

الجميع للحياة
"تراه من يستحق الحياة أكثر يا أميمة؟ أنحن؟ أم هم؟ّ" قاطعتني أفكاري وأنا أحدق في عينيها البنيتين ثم أردفت بصوت أقرب للهمس، "لكن من نحن؟ ومن هم؟"
غزة معلمة حالت الحرب بينها وبين مزاولة مهنتها، فتطوعت للعمل في المستشفى وهنالك التقت بأميمة الممرضة فاتخذتها صديقة لأفكارها علّها تجد أجوبة حق أسئلتها...
تدفق سيل من الجرحى على إثر الغارة التي شنها الكيان الصهيوني بالأمس إذ سقط ما لايقل عن ثلاثين جريحا تم نقلهم للمستشفى، كنت قد ركنت الى زاوية تسمح لي بمشاهدة الضحايا الذين يتم نقلهم تباعا، ودعوني أخبركم بأن كل ذلك الكم من الدماء، كل تلك الدموع، وكل ذلك الصراخ لم يجعلني سوى أغرق أكثر في بحر افكاري ... صراخ، دموع، دماء، وأفكار ... ما الأهم؟ لمعت في رأسي فكرة مجنونة، لما لا أسأل أهالي الضحايا ما اذا كان جريحهم يعمل أو يدرس، أو ما إذا كان يزاول نشاطا معينا! رحت اسألهم واحدا تلو الآخر وكل ما كنت أتلقاه هو مزيج من النظرات المستغربة والغضب... كانت ترمقني أميمة من حين لآخر الى أن صرخت في وجهي لأساعدها...
تم إسعاف جميع الضحايا وسط شحّ الامكانات، كان الوقت متأخرا ويتعذر علينا الذهاب لمنازلنا، ثم عن أي منزل نتحدث هاهنا؟ المُدمَّر أم المُهَّجر؟
كانت الساعة تشير في حذر إلى حدود منتصف الليل، لم نتناول شيئا منذ لا أذكر متى، أحضرت أميمة رغيفا بائتا والقليل من زيت الزيتون للتغميس...
"أنا أتفهم شعورك يا غزة، إنه من غير المحتمل رؤية كل تلك الدماء، إنه أمر صعب حتى على المتمرّسين ...أتمنى أن تضبطي نفسك أكثر المرة القادمة..."
وضعت قطعة من الرغيف في فمي جعلتني أجيبها بشكل غير واضح:
"أتعرفين من تسلا؟"
"ق.. ق ... قلت من يتسلًّى؟!" أجابت بحيرة
بلعت اللقمة ثم واصلت، "نيكولا تسلا يا أميمة، نجا من الموت عدة مرات، من الكوليرا، من الغرق، من هجوم غربان ...إلى غير ذلك، لكنه لم يتوقف عن المخاطرة، أتعلمين لماذا؟"
"أتعجب إلى أين سيأخذنا هذا الحديث، وليس لدي أي قدرة على التفكير، لذا من الأفضل أن تجيبي نفسك!"
"كان يعتقد أن روح المخترع محفوظة من عند الله يا أميمة! فهو لا يموت قبل أن يؤدي كل رسالته، هو يستحق الحياة!"
"هم يحملون إلههم في جيوبهم في عزّ إلحادهم يا غزة!" قال محمّد الطبيب الذي استمع للقليل من حديثنا وهو يدخل الغرفة حيث دعته أميمة لأن يتقوت قليلا.
"كنت تظاهرت بفهمك لولا أهمية الموضوع!" استدرت باسمة وأنا أتتبع مصدر الصوت.
واصل كلامه وهو يسحب كرسيا نحو مائدة الطعام، "كانت قيمة الفرد في الغرب مرتبطة باصطفاء الله لهم؛ كل حسب معتقده، وكان ذلك حال ملوكهم وملكاتهم أيضا فهم ينحدرون من سلالة مقدسة وراثيا.." وضع الكرسي ثم جلس، "لطالما كانت فكرة تفضيل إنسان على إنسان آخر سائدة بغض النظر عن السياق، والتفضيل يعني التضحية بالمألوف والدّوني في سبيل الأهم أي المصطفى" أخذ قطعة من الرغيف وأوشك أن يغمسها في الزيت لكنني شتت انتباهه:
"وما علاقة ذلك بتسلا والإلحاد؟"
"الأهم هو ان تأخذا قسطا من الراحة فنحن لا نعلم متى سنحرم من ذلك مجددا!" قالت أميمة وهي مضمومة الذراعين...
نظرت إليها ثم إلى محمّد منتظرة جوابه،
"بعض الأسئلة أهم يا أميمة ولا يوجد وقت معين لطرحها.." كان قد انحنى على الطاولة ليغمس في الزيت إلا أنه أحجم عن ذلك وضع الرغيف جانبا وعاد مكانه...
"إنه وإلى غاية الضجة التي أثارتها مقولة نيتشه"، رفع يديه ليعبر عن حركة بين قوسين بأصابعه، "الله قد مات!" ... أنزل يديه .."اكتسحت بعدها موجة إلحاد في الغرب حيث حولو إيمانهم للمادة والعلم فقط وهنا ...هنا فقط مات إلههم وبقيت الفكرة، هم مفضلون الآن لأنهم يملكون العلم، أو بالأحرى أدوات العلم! هم يستحقون الحياة أكثر!"، غمس قطعة الرغيف ووضعها في فمه...
في صباح اليوم الموالي استيقظنا على دوي صفارات الإنذار، تلقينا حينها مكالمة هاتفية بضرورة تنقلنا الى جباليا، استقلينا سيارة إسعاف وبعد عشر دقائق من التنقل أعاقنا حطام البنايات من مواصلة سيرنا، حملنا حقائبنا وترجلنا لنحو ثلاثة أميال إلى غاية وصولنا إلى منطقة الغالوجا، استوقفنا صراخ بعض الناجين أو المحتضرين هناك،
"سفيان تايه، سفيان تايه... إنه منزل الدكتور سفيان تايه!" وفي مشهد فداء، كانو يصرخون وكأنهم يضحون بروح جميع الضحايا من أجله!
أسرعنا ما عدا أميمة مع فرق الحماية المدنية صوب الأنقاض، تبين بعد حين أن الدكتور كان مازال يحتضر، وكان ينادي بصوت متقطع لكن بكلام مفهوم،
"ل ...ل لكي تعيشوا، اق.. قتلو الفكرة!"
عند رؤيته تسارعت ضربات قلبي، رفعت هامتي لأنظر نحو اليمين ونحو الشمال... هنالك في الشمال، شجرة زيتون، شجرة زيتون وخُطا متثاقلة، تقدمت نحوها، أفكاري تطفو كالزيت، ماذا كانت؟ ماذا كانت الفكرة؟ من يتسلى؟! لا! هذا ما قالته أميمة...نعم تسلا! أليس سفيان بتسلا بجدارة وبما يكفي؟! استرقت نظرة للوراء ... إنه يحتضر، همس في أذن محمد وسلمه ورقة كان قد دسها في ثيابه، وجدتني عند شجرة الزيتون، أميمة هنالك أيضا تنتظر إشارة من أعوان الحماية المدنية لتباشر التدخل الطبي،
"غزة! أين محّمد؟"
أردت ان أستند الى شجرة الزيتون، فقدت حينها توازني حيث كنت سأشير نحو اليمين إلا أنني أشرت إلى ناحية أخرى،
"هناك!"
"أين؟"
كنت أراه يتقدم نحونا قبل أن تسألني وما إن أجبتها حتى لاحظَت قدومه، أراد ان يستند الى شجرة الزيتون هو الآخر الا ان أميمة استوقفته قليلا،
"ما الذي تحمله في يدك؟" قالت وهي مضمومة الذراعين..
"فكرة يجب ان تُقتل...هذا ما قاله الدكتور!" مال قليلا صوب الشجرة ليستند اليها إلا أنه أحجم عن ذلك فتح الورقة المخضبة بالدماء وعاد مكانه بعد أن طلبت منه أن يقرأها مليا،
"من عند من لم يعد يستحق العيش،
بما أنكم تقرءون هاته الأسطر فذلك يعني انني لم أعد أستحق العيش، أليس كذلك؟ حسنا! دعوني أخبركم بأنكم مخطئون! فعندما يعبث الإنسان بالبديهيات، تُخلق أسئلة من دون معنى تجعل إمكانية الإجابة عليها مستحيلة وضربا من الخيال! ذلك لأننا لم نطرح السؤال الصحيح منذ البداية، ألم تتساءلوا قط لماذا لا توجد منظمة حماية الأصابع؟ سخيف أليس كذلك؟ الإنسان أصلا لديه أصابع فما دخل الأحقية في ذلك؟ لكن دعوني أخبركم بأنها كانت ستكون هنالك واحدة لو وجدت فائدة هناك! لو وجدت فائدة هناك لقطِّعت الأصابع وتاجر الأقوى بها، ستتكتل المنظمات منددة بذلك رافعة شعارات أن كل الناس تستحق أن تعيش بأصابع، ستنبثق نتيجة لذلك أسئلة سخيفة، أتذكرون ما قلت؟
من يستحق الأصابع أكثر، أنحن؟ أم هم؟ حينها فقط يصبح تسلا هو الخياط، وعازف العود، وعاصر زيت الزيتون!
هل أصابع الخياط محفوظة لأن لديه رسالة يقدمها؟ لأنه موهوب؟
المسألة ليست مسألة أحقية! لقد وجدوا فائدة في حياة الشرقيين، فأخذوها وأصبحوا هم الحياة!
أقتلوا الفكرة، أقتلوا الفكرة لكي تنعموا بالحياة!
بأصابع سفيان تايه"
طوى محمّد الورقة واستند الى شجرة زيت الزيتون...
حينها وحينها فقط أدركنا بأنه وفي الشرق ليست الحياة للجميع، وانّما الجميع للحياة!