الخميس ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٢
بقلم سناء أبو شرار

الأدب والذكريات

ينقسم عالم كلٍ منا إلى ثلاثة أقسام: الذكريات والواقع ثم المستقبل. منا من تتوقف حياته عند الذكريات ومنا من لا يتجاوز وجوده حدود الواقع، وهناك من ينتظر المستقبل للمزيد أو لتحقيق الحلم أو ملاحقة الوهم.

وهذه الأقسام الثلاثة لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال الأدب، هذا إذا أردنا أن نتحدث عنها بجمالية معينة أو رقة شعور ينتابنا أحياناً أو دائما؛ فلكل ما في وجودنا وجهان وجه واقعي ووجه آخر يتعلق بمشاعرنا تجاه ما نعيشه ولا يستطيع أي شيء التعبير عن تلك المشاعر إلا عبر الأدب وربما الشعر ولكن الشعر يبقى محدود المساحة لأنه لا يمنح استرسال الأدب أو أبعاد الرواية.

ولكن الأدب له جذور عميقة في عالم الذكريات أو بالأحرى لا يمكن التعبير عن الذكريات الممتزجة بالمشاعر إلا عبر الأدب، يمكن الحديث عن الذكريات كأحداث مرت بتفاصيلها الزمنية والمكانية ولكن مساحة الشعور لا يمكن التعبير عنها إلا عبر الأدب، لذلك كانت الروايات الأكثر جاذبية للقارئ هي التي تمتزج بذكريات عميقة تم التعبير عنها بمشاعر استثنائية.

وما يجعل الأدب مهم بالنسبة للذكريات هو أنه يمنح الذكريات نبض الحياة الذي يحاول الزمن أن يسبله منها، وكلما كانت المشاعر جياشة كلما امتدت حياة تلك الذكريات حتى أن البعض من البشر لا يحتملون الحياة إلا عبر ذكريات كانت تُشكل السعادة الوحيدة التي عرفوها في حياتهم؛ فعالم الذكريات ليس عالم منفصل عن الواقع بل إن الواقع يستمد جذوره من تلك الذكريات، ويكفي أن ندرك أن كل جزء من واقعنا هو امتداد لذكرى ما، وأننا لا نعيش منفصلين عن الماضي، لذلك يحتاج جميع الأطباء لمعرفة تاريخ المريض الصحي والمرضي، ويحتاج الأطباء النفسيون على وجه الخصوص لمعرفة أحداث معينة في ماضي المريض ليتمكنوا من معرفة جذور المرض النفسي.

فنحن لا نحيا مقطعي الأوصال في أفكارنا ووقعنا، لكل منا جذور عميقة تمتد عبر الأيام والسنوات، والزمن هو تلك التي التربة حيث انغرست الجذور، والفروع هي الأيام التي نعيشها في الواقع المحسوس، والثمار هو ما ننتظره من المستقبل بتلهف وأمل، وقد تأتي الثمار كما نشتهي وقد تكون شديدة المرارة وقد تسقط قبل أن تصل لمرحلة النضوج.

الأدب فقط يمنح للماضي البريق الذي يحجبه الزمن بتراكم الأيام والسنوات، فيكفي أن تعود بنا الذكرى إلى فترة جميلة من حياتنا حتى تلتمع العيون ربما بتأثير الدموع وربما بتأثير عمق الشعور، ولا يستطيع أي شخص أن يعبر عن جمال الماضي أو حزنه أو تقلبه دون أن يتم تجميل تلك الذكرى بعبارات أدبية، فالأدب فقط هو ما يمنح الذكريات إشراقه الواقع، الأدب فقط هو من يُخرج تلك الذكريات من القبو البارد كي نشعر معه بدفء الماضي وعودة الحنين الذي يُصاحب الكلمات والحروف.

وحين غرق الإنسان المعاصر في عالم من الصور والأحداث والأخبار التي تتوالى على هاتفه وعل جميع أجهزته الإلكترونية وحين أصبح الفيس بوك هو سيد العلاقات، وحين أصبح ما يدور على السطح أهم مما يختبئ في الأعماق بدأ الإنسان يفقد وبشكل بطيء ولكنه ثابت روابطه مع الذكريات، أصبحت مساحة الماضي تتقلص أمام إثارة الواقع وتضخيم المستقبل، لم يعد هناك أوقات للذكريات التي تمتزج بالأدب والتي تعيد تشكيل الذات الإنسانية بصورة راقية وشفافة، فيبدو كل البشر متشابهون، وتبدو كل المشاعر سطحية فلا توجد خصوصية لثقافة أو لذكرى او لشعور، يشترك البشر في التسابق المحموم لرؤية الصور والموسيقي وتجميع الإعجاب ونشر الأخبار التافهة.

ولا يدرك الإنسان المعاصر كم يفقد من جمال الحياة حين يمضي كغريب عن ذكرياته، وحين يصبح الأدب بضاعة كاسدة، وحين يكون المستقبل مجرد ركض محموم لأجل المادة، وحين تصبح الدقائق والأيام مشحونة بالاغتراب عن الذات وعن الذكرى وعن الشعور؛ قلة قليلة من البشر يدركون ويتمسكون بهذا العالم الرائع والذي يًسمى أدب الذكريات، أو عالم الذكرى الممزوج بجمال الأدب، وهم يعيشون في واحة بعيدة لا يمر بها الكثير من البشر ولكنهم يدركون وبعمق أنهم من القلة المحظوظين الذين لا يزالون على علاقة مع ذكرياتهم وذواتهم وينظرون للمستقبل كضيف جميل وليس كبورصة أحلام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى