خفايا العشق
قراءة نفسية وأدبية في طوق الحمامة
طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي، وهو من أنفس ما ألّفه في الحب ومعانيه وأحواله، إذ جمع فيه خبرته ومعرفته الدقيقة بالنفس الإنسانية، وصاغه بأسلوب رقيق يجمع بين الفلسفة والأدب والتجربة. وقد بنى ابن حزم رسالته على ترتيب مقصود يتتبع مسار الحب، من بداياته الأولى إلى مآلاته النهائية، فبدأ بأصوله وأسبابه، ثم انتقل إلى علاماته وأعراضه، وما يعرض له من آفات كالعذل والهجر والبين، قبل أن يختم رسالته بإعادة ضبط أخلاقي يعيد الحب إلى دائرة التعفف والالتزام.
ما هو الحب؟
يصف ابن حزم الحب بأن أوله هزل وآخره جد، ولا توفيه الألفاظ إذ لا تُدرك معانيه إلا بالمعاناة والألم. وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا في ذلك الكثير، أما ابن حزم فيرى أن النفوس - قبل أن تنزل إلى هذه الدنيا - كانت في عالم علوي صافٍ، وهناك كانت النفوس قريبة من بعضها، متآلفة أو متجاورة بطريقة ما. وعندما نزلت هذه النفوس إلى الدنيا، بقي في داخلها أثر من تلك العلاقات القديمة، فعندما يلتقي إنسان بآخر يشبهه أو يناسبه في "جوهر نفسه"، يشعر نحوه بميل ومحبة، وكأنهما كانا متصلين من قبل. وهذا ينطبق على كل شيء في الوجود؛ فالأشكال المتشابهة تتآلف، والأضداد تتنافر، والأشياء متجانسة الطبائع تقترب من بعضها. فكيف بالنفس البشرية، وهي ألطف وأصفى من الأجسام؟ فمن الطبيعي أن تميل إلى ما يشبهها وتنفر ممن يختلف عنها. ولهذا قال الله تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا" أي أن سبب السكون والمحبة هو الاتصال في الأصل. وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة وتأكدت المودة، وهو ما يؤكده النبي الأكرم في حديثه إذ قال: "الأرواح جنود مجندة، ما تَعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". ولهذا، اغتم بقراط حين قيل له بأن رجلاً من أهل النقصان يحبه فقال: ما أحبني إلا وقد وافقتُه في بعض أخلاقه.
ولو كانت علة الحب هي حسن الصورة الجسدية لما أحب المرء من هو أقل جمالاً، ولو كانت تشابه الأخلاق لما أحب الإنسان من يخالفه، فالحب هو شيء في ذات النفس، وقد يكون لسبب ما، وإذا كان الحب لسبب فإنه يفنى بفناء السبب، أما الحب الحقيقي فهو أعمق من ذلك. ومع ذلك، فإن أكثر حالات وقوع الحب تكون على الصورة الحسنة، فالنفس تولع بكل حسن، فإذا رأت حُسناً وقعت، فإن وجدت وراء هذا الحسن شيئاً من أشكالها اتصلت به، وإن لم تجد شيئاً ولم يتجاوز حبها الصورة، فيكون الحب شهوة.
والمحبة أنواع كثيرة، منها المحبة في الله، ومحبة القرابة، ومحبة التصاحب، ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، والعشق الذي يختلف عن الأنواع السابقة بأنه لا سبب له فهو ارتباط روحاني لا يفنى إلا بالموت.
ويقول قائل، لو كان الحب اتصالاً بين الأرواح، فلماذا يحب أحدهم شخصاً لا يحبه؟ يعتقد ابن حزم بأن نفس الشخص الذي لا يشعر بالحب قد تكون محجوبة بطبائع أرضية، وملهيّات، وصفات تمنعها من الشعور بذلك الاتصال القديم، وكأن في نفسه غشاوة تمنع ظهور ذلك الميل. أما المحب، فنفسه متخلّصة أنقى، فشعرت بتلك العلاقة القديمة، فمالت نحو صاحبها، ولو زالت الحجب عن الآخر، لتبادلا الحب.
علامات الحب
وللحب علامات كثيرة، أولها إدمان النظر، فعين المحبة ثابتة على المحبوب لا تغفل عنه لحظة واحدة، وتتبعه في حركاته كأنها ظلّه الذي لا يفارقه. وكذلك الإقبال على حديثه، فلا يكاد يصغي العاشق إلى سواه، ويستغرب كل ما يصدر عنه ولو كان عاديّاً، ويصدقه وإن أخطأ، ويوافقه إن ظلم، ويتبع وجهته في القول والفعل أينما مال.
ومن علاماته أيضاً الإسراع إلى الموضع الذي يكون فيه المحبوب، والتباطؤ في القيام عنه، والحرص على القرب منه، وطرح الشواغل لأجل البقاء في حضرته. ويظهر على المحب عند لقاء محبوبه بغتةً روعةٌ وذهولٌ لا يُخفى، كما يضطرب إذا رأى من يشبهه أو سمع اسمه فجأة، كأن القلب يهتزّ لذكره.
ومن الدلائل الجلية أن يجود العاشق بما لم يكن يجود به قبل ذلك، فيسخو بخُلقه وماله، ويتلطف بعدما كان غليظاً، ويتزين بعدما كان مهمِلاً، ويستبسل بعدما كان جباناً، كأن الحب يفتح في قلبه أبواباً من الكرم والشجاعة والرقة لم تكن تُعرَف عنه.
وتظهر علامات أخرى في هيئة الانبساط الزائد عند حضوره، والتضايق في المكان الواسع إذا غاب، والميل إلى لمسه لمساً خفيفاً عند الحديث، وشرب ما أبقى من شرابه، وتحري الأماكن التي تقابله فيها عينه. وقد يتضادّ المحبان في القول والفعل، فيكثران الخصام دون سبب ظاهر، ويتأول كلٌّ منهما كلام صاحبه على غير وجهه، ثم لا يلبثان أن يعودا إلى الألفة أسرع مما يكون بين غيرهما، فسرعة الرضا دليل لا يُخطئ على صدق المحبة.
ومن علاماته لذة سماع اسمه، والنشوة عند الكلام في أخباره، واشتغال الفكر به حتى تتغير حال العاشق عند ذكره؛ فيضيق طعامه ويغصّ بمائه، ويغشاه صمتٌ مفاجئ وشرودٌ ظاهر، وينقلب طلق الوجه كئيباً ساكن الحركات لا يطيق السؤال ولا يجيب بسهولة.
ويحب المحب أهل محبوبه وقرابته، ويحب الوحدة والابتعاد عن الناس، ويظهر عليه النحول بلا مرض، ويسهر الليالي الطويلة كأن النجوم أصحابه دون الناس، ويقع به القلق عند انتظار لقائه، أو عند خوف العتاب والهجر. وإذا رأى من المحبوب جفاءً ظهر عليه الجزع، وبدت الحمرة في وجهه، وسمعت أنفاسه تضيق وتشتد.
والبكاء من علامات الحب، ولكن ليس كل المحبين فيه سواء، فمنهم غزير الدمع، ومنهم لا تفيض أعينهم إلا اليسير من الدمع. وكذلك سوء الظن من العلامات الواضحة للحب، وقد تجد أحسن الناس ظناً وأكثرهم فهماً يؤولون كلام المحبوب على غير وجهه، وتتجلى مراعاة العاشق لمحبوبه في تتبع أخباره، واستقصاء حركاته، وحفظ كل صغيرة تقع منه.
والمحبُّ إذا استحسن صفةً في محبوبه، ثم مضى ذلك الحبُّ إمّا بسلوٍّ -وهو نسيانه وخلوُّ القلب منه- أو بَيْنٍ، أي فراقٍ لعارضٍ كالموت أو السفر أو الزواج- أو هَجْرٍ، وهو الفراق المتعمَّد- فإن أثر تلك الصفة قد يبقى ثابتاً في نفسه، فلا يستحسن بعدها ما يخالفها، ولو كانت أدنى في درجات الجمال، ولو كان المحب في أعلى درجات الإدراك والفهم والذوق! فمن أحب امرأة قصيرة فلن يستحسن الطويلات، ومن عشق امرأة فيها وقص -قصيرة الرقبة- فلن يميل إلى الغيداء؛ أي طويلة العنق ولينة القوام.
كيف يبدأ الحب؟
يستعرض ابن حزم الأسباب الأربعة لوقوع الحب في النفس ويبدأ من أقلها شيوعاً وأولها وهو الحب في النوم، ولو لم يسمع قصصاً عنها لأنكرها، وفي ذلك أن الرجل يرى في حلمه امرأة جميلة ثم يصحو وهو فيها متيم، وهذا عند ابن حزم من أحاديث النفس وأضغاثها، ويدخل في باب التمني وتخيل الفكر. أما ثانيها أن يقع الحب بالوصف دون المعاينة، وهو حب غير واقعي، حتى تقع المعاينة، فإذا وافق المحبوب ما تخيلناه ثبت الحب، وإلا اندثر وتلاشى، وتنطبق القاعدة نفسها على الكره، فقد تكره شخصاً لما سمعت عنه من وصف، ثم تلقاه فإما أن يزول الكره ويقع الحب، وإما أن يبقى! والحب بالوصف نجده شائعاً عند النساء المحجوبات مع أقاربهن من الرجال. وكثيراً ما يقع الحب من النظرة الأولى وهو السبب الثالث، ويراه ابن حزم قلة صبر فأسرع الأشياء نمواً أسرعها فناءً. ومن الناس من لا يقع الحب في قلبهم إلا بعد زمن طويل من المعاشرة وكثرة المخالطة، وهذا هو السبب الرابع! والحب في هذه الحالة بطيء البداية، شديد الثبات، عسير الزوال، وهو عند ابن حزم أصدق أنواع الحب وأدومها، وينفي وجود حبّين في قلب المرء، فالحب الصادق لا ثاني له، ويصرف المرء عن أمور دينه ودنياه، فكيف يفرغ قلبه لعشق آخر؟
وسائل إظهار الحب والتعامل معه والتعبير عنه
يرى ابن حزم أن الحب لا يُكشف دفعةً واحدة، بل يُفصح عنه بوسائل لطيفة متدرّجة. فأول هذه الوسائل التعريض بالقول -وهو فن الإشارة بالكلام دون كشف المعنى صراحة- كالشعر والأمثال والألغاز والكلام الموارب، يختبر به المحب قبول محبوبه أو نفوره. فإذا تم القبول وتحقّق الأنس، صار التعريض وسيلةً للتشكي والعتاب، ولعقد المواعيد، ولتأكيد المودّة، وذلك بكلام غير صريح لا يفهم حقيقته إلا الطرفان. ثم تأتي الإشارة بالعين، وهي أبلغ من القول، كيف لا وبالنظر نقطع المسافات الطويلة وندرك الكواكب والنجوم، على خلاف اللمس والذوق اللذان يدركان بالمجاورة، والسمع والشم اللذان يدركان بالقرب! تُؤدّي العين معاني القبول والرفض والوعد والتهديد والتنبيه دون حاجة إلى كلام؛ فإدامة النظر علامة التوجّع والأسف، وكسر النظر علامة الفرح، وإطباق العين تهديد، وقلب الحدقة سريعاً تنبيه إلى أمرٍ خفي.
وبعد اكتمال الثقة، تكون المراسلة بالكتب، حيث تقوم الرسائل مقام اللقاء، وتحمل للمحب لذّة خاصة، مع ما تنطوي عليه من خطر الإفشاء، وإن وقوع الرسالة في يد المحبوب لها لذة تعادل لذة الرؤية. ثم يدخل في مسار الحب السفير أو الرسول، الذي لا يُختار لمجرد أمانته فحسب، بل لهيئته ومكانته الاجتماعية أيضًا، اتقاءً للشكوك؛ فقد يكون خاملًا رثَّ الثياب لا يُلتفت إليه لصغره أو بساطة مظهره، أو يكون جليلاً مهيباً لا تُظنّ به الريبة لنسكٍ يُظهره أو لكِبَر سنّه، أو يكون صاحب حرفة أو قرابة تُمكّنه من الدخول والخروج دون إثارة الريبة. ويُقصد من هذا الاختيار أن تمرّ الرسائل والأخبار آمنةً، وأن تُستر العلاقة عن العيون. وقد تتنوّع وسائل الإرسال حتى تبلغ حدّ الرمزية، كاستخدام الحمام الزاجل. وهكذا يتصوّر ابن حزم الحب مسارًا دقيقًا يقوم على الإيحاء لا التصريح، ويتدرّج من القول إلى الإشارة، ثم إلى الكتابة والوساطة، تحكمه الفطنة والكتمان وحسن التدبير.
الحب بين الكتمان والإذاعة
يشيع بين المحبين الكتمان إذا سُئل أحدهم عن حبه، والتصنّع بإظهار الصبر والادّعاء بأنه خالٍ من العشق. غير أن هذا السر، مهما دقّ وخفي، لا يلبث أن ينكشف في الحركات ونظرات العين وتغيّر الهيئة، لأن نار الحب لا يمكن إخفاؤها طويلاً، خاصة بعد استحكامها. وقد يكون سبب الكتمان حرص المحب على سمعته، أو حياءه، أو وفاءه لمحبوبه، أو كبرياء النفس إذا رأى من محبوبه صدًّا أو إعراضاً.
والمحبة في ذاتها ليست مذمومة، لأنها أمر فطري لا يملك الإنسان دفعه، إذ القلوب بيد الله، وإنما يُحاسَب المرء على أفعال جوارحه لا على ميل قلبه. ومن هنا يعدّ كتمان الحب وضبط النفس من الصفات المحمودة، لما فيه من عفّة وكرم طبع وحفظ للستر.
في المقابل، قد يعرض في الحب الكشف والإذاعة، وهو من أقبح أعراضه، خاصة إذا كان بدافع التزيّي بزيّ العشّاق، أو طلب الشهرة، أو الانتقام من محبوبٍ غدر أو أعرض. وهذا دليل سخف وقلة عقل، لأن ضرره يعود على صاحبه أكثر مما يصيب غيره. غير أن بعض الكشف قد يكون نتيجة غلبة الحب وقهره للعقل والحياء، فيفقد المحب سيطرته على نفسه، فيرى القبيح حسناً، ويهون عليه ما كان يعزّ عليه، حتى يحب الفضيحة بعد أن كان يفرّ منها.
صفات الحب المحمودة والمذمومة
ومن صفات الحب العجيبة طاعة المحب لمحبوبه، إذ يغيّر الحب الطباع، فيلين القاسي، ويخضع الأبيّ، ويصبر الشديد. وقد يكتم المحب ألمه وحزنه إذا كان محبوبه يكره الشكوى، فيتحمّل الجفاء، ويعترف بالذنب وهو بريء، تسليماً وحرصاً على الرضا. وهذا الصبر لا يعدّه ابن حزم دناءة، لأن المحبوب ليس ندًّا يُقابل بالإساءة، بل هو متسلّط بالهوى، يجفو ويرضى بلا سبب. وقد يخالف المحب محبوبه فتغلب عليه الرغبة فيصيب من محبوبه ما يريد ولو كان راضياً أو ساخطاً، وفي هذه الحالة، يجب أن يضبط نفسه ويصبر حتى ينال ما يريد دون وقوع ضرر على العلاقة!
والوفاء عند ابن حزم من أسمى الصفات الأخلاقية في الحب وغيره، وهو دليل صريح على طِيب الأصل وشرف النفس، إذ إن أفعال الإنسان تكشف عن معدنه كما تكشف العين عن الأثر. وأولى مراتب الوفاء أن يفي الإنسان لمن وفى له، وهذا حقٌّ واجب لا يُعذر في تركه إلا من خبثت سريرته. ثم تأتي مرتبة أعلى، وهي الوفاء لمن غدر، وهي صفة خاصة بالمحب لا يُكلَّف بها المحبوب، ولا يطيقها إلا أصحاب النفوس القوية والحِلم العظيم، إذ يكون الوفاء فيها بترك مقابلة الأذى بمثله، وانتظار الألفة ما دام في الرجاء بقية. وأسمى مراتب الوفاء أن يستمر بعد اليأس والموت، حين ينقطع الأمل ويغيب الرجاء، فيبقى الوفاء خالصاً لا تشوبه منفعة، وهو أعلى درجات الإخلاص وأندرها. ويرى ابن حزم أن الوفاء ألزم للمحب من المحبوب، لأنه هو الذي اختار التعلّق وقيّد نفسه بعهد المحبة، أما المحبوب فمخيَّر. وللوفاء شروط، منها حفظ العهد، وصيانة السر، ورعاية الغيبة، وحسن الظن، والتغافل عن الزلل، والكف عن الإضرار، وهو خُلُقٌ واجب في الحب وسائر معاملات الناس.
يرى ابن حزم أن القُنوع ضرورة للمحب إذا حُرم الوصال، لأنه يخفف ألم الحرمان، ويُبقي الرجاء حيًّا في النفس، ويمنح القلب بعض السلوى والراحة. والقناعة عنده مراتب؛ تبدأ بالرضا بأدنى صور القرب، مثل الزيارة، أو النظر، أو الحديث العابر، ثم تنحدر إلى الاكتفاء بردّ السلام، أو الوعد ولو كان كاذباً، ليعيش المحب على الأمل. وقد يبلغ القُنوع أن يرضى المحب بآثار محبوبه، كالثياب، أو الشعر، أو رائحة الأشياء التي مسته، أو حتى الأرض التي وطئها. وإذا انسدّت السبل كلّها، قنع المحب بزيارة الطيف في المنام، أو بالخيال، أو برؤية من رأى محبوبه، أو الأماكن التي يسكنها. ويضع ابن حزم حدّاً أخلاقياً للقُنوع، فيرفض أشدّ الرفض أن يتحول إلى سقوط في المروءة، كالقناعة بمشاركة المحبوب مع غيره، ويرى ذلك فساداً في العقل وضعفاً في الغيرة، لا يليق بصاحب نفس كريمة مهما اشتد به الحب.
ويقابل صفتي القُنوع والوفاء صفة ذميمة وهي الغدر، وهي من أقبح أخلاق الحب. ولا يكون الغدر إلا من البادئ به، أما من ردّ الغدر بمثله فلا يُعد غادراً، لأن الجزاء من جنس العمل. ويرى أن الغدر يكثر من جهة المحبوب، لذلك يُستغرب الوفاء منه ويُعظَّم إذا وقع. ومن أبشع صور الغدر عنده خيانة السفير، أي الرسول الذي يُؤتمن على الأسرار بين المحبين، فينقلب على من وثق به ويستأثر بالمحبوب لنفسه. والغدر يهدم المودة، ويمزق العهد، ويترك في النفس جرحاً لا يندمل، ويُفسد كل ما بُني على الثقة.
أطراف ثالثة في الحب
لا يقتصر الحب على المحب والمحبوب فقط، بل تحيط به أطراف أخرى تؤثر فيه سلباً أو إيجاباً، وقد تكون سبباً في ثبات الحب أو فساده، وهم خمسة؛ أولهم الرسول أو السفير وقد ذكرناه آنفاً، وأما الثاني فهو العاذل الذي يلوم المحب على حبه، ويأتي العذل على أشكال مختلفة؛ فالعاذل الصديق هو الأفضل، لأنه ناصح لطيف القلب، ويعرف متى يشتد بالعذر ومتى يلين، فيعلم الأوقات التي يحتاج فيها المحب للتذكير والنهي، والأوقات التي يكتفي فيها بالسكوت. ويكون هذا العذل نافعاً، لأنه يقي المحب من الانغماس في الشهوة والعاطفة الغامرة، ويقويه على ضبط النفس، خصوصاً إذا صاحب عذله حسن العبارة ورفق القول، وعرف دقائق النفوس وأسرارها. أما العاذل الذي لا يفتر عن اللوم، والذي لا يكتفي بالنصح، فهو خطب شديد وعبء ثقيل، يثقل كاهل المحب ويزيد ألمه، ولا يقدّر الوقت المناسب لرفع الحرج، فيتعب المحب ويزيد من شعوره بالقلق والتوتر. وهناك أيضاً العاذل غريب الطبع الذي يحب أن يُعذّل، ويستمتع بمخالفة المحب وتحديه، فيزداد المحب متعة بالعصيان واستعصاء أمر العذل، وكأن هذا التحدي يُعطيه شعوراً بالنصر على خصمه، وقد يحرص المحب على استجلاب عذل العاذل نفسه، فيتولد من ذلك لذة غريبة.
أما الثالث فهو الصديق المساعد، ويُعد سبباً من أسباب الراحة والسعادة في الحب، فإن منّ الله على المحبّ بصديق مخلص، لطيف القول، حاذق التصرف، حليم الطباع، واسع العلم، صادق الأخلاق، فإن هذا الصديق يُكمل للإنسان ما ينقصه من الأنس، ويخفف عنه الهموم. وكما يأخذ الملوك الوزراء والدخلاء ليتخففوا عن أعبائهم، كذلك يُعين الصديق المخلص المحب على مواجهة مشقات الحب، ويجعل حياته أكثر انتظامًا وأقل قلقًا. من دون هذا الصديق، يعيش المحب عزلة ووحدة، يبوح بها للأرض أو للهواء، كما يجد المرضى في التأوّه راحة، وفي الزفير متنفساً، فتراكم الهموم في قلبه يضيق عليه صدره، وتظل الأحزان متراكمة بلا تفريج.
أما الرقيب، فهو من أقسى آفات الحب. والرقيب يظهر في صور عدة، فبعضهم يثقل بالجلوس غير المقصود في المكان الذي يختلي فيه المحب بمحبوبه، فيعيق الانفراد والبوح بالوجد، إما ليكدر صفوهم وإما للتحقق من وقوع الحب بينهما، وقد يكون رقيباً موضوعاً على المحبوب فقط، وهذا لا حيلة له إلا الترضية، فإن فعلت أصبح رقيباً لك لا عليك! وما أشد الرقيب إذا عرف الحب منذ قديم الزمن وامتدت خبرته فيه، فيصبح بلاءً شديداً على المحب والمحبوب!
وأما الواشي، فهو أخطر الأطراف على الحب، وهو الذي يسعى لإفساد العلاقة بين المحبين أو ليستأثر بالمحبوب. والواشي غالبًا ما يكون خبيراً بالتنقيل، حريصاً على كشف الأسرار، ومسبباً للاضطراب النفسي والقلق المستمر، وقد يؤدي إلى هلاك المحبين إذا وقعوا تحت تأثيره. ولا تصح الثقة بالواشي والنمّام، لأنهما متجذران بالكذب والرياء، وهو ما يجعلهما من أخطر السموم في الحياة الاجتماعية، فالكذب أصل كل فاحشة، والنميمة فرع من فروعه، وما هلك الضعفاء وصغار العقول إلا في قلة المعرفة بالناصح من النمام!
مآلات الحب ومصيره
جربت اللذات على اختلافها؛ الدنو من سلطان، وجمع المال، والأمن بعد الخوف، وغيرها الكثير، ولم أذق أجمل من الوصل ولا سيما بعد طول امتناع، فالحب في أسمى درجاته يبدأ بالوصل، تلك اللحظة التي تتلاقى فيها الأرواح قبل الأجساد، حيث تغمر السعادة القلب وتملأ النفس بالطمأنينة، فتشعر وكأن العالم كله قد توقف عند عتبة اللقاء.
أما الهجر، فهو الوجه الآخر للحب، وبه يُختبر صبر القلوب ويضاعف الشوق. قد يكون الهجر مفروضاً من الخوف أو الرقيب، فيصبح الهجر ألذ من الوصل نفسه، لما يجعل في القلب من الحنين والشوق. وقد يكون الهجر اختباراً يظهر فيه المحبوب قسوة البعد ليقيس قوة المحب، وقد يأتي الهجر نتيجة العتاب أو الذنب، فيكون موجعاً وقد يكون عن ملل أو فتور، وهذا النوع يحتاج إلى ذكاء وصبر لمعالجة آثاره. ومع ذلك، فإن في الوصل بعد الهجر لذة عظيمة!
ومع الهجر، يطرق الحب باب البين؛ وهو الفراق الحتمي الذي يترك أثره في القلب والروح. قد يكون البين مؤقتاً، يظل القلب فيه متيماً بالوصل، وقد يكون فراقاً نهائياً، مفروضاً من القدر أو الزمان والمكان، كرحيل إلى ديار بعيدة تجعل اللقاء مستحيلاً، فيصبح الألم دائماً لا يُداوى إلا بالصبر والتحمل. وقد يكون وداعاً قصيراً أو نهائياً بعد سنوات من الانقطاع. وفي أشد صوره، يصبح الفقد مرتبطاً بالموت، حين يغلق الباب نهائياً على اللقاء، تاركاً أثراً لا يُمحى.
أما الضنى، ذلك الحنين الذي يترك أثره على النفس والجسد، فينعكس في نحول وخلل أحيانًا، ويحتاج الطبيب الحاذق لتمييز أثر الحب عن الأمراض العادية. ومع مرور الوقت، قد يلجأ القلب إلى السلو، أي الابتعاد عن المحبوب، سواءً بالتصبر على ألم الفقد أو بالنسيان العارض، وقد يأتي السلو من المحب أو المحبوب أو من إرادة الله، كما في الموت أو الفراق النهائي.
خاتمة الرسالة، قبح المعصية وفضل التعفف
إن الإنسان مكوَّن من قوتين متناقضتين؛ العقل الذي يرشده إلى الخير والعدل، والنفس الأمارة التي تدفعه إلى الشهوات والردى. ويصبح الحب بما يصاحبه من شهوة وهوى اختباراً عملياً لقدرة الإنسان على ضبط نفسه، فإذا غلبت النفسُ العقلَ سقط الإنسان في المعصية، وإذا غلب العقلُ النفسَ نجا وصان نفسه. وإن عصم الإنسان نفسه فقد يقع في المعصية إذا طال الاختبار، ولله رحمة في عباده حين يقطع الأسباب حتى يعصم الناس فلا تجود طباعهم بطول المدة ويجيبوا هاتف الفتنة.
وإن الانبهار بالنساء أو الرجال، والانغماس في الهوى، يمكن أن يوقع الإنسان في الزنا والمعاصي رغم علمه ودينه. ويظهر الصلاح الحقيقي في ضبط النفس عن الشهوات والابتعاد عن المثيرات التي قد تؤدي إلى الفساد. والصالح من الرجال والنساء هو من يحسن التحكم في شهواته، ويبتعد عن أسباب الفتن. جعلنا الله وإياكم من الصالحين!
من هو ابن حزم؟
ابن حزم الأندلسي، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، وُلد في قرطبة سنة 994م وتوفي في ولبة سنة 1064م، كان عالماً متعدد الاختصاصات؛ فقيهاً ومفسراً ومتكلّماً وأديباً وشاعراً وناقداً ومؤرخاً. ويُعد من أعظم علماء الأندلس وأكثرهم إنتاجاً وتأثيراً في التاريخ الإسلامي والأدبي بعد الطبري. وصفه ابن القيم بمنجنيق العرب، وكانت العرب تضرب المثل في فصاحته وبيانه فقالت: "سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان"، وكان يبسط لسانه في المناظرات بقوة وفصاحة، مما أورثه عداوات لا تحصى مع الفقهاء والوزراء وحتى مع أمير إشبيلية المعتضد بن عباد الذي صادر أمواله وأحرق كتبه على الملأ، ولم يصلنا من تلامذته إلا القليل منها.
خاتمة تحليلية
يتجاوز طوق الحمامة كونه رسالة أدبية في الحب ليغدو نصاً نفسياً دقيقاً يرصد أحوال النفس الإنسانية في أدق لحظات ضعفها وقوتها معاً. فقيمة ابن حزم لا تكمن في تنظيره للحب بقدر ما تكمن في صدقه في ملاحظته، إذ كتب عن العشق كما يُعاش لا كما يُتخيَّل، فوصف تقلّبات القلب، وتناقض السلوك، واضطراب العقل أمام سلطان الهوى، دون تجميل أو تهويل. ومن هنا تبدو سرديته أقرب إلى تشريح نفسي هادئ منها إلى خطاب وعظي أو حكاية غزلية.
غير أن هذا العمق النفسي لا ينفصل عن وعي ابن حزم بسياقه الفكري والديني؛ فجرأته في تحليل الحب واستقصاء أعراضه كانت تستدعي في زمنه ضبطاً أخلاقياً يحفظ للنص مشروعيته ويقيه سوء التأويل. ويمكن قراءة ختمه بفضل التعفف وذم المعصية بوصفه محاولة واعية للموازنة بين صدق التجربة الإنسانية ومتطلبات الخطاب الديني السائد، لا بوصفه تراجعاً عن التحليل، بل استكمالاً له ضمن حدود العقل والشرع.
وعلى الرغم من ميل ابن حزم إلى تفسير الحب تفسيرًا فلسفياً يقول باتصال الأرواح، فإن هذا لا ينتقص من قيمة ما كتبه في رصد الحب كأعقد التجارب الإنسانية وسبر أغوار النفس البشرية التي لا تختلف صفاتها ودوافعها في ذلك الزمان عن زماننا وكل زمان، وهو ما منح طوق الحمامة زخماً وتأثيراً، وجعله نصاً حيّاً يتجاوز العصور!
