
البيت
لم يكنْ بيتًا...
بل اسمي حين أنسى مَن أنا،
وظلي حين يغمرني البكاءَ
فأحتاجُ مَن يُعيدُ وجهي إليّ،
وصوتي إلى صداه.
يُشبهني كأنَّه مرآتي
حين يتيه وجهي في الضباب.
يُشبهني
حين أمدُّ الليلَ فوق كتفيَّ
كعباءةِ نبيٍّ بلا معجزات.
كان بيتي
حينَ ضلَّ الهواءُ طريقَ المساء،
وكان يُمجّدني
كأنّي وليٌّ على الأرضِ
أمسكُ رأسَ الدعاء،
وكان يردُّ إليَّ اسمي
إذا ما تهجَّيتُ ظلي
وضيّعتُ في الليلِ خيطَ البكاء...
إذا ضاقَ قلبي
أمدُّ إليه النداءَ،
أغرسُ في طينِه الأمنياتِ،
ليورقَ في داخلي الكبرياء،
وكان يُربّتُ فوق يديَّ،
ويمنحني الدفءَ
في بردِ الشتاء...
في الليل،
كنتُ أناجي الجدارْ،
وأُصغي إليهِ،
وكان إذا ما حزنتُ،
تواطأَ ضوءُ النوافذِ معي،
وأرسلَ لي زهرةً من غمامٍ
تمرُّ على القلبِ
مثلَ الرجاء...
هنا
ضحكةُ الطفلِ
تجري على ركبتيهِ
كضوءِ الصباحْ،
هنا
تختبئُ الحكاياتُ
في مقعدٍ
صار من غربةِ الوقتِ نواح،
هنا
تسهرُ الأمُّ
بين الدفاترِ والأمنيات،
وتحرسُ أحلامَنا بالدعاء،
كأنّ النجاةَ أيقونةً
تُخبّئُها في الملح،
في المناديل،
في فتحةِ الباب،
أو في أنينِ المساءِ...
دخلوا...
بعثروا دفترَ الذكرياتِ
كأنّ القصائدَ كانتْ وباء،
وفكّوا المفارش،
سرقوا الدُمى،
ونهشوا في الجدارِ الصفاء...
كأنَّ المكانَ حرامٌ عليهم
وهم أهلُ هذا البلاءِ!
كأنّي أنا الدخيل،
وهم سادةٌ
في الخرابِ،
وفي الكبرياء...
وهل تستوي قُبلةُ البابِ
في كفّ غاصبٍ
كقبلةِ طفلٍ
ينامُ على دفءِ خصرِ العراء؟
نُفيتُ،
وصوتي على البابِ
صار غبار،
وبابي يُغنّي لِمن يسكنونَ
ولا يعرفونَ الجدار...
فهل من خطاياي أني بقيتُ
أُعدُّ الغيابَ
كالليل في ضوء النهار؟
أنا لا أعودُ إلى البيت،
أنا البيتُ حين يغيبُ الذين أحب،
وحين تُقطَعُ عنّي يدُ النافذة.
أنا لستُ أنظر من شرفتي،
أنا الشرفةُ
حينَ يشهقُ الغيابُ من جسدِ الضوء.
في البيتِ كرسيٌّ
أعرفُ أنَّه الآنَ يتكئُ على الغُرباء
كما لو كنتُ أنا.
وفيه كتابٌ
ينامُ على صفحةٍ كنتُها ذات يوم...
هل سمعتَ الجدرانَ تبكي؟
تبكي حين يمسحونَ غبارَ الأسماء
عن أزرارِ الضوء،
وحينَ يفتحونَ خزائني
كأنها ساحةُ للعداء
حينَ كان أبي يقولُ:
"ربّما تمطرُ الليلة"،
يضحكُ الأولاد،
ويفردونَ أيديهم للسماء،
كأنّ المطرَ موعدٌ مع الياسمين
بيتي...
وليسَ الحجارةُ بيتًا،
ولكن إذا ما تنفّسَ فيكَ الوفاء،
إذا ما تجوهرَ فيكَ الحنينُ
وصار الجدارُ وعاء،
وصار الغيابُ عناقًا خفيًّا
كطيفِ إلهٍ
إذا مرّ في القلبِ
لا في الفضاء...
بيتي...
هل البيتُ بيتٌ
إذا لم نربِّ النوافذَ
على صدقنا،
وإذا لم نبكِ في زواياهُ
كالعارفين؟
أنا لا أملكُ مفاتيحَه الآن،
لكنني أملكهُ
كما تُملكُ الحقيقةُ
للذاهلين
عدتُ...
وجدتُ الحروفَ تئنُّ
على الرفِّ،
تسألُ:
متى يرجعُ الشعراء؟
فتحتُ النوافذ،
أطلقتُ ظِلِّي،
فتوارى الفناء...
أنا البيت...
وحين أعودُ إليهِ
سأمسحُ الغبارَ
عن صوته،
وأفتحُ شقوقَ الجدار
لتنمو فيه القصائد العصماء