

إنها الأرض
لا أعرف كيف أسرد لكم ذلك، ومن سيصدقني، وكيف يعقل أن يكون ضفدعا أستاذي ومرشدي، نعم فهو ضفدع ليس كبقية الضفادع الصغيرة فهو يفهم لغة البشر، ويعرف كيف يتواصل مع أسرتي، في أول وهلة ظننته مثل كل الضفادع، عيون جاحظة على رأس مدور وأذرع صغيرة، ونقيق في الليل الأدهم.كنت قد وجدت نصائح كثيرة ممن حولي، عليّ أن آخذ الحيطة والحذر، فهذا الضفدع له أكثر من خمس عشر شخصية، بالرغم من أن معلوماتي حول الضفدع بانه مسالم، وعابد، وحيوان لا يؤذي أحداً.
كنت في الطفولة أحب اللعب مع الضفادع، لكنها كانت تترك في يدي مادة سائلة، فحذرني أخي الأكبر وأخبرني بأن هذه المادة ضارة جدا للبشرة وكذلك سامة، وحدثني أحد الاخوة بأن للضفدع سم قاتل، فهو الحيوان الوحيد من البرمائيات القادر على قتل الثعبان وامتصاص سمه.
إن استاذي الضفدع، عندما يقفز وهو سائر في طريقه إليك، فلابد من أن تكون هناك مصلحة، فلا يمرّ بك مطلقا دون أن تكون هناك مصالح واضحة.
في أحد الأيام، مرّ بي الضفدع، وطلب مني أن أشارك في قتل الجراد، فالجراد ضار بالمحاصيل الزراعية والأشجار والأزهار، امتثلت لأمره وفجأة اكتشفت أنه لا يوجد جراد، فقد كنت اشاركه في قتل الحشرات ليلتهمها.
ومنذ ذلك الحين بدأت أفهم أستاذي أكثر واكثر وأكثر، وأدركت في وقت مبكر أنه الوحيد في هذه الكرة الأرضية الذي عنده القدرة على إقناع والدي في كل صغيرة وكبيرة رغم أن والدي مفكر وسياسي واكاديمي من الطراز الأول، فأنا أحب والدي حبا جما أكثر من أي كائن في هذه الدنيا، ولكن كانت تزعجني علاقاته بالضفدع، طلبت منه الاحتراز، فهذا الضفدع يسعى لتحقيق مراده، وهو برجماتي من الدرجة الأولى؛ فأفهمني والدي أننا الوحيدون في هذه المدينة القادرون على التواصل مع ضفدع، فالضفادع لا تتواصل مع البشر، لعله كرامة من كرامات الله، وذكّرني عليّ أن لا انسى فالضفدع معلمي، فهو من علمني كيف انسج الحروف وأحولها إلى كلمات، وكيف حولني من إنسان عادي إلى شخص مجتهد، ومثابر ومكافح.
أخبرته مهما كان، فقد تعلمت منه الأنانية، وحب الذات، وعداء الناجحين، فلا أتذكر جملة واحدة قالها لي كانت صحيحة، مستغلاً صغر سني في ذلك الزمان،علمني متلازمة الضفدع، فالضفادع لا يمكن طبخها إذا تم رميها في ماء ساخن،والشعوب التي تعودت على أكل الضفادع تعلم أن طريقة طبخها تبدأ بوضعها في إناء به ماء بارد، ومن ثم وضع الإناء في نار هادئة، ثم زيادة درجة الحرارة تدريجياً.
ولهذا فالناس في بلدي لا تشعر بالتغيرات التدريجية التي تحدث داخلها وخارجها، وتعودت التصالح مع الذات في الايجابيات والسلبيات و القبح والجمال، والايمان والكفر.
لكنني تذكرت أيضاً أنني تعلمت منه معاني كثيرة، تعلمت كيف أحطم خصومي، وكيف أزيح أي عقبة من طريقي إلا أن الفرق بيني وبين أستاذي الضفدع، أن الضفدع ليس لديه ما يخسره، فهو لا يعنيه الشرف والكرامة، وليس له إحساس الإنسان (ابن آدم)، ولا يبإلى إن غضبت منه أو أغضبته، أو احتقرته أو شتمته بأقذع الألفاظ!
لقد مرّت الأيام والسنوات، رغم أن أعمار الضفادع قصيرة إلا أنه ما يزال بيننا، الجميع يخشونه، منهم من قال أنه جن، ومن قال أنه إنسان حوّله سحر ساحر الى هذه الشكل والمسخ.
وهاهو بعد مرور كل هذه السنوات، أصبحت أنا خصمه اللدود، ومن خلال عينيه الجاحظتين استطيع أن أعرف مدى ما يقابلني فيه من جفاء، وهذا ما جعلني مطمئن البال، فهو لا يعادي إلا المتميزين.
دارت (حكاوى) كثيرة من كبار سكان المدينة حول هذا الضفدع، وقد بوغت بعدة أخبار، سمعت أن ابي هو من أحضره، ويقال أنه جلبه من مستنقع لا يعيش فيه كائن غير النباتات والطحالب، فأشفق عليه، وحمله.
ويقال أن شيخ المدينة (الراحل) خرج من المسجد فرأى صبية صغاراً يلعبون به، ويؤلمونه، فحمله ودعا الله له بطول العمر والحكمة، ونسى أن يدعو له بالصلاح.
لا يهمنا ما يقال،أذكر مرة أن الضفدع رسم خططاً ليسيطر على المدينة وسافر مغادرا المدينة ليأخذ قسطاً من الراحة في أحد المستنقعات ؛فاستدعاني عمدة المدينة، وكشف لي مخططه،وان جميع السكان يخشونه ويهابونه، فالضفدع على علاقة بأقوى شخصية أكاديمية وهو أبي، وبمدير الشرطة، وأقوى رجل دين بالبلاد، و أنني الوحيد القادر على مواجهة ذلك،وأن المدينة في خطر بسبب جشع الضفدع ؛ فكل المستنقعات التي حول المدينة ملكه،وهناك أطفال صغار يصطادون له الحشرات ليل نهار، رغم كل ذلك، لماذا يفكر في تدمير المنطقة التي أوته وأكرمته، فكرت ملياً واتصلت ببعض الرفاق، تراصوا جميعا، فمضيت وحدي في فك شفرات الخطة، ونجحت،وفشل المخطط، كنت انتظر عودته، وأعرف أنه سينال مني، لكنه رجع يحمل في يديه هدية، هي أحب شيء إلى قلبي.
جاء الضفدع ودعاني لرحلة قصيرة الى بعض مؤسساته الخيرية التي أسسها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة فقد انشأ خلوة لتعليم الصغار حفظ كتاب الله،وآبار في بعض القرى،ومدرسة صغيرة في ضاحية المدينة، وكان يحدثني عن كراماته، وأنه فعل كل هذه الصدقات، ولا يريد جزاء أو شكورا،وقدم لي هديته ورقة صغيرة،فتحتها فإذا بها منحة دراسية للخارج في أعظم بلاد الله، تلك الامبراطورية التي حلمت بها.
فرح ابي فرحاً عظيماً، واحتفلت أسرتي،وتحدث شيخ المدينة في خطبة الجمعة عن الصداقة والاخوة والوفاء متخذاً الضفدع نموذجاً وعنواناً للمحبة والكرم، وصار الأمر حديث المدينة.
لم أكن أعرف ما افعله، هل اقبل أم ارفض،وإن رفضت سيلعنني الجميع،خاصة البسطاء والسذج، وربما أبي سيبصق على وجهي،والإمام الفاسد سيجدها فرصة ليطعن في نواياي، وأسرتي ستغضب، وتحزن أمي، وسيسخر مني رفاقي.
هكذا رضيت بالواقع المرير، واتجهت في يوم بارد الى المطار، أسرتي،ورفاقي،والضفدع بابتسامته العريضة الساخرة،أعرف أنهم نجحوا في إبعادي،وأنني في طريقي الى منفاي الأخير، وعندما أعود لن أجد المدينة هذا إن عدت.
رحت أصافحهم واحد تلو الآخر، نزلت قطرات من الدموع الندية متدحرجة على وجنتي أخي الصغير وقال هامساً:
"حتى أنت"!!
كان وقع الكلمات قوية، وقاسية على مسمعي؛ فتوجهت متجاهلاً صداها الى الطائرة الصغيرة، والصدأ يتردد"حتى أنت"،وأنا على عتبات السلم، تذكرت أشياء جميلة أهدتني إياها هذه المدينة الصغيرة،تذكرت التربة الطينية التي لعبت بها في طفولتي، وبنيت قصوراً، وعربات، وعرائس، وحيوانات،تذكرت الأراضي التي زرعتها بيدي، ـوالأشجار التي غرستها، تذكرت الكتابات التي كتبتها على الجدران، وخربشت بها الحيطان،إنها حياة لن تجدها في أي مكان،إنها الأرض، المدينة التي اسقتني وروتني حين عطشت،وأطعمتني عندما جعت،وعلمتني الحروف والكلمات،وداعبتني نسائمها منذ نعومة اظافري.
لن اتركها لهذا الجشع،ولن اذهب لتضيع منا الأرض،أنا ابن هذه التربة، وقد آن الأوان لأحميها كما حمتني في يوم من الأيام.
أعرف الضفدع كم يكره البشر، ويظن أن دمار العالم يعود إليهم،لقد حرّض الحيوانات والطيور، لكنها أحبت المدينة، ولم تخربها،قالت بعضها أن الحروب مع البشر ستكون خاسرة بسبب إمكانياتهم وأسلحتهم وعبقرياتهم، وقالت أخرى ليس كل البشر سواء، فهناك الصالحون وهناك الفاسدون، ولأنّ الضفدع يعرف قوة البشر راح ينسج خيوطه السامة،التفت عائداً، وكابتن الطائرة واقف أمام الباب ينتظر صعودي "ما بك"؟!
رأيت أخي الصغير يخرج من بين الجموع راكضاً نحوي ويدخل بين ذراعي،وقتها عرفت أن الجميع ليس سواء، ولا يوجد نضال بلا ثمن!