

الحجر الأخير
كانت الجرافة تزحف كوحش معدني، تبتلع الأرض تحت جنازيرها الثقيلة، تزفر دخانًا كأنها تنفث غضبها على كل ما تبقى من حجارة غزة. وقف يحيى عند زاوية الزقاق، يراقبها بعينين تتسعان بالغضب، وأصابعه تنقبض على حجر صغير دافئ، كأن كفّه هو من يبعث فيه الحياة.
الريح كانت تحمل بقايا هدم الأمس، نوافذ بكت زجاجها، وأبواب لفظت مفاتيحها الأخيرة. على الجانب الآخر، جلست أم سعد وسط الخراب، تهمس بأهازيجها القديمة، صوتها يخرج كأنين نافذة مفككة، تتأرجح بين الصمت والمقاومة.
"سيمرّون من هنا..." قال يحيى للصبية الذين تجمعوا حوله. لم يكن قائدًا، لكنه كان الأول الذي قبض على الحجر كأنه وصية، الأول الذي قرر أن الجدار لا يُترك ليسقط وحده.
جاء الجنود، وجاءت الجرافات، لكنهم وجدوا جدارًا من الأطفال، ليسوا أعلى من فوهات البنادق، لكنهم أشد صلابة من سبطانتها.
في لحظةٍ لم تُسمع فيها سوى صرخة الريح، انطلق الحجر الأول. كان صغيرًا، لكنه صنع دوّامة في الهواء، كما لو أنه قلب صفحة التاريخ ليكتب سطرًا جديدًا. ثم تبعته الحجارة، وانفجر الزقاق بزخّات الغضب، وصراخ الأرض التي رفضت أن تُسحق دون قتال.
كانت السماء بلون الغبار، والهواء يضج بأزيز الرصاص. يحيى ركض، ليس بعيدًا، فقط إلى موضعه المقدس، حيث كان بيته ذات يوم. كان هناك حجر آخر ينتظر، فتناوله، مسح عنه غبار الهدم، ثم قبض عليه كأنّه امتدادٌ لكفّ أبيه الذي رحل تحت نفس الركام.
صوت العجوز أم سعد اخترق العاصفة: "الله أكبر!" لم تكن تصيح في الفراغ، كانت تخاطب الزمن، كانت تحفر الصوت في ذاكرة الشوارع.
ثم حدث التشابك، ليس بالأيدي وحدها، بل بالأقدام التي غرست جذورها في الأرض، وبالعيون التي لم تطرف خوفًا، وبالقلوب التي خفقت وكأنها مدافع صغيرة. كان الجنود يندفعون، وكان الأطفال يثبتون، وكان الحجر يصرخ في الهواء: "نحن هنا!"
التراشق بالحجارة صار أشبه بلغة قديمة، لا تحتاج إلى ترجمة، تفهمها الجدران، وترددها الأزقة، وتخشى معناها الخوذ الحديدية. كانت الحجارة تخرج من الأيدي كأنها قصائد غضب، وكأنها شظايا من ضوء قديم لم ينطفئ.
سقط يحيى، لكن الحجارة لم تسقط، بل ارتفعت، تساقطت دموع العجوز أم سعد، لكنها لم تنحني. كان الركام يعيد ترتيب نفسه، كأن المدينة تنفض عن نفسها الغبار، وتنهض من تحت الأنقاض.
عندما جاء الصباح، لم يكن العدو قد انتصر، بل رأى ظلال الأطفال تمتد، وسمع صوت الحجارة ما زال يتردد في الأزقة. "غزة لم تسقط"، قالت العجوز، وهي تلملم حجارتها. "لقد صارت أعلى."