

ابتسامة ليست أخيرة
يحتضن الجثمان ويحمله بقوة، يتوارى خلف الجدار، ينظر خلفه فيرى النار تلتهم ما تبقي من أجساد تركها داخل الخيمة، يحاول أن يختبئ من الأعيرة النارية التي تنهمر في كل مكان، يحاول أن يغالب دمعاته، أمتار قليلة بينه وبين الخيمة التي بها زوجته على الجانب الآخر.
جمع كل قوته وانطلق به، يسرع تارة ويبطئ أخرى، يتفادى الأجساد التي تعترضه وطلقات الرصاص التي تتراقص حوله، كم تمنى أن تخترقه تلك الطلقات، حتى يلاقي الأحبة، ولكنه حلم الأخذ بالثأر وتلك الثكلى التي تنتظره على الجانب الآخر؛ يدفعانه للبقاء.
يتثاقل الحمل عليه، فيسقطان معا، يرفعه ويتمسك به جيدًا، يختبئ خلف أحد الأجساد، يرفع رأسه حذرًا، ثم يخفضها، يشفق على نفسه، وقد غلبه كبر سنه، وقلة حيلته، ورائحة الموت التي تملأ المكان، ينطلق إليه أحد الشباب حتى يساعده في حمل الجثمان؛ فتباغته إحدى الطلقات، فينفجر رأسه.
يستجمع ما تبقى من قوته، يشجع نفسه بالتكبير والتهليل، لم يتبق إلا القليل، يحمله مرة أخرى وينطلق يراوغ القناصة بإحساسه وقلبه المعلق بأستار الدنيا، تخترق إحدى الرصاصات ساقه، فيسقط منه مرة أخرى، ينظر إلي السماء بلونها الأسود، يقطع من ثيابه المهترئة كي يمنع نزيف الدماء، يحاول أن ينهض من رقدته فلا يستطيع الوقوف على قدم واحدة، يزحف على الأرض، ويدفع نفسه بقوة حتى يستطيع أن يجر الجثمان معه، يغير من أوضاعه، يزحف على ظهرة تارة، وعلى بطنه تارة، يستمر في دفعه نحو الخيمة، يرى زوجته خلف الدخان على باب الخيمة، تهرول يمينًا ويسارًا كالمجنونة، تلطم وجهها، تصرخ في هستيريا، يشفق عليها ويقول: والله راجع بيه يا فاطمة.
يواصل زحفه مرة أخرى، كلما اقترب، حاصرته الرصاصات. يصل أخيرًا، تحتضنه زوجته وتقبله بحرقة، تنكب على جسد ولدها وتضمه بحرارة فراقه الأبدي، تقبل ثيابه البيضاء التي تخضبت بالدماء، تنزع عن وجهه الغطاء، تطلق زغرودة كبيرة، عندما تجد ابتسامته تنير الكفن.