الأربعاء ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم عبد الرحمن الوادي

البصـــــاص

صفق باب المرحاض خلفه بغضب شديد حتى اختلط صوته بصوته الجهوري وهو يلعن بأغلظ اللعنات رائحته الكريهة التي ملأت عليه الأرجاء فأزكمت خيشومه، وفر منها الذباب يطلب السلامة بعيدا في ملكوت الخالق. زادت نتانتها في الآونة الأخيرة من جراء الطعام الذي لا يجد بدا من جلبه من خارج البيت لدى عودته في وقت متأخر من الليل بعد عمل يوم طويل وشاق. لقد أصبح يعيش وحيدا منذ شهور، بعد فرار زوجته من جحره المتعفن الذي لا ينفع معه حتى صبر أيوب لتحمل الارتماء في قذارة حضنه كل ليلة تحت التهديد والوعيد، ولم تكمل بعد عامها الأول في خم الزوجية. خيرا فعلت حين فطنت إلى بداية زحف الشيخوخة المستعجلة على نضارة شبابها المرغم على الرحيل قبل الأوان. وتأتي منه بذرية تسود نسله القبيح، فلا يغفر لها التاريخ جريمتها ضد الإنسانية. كما هي لن تغفر أبدا لوالدها الذي جرها من ناصيتها ذات مكر من زوجه الأفعى ليرمي بها إلى قبر بلا قعر، مقابل حفنة من النقود وضحكة خبيثة من الخنزير. آه ثم آه لو قدر وأمهل الأجل أمها بعض الوقت.

بصق في الماء الآسن في المغسل المختنق، فرشه رذاذ كما لو كان يرد عليه بصقته. وحين رفع بصره إلى شبه مرآة معلقة على جدار متآكل. لم يصدق ما رأى، لقد اختفى كل شعر فروته وشاربه وذقنه. في حين، بدا كثيفا على حاجبيه وكأنه قد تجمع عليهما من كل منابته. كشف عن إبطيه، أنزل سرواله. لا شعرة واحدة هنا وهناك على الإطلاق. ماذا جرى له خلال نومه؟ هل استوطنت إحدى الجراثيم اللعينة معدته؟ كيف سيتمكن من الخروج بعد اليوم لمتابعة تحقيق إنجازاته الباهرة في مهمته الجسيمة التي اختاره لها سيده من بين رهط من أقرانه بقرون خفية. يتلصص ليل نهار على جميع ما يدب في مرمى بصره؛ حتى يرضي سيده بتقاريره المفصلة والمعللة في نفس الموعد اليومي قبل ساعة واحدة بالضبط من حلول يوم جديد. تملكت جسمه رعشة قوية. جف حلقه. تصفد العرق من كافة مسامه. قلبه يكاد خفقانه السريع يهشم ضلوعه لينطلق خارجا من هول الصدمة. لم تعد رجلاه تقويان على حمله. ارتمى كالدلو المقطعة فجأة حباله على أقرب موضع إليه. ظل واجما وهائما في الفراغ.

بعد وقت لا يعرف كم مر منه، مد كفه المرتعشة إلى ذقنه، إلى شاربه، إلى رأسه، إلى حاجبيه. أطل على إبطيه، تحت سرواله. كل شيء عادي. عندها خفت حدة خوفه. تمالك نفسه شيئا ما، وقام بحذر شديد لينظر من جديد إلى حاله في المرآة. فرأى ما رأى من قبل. يا للمصيبة الرهيبة! حاجبان كثان يخيفان حتى الغيلان. هوى على الزجاجة بكل ما أوتي من قوة حتى تطايرت شظاياها حوله في أرجاء المكان. لم يكترث للدم الذي فار بين أصابعه. راح يلقي نظرة إلى كل جزء منها، فيرى ما رأى في كل واحدة منها. وحين تحسس من جديد مواضع شعره لم يعثر عليه هذه المرة، فانتابته ضحكات هستيرية، وانبرى يدور حول نفسه كالكلب المسعور، ثم انطلق كالسهم صوب النافذة ليلقي بنفسه خارجها. وما كاد يستقر على الأرض مدرجا في دمائه، حتى تحلق حوله حشد كبير من المتطلعين والمتسائلين والحامدين الله كثيرا على نقمته عليه.

فتحت الشرطة تحقيقا في قضية قتله، وحشرت في مخفرها عشرات المتهمين المشتبه بهم ممن نالتهم عيونه بسوء، فتكبدوا منها ويلات تشيب لها الغربان. هنا تيقنوا أن موته مثل حياته وبال على وبال، قبح يلتهم الجمال.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى