الثلاثاء ٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم دولت محمد المصري

الدرك الأسفل

زاحفا.. دارجا.. ماشيا.. راكضا.. راكضا.. تحيطه هالة من رائحة نتنة تتغلغل فيه مع نفسه اللاهث، ضمن اسطوانة ضخمة من الظلمة الواهية، عيناه اعتادنا لمح الأشياء فيها، لكنه أراد بكل كيانه أن يتخلص من مكان مريع ولجه بلا مبرر.

متابعا ركضه طاردا ما يعلق به من روائح كريهة، ورطوبة لزجة تثير الحكاك حتى الهلوسة، وما إن لمح ذاك النور المتسرب من شق على جانب المكان، حاول أن يرى من خلاله أي حياة تـُذكر، لكنه صغير بما يكفي لعدم دخول ذرّات الهواء النقية، لتفشل محاولات تكبير الشق بالحديدة في حزامه أو المسمار المتبقي في حذائه، ليكمل ودمه يغلي بكآبة مميتة في وحدة خذلت وجوده إلى أن ارتطم بالرؤوس والوجوه المتراكمة كمجزرة عبثية، خفق وجدانه وهو يراها تحدق به.. تأكل ملامحه ليَـصير إليها.. وجوه منتفخة بأعين جاحظة تنبئ بمصير من وصل إلى هنا، أو تضيف السخرية للمشهد بألسنتها المتدلية قطعا بيضاء متفسخة كأرض قفرة.. تركها بفزع ملوث بحقد الحروب.. ولم تتركه دون أن تعلق نظراتها البليدة في ذيله المختبئ. . الهارب رعبا من كتلة الأشباح التي تشده. . وتشده في صدى يعوي، مُـشَـوها بهجة الصراصير والبعوض و الذباب في دائرة الاختناق التي حظي بها المسكين في اللحظة الغريبة.

كأنها ذاكرة مهملة أو مُـقصاة عن دماغه الذي ما إن وصلت إليه إشارة برؤية شمس صغيرة تنفذ من شق آخر حتى ذاب في الأشعة المتسربة بشكل أكبر من السابق، فأقبل الراكض مادّا يده إلى الخارج، متحسسا الهواء المحمل بعبق جميل.. لوح بيده.. لوح لعل أحدا يستطيع أن يسحبه من هذا الركام القاتم. . لوح صارخا بأصابعه المشجرة بأظافر طويلة متشعبة بالأسى حتى أحس الخدر يصل إليها و الزرقة تغزوها. . لينزلها بعياء، حاصلا على خدوش ثمنا لتطفله، وقبل أن يمضي حشر أنفه مستقطبا أنفاس جديدة وخزته في رئتيه المعطوبتين بالسموم. . ليهرول من جديد في طريقه الطويل ضمن هذا النفق أو المجرور الذي بكى قذارته المنفلتة من شقوق هنا وهناك ليترك تفاعلات الأوساخ مع بقايا الحشرات ينهش أوردته بشكل مقزز.

وبعد تعب مذل أخذ يتوسل الطريق لتمش تحت قدميه.. لتنسحب كالبساط السحري لكي لا يتوقف، إذا توقف سيحفر قبره بلا شاهدة تدل على كائن كان، ولن يحتفظ له أحد بذكرى. . كالذكرى التي تركها هذا الرجل المقابل له والمعلقة صورته بحذر على جدار أملس، شخص هرم انحسر شعره عن رأس مطروش بالندبات.. وتدلى منه فكّين على صدر متسخ بدهشة الاعتراف.. بينما العينان انسحبتا من محجريهما كدمعة، فكر الواقف أمام الصورة أن الرجل المثبت فيها يشبه أحد الحيوانات الأسطورية.. لكنه لم يستطع أن يعرف أيّها، فقد ضاعت قدرته على جمع الصور، وعندما لم يجد جدوى من الـتأمل أكثر لمأساة لا تخصه.. تحرك، ليتحرك الرجل المقابل له، شهق فزعا.. ملوحا جسده إلى الوراء ليسقط متزحلقا بغابة الطحالب ويفقد وعيه بالارتطام، لترتاح ملكات وجهه مع فقدانه للوعي، كصبي فرح بحلم طفولة ينمي عوالمه ويميز اكتشافاته.. راحة لذيذة افتقدها منذ وصوله الماراثوني إلى الدرك الأسفل من الحياة، ولم يهنأ طويلا حيث استيقظ على قضم الجرذان لأنامله، صرخ بألم.. وبكى بنحيب مع تفجر الدم من بصمات أصابعه التي تشوهت، بكى وجوده المهدد بلا بصمات.. ولا قدرة للتوقيع على ورقة قد تنحيه من الخواء القسري. قام عاجزا ليسلم على الرجل في الصورة.. ملقيا عليه نظرة الوداع ماسحا ملح العرق المحرق، كون هذه المرآة أرته ما لم يدركه بعد العناء، وصار ينظر للبعيد في نهاية مازالت مظلمة.

مشى.. مشى وأفكاره تقيم مباريات في المصارعة الحرة داخل حلبة رأسه المُـطوّح يمينا وشمالا.. إلى أن التقط الرادار عنده سلما مثبتا لأعلى الاسطوانة يرصد منفذا مغلق، فتسلق السلم كقرد جائع وجد موزة ليبدأ حل الشيفرة للغطاء بأيدي راجفة.. وقلب يبتهل لتتم المهمة بلا عقبات، وما إن تحقق الفتح، ووقع الغطاء مع طلاسمه حتى دفقت آخر الفضلات الآدمية و الحيوانية إليه محملة بماء انتهت مدة صلاحيته منذ سنين، فاندلق البشري الوحيد كمسطح مجهول في الممر اليتيم بعد أن شَـرَق الخيبة وتبلل بخطيئة البحث الأحمق، متحولا إلى عظاءة تحنو.. تشْـتـَم القذارة كعطر فاخر.. تعبث بأفخاخ العناكب.. وتتلذذ بقضمها.

زاحفا.. دارجا.. ماشيا.. ماشيا.. يصوب أشعته الصفراء الذابلة للأمام، يحمل أمراضه المزمنة أوسمة تبعثر خياله، وخياله الخصب أراه كتلة ضخمة تسد النفق، كتلة من نور ساطع كالأمل الذي يولد فجأة.. هزّ رأسه ليزيل أعباء الوهم.. وتتأكد الصورة واضحة نعم. . إنها حقيقة الأشياء، بعد الظلام يأتي النور مبددا الغلس، انتعشت أوصاله.. سرى تيار الحيوية إلى دمه. فركض. ركض وقفز في الفوهة ليحتضن الوهج ويحتضنه هو يتعانقان كعاشقين فرّقهما زمن الاحتضار، تعانقا ولف أحدهما الآخر كالكفن الذي لم يحتمل صاحبه فتمزق من تأثير ثقله، ليهوي الراكض في قعر الوادي الجرد مهشما.. مهمشا.. لا يحمل سوى علامة فارقة واحدة في وجهه تُـأول بسمة رضا في محيط اكتسى بحلة من الجماجم المبتسمة.

لا لم ننتهِ.....
الروح المسكينة صعقت لرؤية رفيقها الجسد على هذا النحو من التمزق.. وتاقت للخروج بعد حاولت الطيران والتحليق لتسعده، فاصطدمت بفشل نظرية: أن الروح تطير عندما تتحرر من سلطانها. بينما الواقع المريع أنها حملت ماهية الجسد الذي ضمها. تزحف.. تدرج.. تمشي.. تركض.. لتجد فوهة نفق جديد، لابد أن تمر خلاله.. علها تجد منفذا ترابيا أخضر يؤهلها للخروج والنجاة من هذا الدرك الأسفل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى