جنة الفردوس مأواها


الأعلى