الاثنين ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم أمل الجمل

إبراهيم البطوط " مخرج " إيثاكي"..

كهف عميق يُخبيء رواية تستحق السرد

من المُدهش حقاً أن يعود إلينا إنسان من خضم الحروب وأهوالها وهو لايزال قادراً على حب الحياة, ولاتزال عيونه قادرة على رؤية الأشياء الجميلة. إنه المخرج والمصور الموهوب "إبراهيم البطوط " الذي قضى ثمانية عشرة عاماً بين الحروب وخطوط النار, بين حقول الموت والمقابر الجماعية. مع ذلك تمكن من تحقيق فيلماً ـ "إيثاكي " روائي, ديجيتال, ألوان, مدته 70 ق, وبتكلفة قدرها 37 ألف جنيه فقط ـ ينطق بالجمال في كل كادر منه, فيلماً يُؤكد أن الحياة بها ما يستحق المعاناة. تُرى كيف حافظ ذلك المبدع على بقاء فكره سامياً ؟ هل مست روحه وجسده عاطفة نبيلة مثلما قال الشاعر اليوناني "كفافي" ؟

يعترف " البطوط" أن عقله أصبح مليئاً بصور الحرب وبالذكريات المؤلمة, لكنه يرفض أن يتخلى عن الأمل, فإذا فقده كيف يستمر. تُنفره الشخصيات المستسلمة ممن يُجيدون تجسيد أدوار الضحايا. يرى أن الصعاب إحدى سمات الحياة, أن على الانسان مقاومتها, أنه إذا تركها تطغى عليه فلن يُصبح ضمن الأحياء, بل سيكون نصف ميت. تلك النظرة تنعكس بوضوح في كل من فيلمه التسجيلي "26 ثانية في باكستان " إنتاج 2006, وفيلمه "إيثاكي" الذي أهداه إلى من ذهبوا إلى الحرب ولم يعودوا, إلى من ذهبوا وعادوا مكسورين, وإلى من ذهبوا وعادوا أكثر قوة, إلى "علي تانخي" الذي لم يعش ليرى فيلمه الأول وإلى أصدقائه الذي ساعدوه ليرى هو فيلمه الروائي الأول متوسط الطول "إيثاكي".

يمتلك "إبراهيم البطوط " وراء شخصيته كهفاً عميقاً. هو مخرج واعي يرى العالم بعيون الكاميرا, مُرهف الحس, هاديء, يميل إلى الصمت الطويل, قليل الكلمات لكن عندما يتحدث تكشف كلماته المختارة بدقة عن عقل متأمل, وروح صافية.. خلف طفولته, وشبابه وسنوات نضجه تختبيء رواية تستحق السرد. هو من مواليد بورسعيد. كان في الرابعة من عمره عندما وقعت حرب 1967, فظلت الحرب عالقة في ذهنه. درس في الجامعة الأمريكية. حصل على بكالوريوس العلوم, فيزياء, 1985. كان متفوقاً في الإلكترونيات, فعمل مهندساً للصوت في شركة تصنع الأخبار والأفلام الوثائقية لعدد من الشركات الأجنبية. هناك تعلم التصوير والمونتاج والإخراج. منذ عام 1987 أصبح مصوراً تليفزيونياً تسجيلياً محترفاً. سافر إلى أوروبا. عمل مع عدد من القنوات التليفزيونية العالمية منها التليفزيون البريطاني, قناة زد دي إف الألمانية, وآرت تي الفرنسية, تي بي إس اليابانية. ذهب إلى البوسنة والهرسك وعاش فيها من 1992 إلى 1997. كان شاهداً على فظاعة الحرب في كل من رواندا والشيشان, الصومال وجنوب السودان, سيرلانكا وأفغانستان والبوسنة, فلسطين, لبنان, العراق وإيران.. صنع عدداً لا حصر له من القصص الإخبارية والتسجيلية حول الخسائر البشرية والمادية والمعاناة الإنسانية جراء الحروب. حصل على عدد من الجوائز العالمية. من أعماله: بغداد 2004 , المقابر الجماعية في العراق 2003 , إدمان المخدرات في الكويت 2002 , الحج إلى مكة 2001 , ثلاث نساء ألمانيات 2001 , نجيب محفوظ 1999, بداية الحرب في كوسفو 1998, العبودية في السودان, الحرب الأفغانية ضد مزار شريف 1996.

إصابة "إبراهيم البطوط" بطلق ناري على أيدي قوات البوليس المصري أثناء قيامه بالتصوير في عام 1988 وضعته وجهاً لوجه أمام قوة الصورة وخطورة ما تصنعه, جعلته يستعيد من بئر الطفولة صور الحرب النابضة بالألم. تولدت لديه رغبة قوية في معرفة الأسباب التي تدفع الشعوب إلى التورط في الحروب. تلك الرغبة شكلت نقطة جوهرية في قطار حياته إذ قادته إلى مساره المهني, فقام بتغطية 12 حرباً, كانت حرب البوسنة أكثرها خطورة. هناك أُصيب للمرة الثانية.

كان " البطوط" يعتقد أن الصورة ستلعب دوراً في تغيير العالم, وفي إنهاء الحروب. ظل يُرسل إلى العالم صور القتلى والجرحى والدمار الذي صنعته الحروب منذ عام 1992 حتى 1995 لكن لم يتحرك أحد, ففقد ذلك اليقين. أدرك أن الدائرة اكتملت, أنه يُخاطر بحياته من أجل لا شيء, فقرر العودة إلى الوطن.

وصل المخرج الشاب إلى قناعة أن المعاناة الإنسانية تتشابه في كل مكان, أن الرجل " الكناس" الذي يظل طوال النهار وظهره محني ولا يحصل إلا على 200 جنيه ويُعاني من مئات الأمراض, وحول عنقه تلتف مسئولية أسرة يحاول السعي للإنفاق عليها, فيقف في الإشارات ينظر إلى الناس ربما منحوه اثنين من الجنيهات وربما امتنعوا. معاناة ذلك الرجل لا تقل عن معاناة تلك المرأة بطلة فيلم "جربافتسيا" التي تم اغتصابها في حرب البوسنة والهرسك.

ربما يكون حنين "إبراهيم" إلى خوض تجربة السينما الروائية هو ما أسهم في تشكيل رؤيتة بأن لغة الفيلم الوثائقي لم تعد تُؤثر في الجمهور, بأن عليه البحث لاكتشاف لغة آخرى تساعده على التواصل مع الناس ومشاركتهم أفكاره. أدرك أن صيغة الفيلم الروائي سوف تمنحه مساحة أكبر من الحرية, فقرر تنحية العمل التسجيلي جانباً ـ مؤقتاً ـ والاتجاه إلى الأسلوب الروائي. وكانت النتيجة فيلمه البديع " إيثاكي".

إيثاكي
يدور الفيلم حول مجموعة من الإيثاكات.. "إيثاكي" الرحلة الطويلة للفارس اليوناني "أوليسيوس" التي كان يجب أن تنتهي في أيام لكنها دامت سنين طويلة قبل أن يعود إلى وطنه وزوجته بعد إنتهاء حرب طروادة. و"إيثاكي " قصيدة الشاعر اليوناني "كونستانتين كافافي" الذي سكن في مدينة الإسكندرية وقال فيها :

عندما تتهيأ للرحيل إلى إيثاكي تمن أن يكون الطريق طويلاً. حافلاً بالمغامرات عامراً بالمعرفة. لا تخشي الليستريجونات والسيكولوبات, ولا بوزايدون إله البحر الهائج , لن تجد أبداً أياً من هؤلاء في طريقك إن بقى فكرك سامياً, إن مست عاطفة نبيلة روحك وجسدك.
و"إيثاكي" الثالثة هى رحلة المخرج "إبراهيم البطوط " وتجربته الذاتية والتي استوحى منها فكرة فيلمه. ثم مجموعة أخرى من الإيثاكات لشخصيات حقيقية تعرف عليها المؤلف وآخرى ربطت بينه وبينها صداقة.

تدعونا "إيثاكي" ألا نكتفي برؤية الأشياء من حولنا لكن علينا أن نحس بها, أن نكتشف طاقة الحياة والحب الموجودة بداخلنا بإزالة التراب من فوقها. فالطريق إلى "إيثاكي" لابد أن ينبع من داخلنا حتى نستمر. والأهم من ذلك أن نستمتع بالرحلة الممتدة, فالجمال والمتعة الحقيقية ليست في الهدف بل في السبيل الى ذلك الهدف.
لم يعتمد الفيلم في نسيجه على البناء التقليدي للحبكة, لم يكن هناك سيناريو مكتوب. فقط شخصيات لها ملامح عامة في ذهن مبدع العمل وحده, وحوار كتبته "مريم ناعوم" بعد نقاش مع المؤلف. تجربة تقترب من روح الإرتجال, بها قدر كبير من المخاطرة إن لم يكن ذهن مخرجها حاضر بصفة مستمرة.

في أولى تجاربه الروائية كشف " البطوط " عن قدرته الإبداعية في اختيار المعادل البصري والجمالي لموضوعه الشعري, وفي اعتماده كثيراً على اللقطات الطويلة الملائمة لطبيعة "إيثاكي", في اختيار وتوجيه الممثلين حتى لو كانوا من الهواة, في تعاونه مع مؤلف موسيقي مبدع هو "أمير خلف", في قدرته على القفز فوق الصعاب وتحقيق فيلم ممتع بعيداً عن السينما السائدة ومن دون ميزانية تُذكر.

26 ثانية في باكستان
يحكي الفيلم التسجيلي "26 ثانية في باكستان " ـ 18 ق ـ عن اللحظات القصيرة التي تقلب حياتنا رأساً على عقب, عن زلزال ضرب باكستان كانت مدته 26 ثانية.. 26 ثانية فقط قُتل خلالها مائة ألف وجُرح أكثر منهم.. 26 ثانية تركت ثلاثة ملايين إنسان مشرد.. رغم كل ذلك لم تنل هذه الـ 26 ثانية من روح الشعب الباكستاني. الفيلم مليء بالآنين وبالشجن, لكنه أيضاً مفعم بالأمل, بروح التحدي والصمود.

في لقطات سريعة تنتقل الكاميرا بين فتاة مصابة تبكي في لوعة فراق ذويها, وطيارة تحلق في السماء تحمل المصابين, بين "عربة كارو" تحمل الجثث المتعفنة, وإناس يضعون الكمامات لئلا تصلهم رائحة الموت في كل مكان, بين رجال يُكسرون أحجار الجدران المنهارة, وآخرون يبحثون تحت الأنقاض عن أموات وربما أحياء.
يتكون نسيج الفيلم من سلسلة لقاءات مكثفة مع عدد من نساء باكستان. اعتمد المخرج على فكرة أن يكون الفيلم بمثابة جلسة علاج نفسي لهؤلاء النسوة. ترك لهن مساحة من البوح. ساعده على ذلك "أسماء بشير" التي تعمل بالدعم النفسي والإجتماعي في الهلال الأحمر التركي. إنها فتاة دُفنت هى وأسرتها تحت الأنقاض. كانت تشعر بالناس وهو يسيرون فوقها. أخرجت إصبعها وحركته من تحت الأنقاض فأدرك المارة وجود إنسان حي مدفون فاستخرجوها هى وعائلتها. تُوفي والديها وأُصيب أخيها. في البداية شعرت بالغضب الشديد وتساءلت كيف يفعل الله ذلك ويأخذ منها والديها؟. لكن بعد عدة جلسات نفسية أدركت نعمة نجاتها, وأنها ليست الوحيدة التي تمر بهذه المحنة القاسية. أكثر من أي وقت مضى شعرت بالرغبة في مساعدة الأخرين.

ذكاء المخرج وإدراكه لطبيعة النساء قاده إلى تحطيم الحاجز النفسي بين هؤلاء النسوة وبين الكاميرا, وذلك من خلال توظيف وجود " أسماء". حكت لهن عن معاناتها وسألت عن آلامهن فانسابت الأحاديث صادقة متدفقة كالشلال. نساء وأطفال ورجال لم يجربوا من قبل الإقامة في الخيام, لكنها أصبحت مصيرهم المحتوم. سيزداد الوضع صعوبة مع قدوم الشتاء وبرده الوشيك وسقوط الأمطار. مات بعضهم في الزلزال وربما يموت الباقون من البرد القارس. سيكون الأمر غاية في الصعوبة وسيقع معظمهم فريسة للأمراض. رغم كل ذلك استمروا في نصب الخيام ومواصلة الحياة بل وإقامة حفلات الزفاف. إنها إرادة الحياة تقهر قوة الموت.

أجمل ما في الفيلم أنه يمنحنا فرصة الإقتراب من أعماق هؤلاء الضحايا. كان "إبراهيم" مخرج ومصور الفيلم مثل القناص المحترف. قناص يُقيم علاقة عشق خاصة مع أدواته, مع الكاميرا التي يحملها بين جوانحه, مع الطبيعة من حوله, قناص للمشاعر الحقيقية واللحظات الإنسانية التي تكشف سراديب النفس البشرية. اهتم بالإشارات الجسدية الكاشفة, بلمسة الأيدي المتضامنة, بنظرات العيون على إختلافها, خصوصاً عيون تلك الطفلة ذات السنوات المعدودة. عيونها الشاردة تُحدق في عين الكاميرا, بينما أناملها تتحرك في رقة وشرود فوق أيدي الأم. يالها من لقطة بديعة. تُرى فيما كانت تُفكر هذه الطفلة ؟!. هل كانت تفكر في الدور الذي يلعبه هذا الفيلم في تحريك ضمير الشعوب, وفي تغيير مصيرها هى وعائلتها؟! أم أنها تُدرك ببراءتها الفطرية أن الناس حينما يرونها سيقولون بحزن شديد: إنه لشيء رهيب ومؤلم, ثم يواصلون تناول العشاء.

كهف عميق يُخبيء رواية تستحق السرد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى