الاثنين ١٨ آذار (مارس) ٢٠١٩
بقلم مادونا عسكر

الذّات وإشكاليّة الحضور والغياب

قراءة في «ضمائر غائبة في ساعة الجسد» لمحمد أمين المكشاح

يستجمع الكاتب محمد أمين المكشاح في العنوان "ضمائر غائبة: في ساعة الجسد" المعنى الوجوديّ للجسد وأبعاده الحسّيّة والكونيّة. وكأنّي به في تأمّل خاصّ حول تفاعلات الجسد وحضوره كحقيقة، لكنّها حقيقة تثير في نفسه الكثير من التّساؤلات الّتي تلقى جذورها في الخلق ونموّ الحسّ الإنسانيّ وتفاعله مع الآخر من جهة. ومن جهة أخرى قيمة الجسد المقدّسة بالمعنى الإنسانيّ العميق للقداسة لا بالمعنى اللّاهوتيّ. (في ساعة الجسد) عبارة تجسّد لحظة الوعي المعرفيّ الّذي تغيب فيه كلّ معرفة ملتبسة أو كلّ مخزون معرفيّ متوارث. لا يتحدّث الكاتب عن (جسد) وإنّما (الجسد) واللّحظة المستنيرة الّتي أيقظت في داخله بعداً نهيويّاً للجسد المرادف للكينونة الإنسانيّة. الجسد الجامع للواقع الحسّيّ والبعد الرّوحي الأبديّ. ولقد أتت عبارة (في ساعة الجسد) كقاعدة لما سبقها (ضمائر غائبة)، فأتى لفظ (ضمائر) نكرة مقابل (الجسد) المعرّف. وإن دلّ هذا على أمر فهو يدلّ على تغييب الكاتب لدلالات أو قناعات سابقة وعامّة أمام لحظة تجلّي معرفته الشّخصيّة. فيدفعنا إلى الغوص في هذا النّصّ من باب معرفته الّتي يؤسّس لها من خلال قوله (بين الهو والأنا الأعلى، تبخّرت الأنا في نظريّة فرويد وتجلّينا: أنت وأنا سويّة...) ولعلّه بهذا القول بلغ النّتيجة أو حقيقة الأنا- أنت، أو كأنّي به يقول إنّ البحث يكمن في الأنا- أنت لا في الأنا. فالأنا صورة ناقصة تحتاج للاكتمال بالأنت.

أن يبدأ الكاتب بالنّتيجة فذاك يعني أنّه يقرأ الماضي على ضوء الحاضر في النّصّ، أو يستحضر الشّخوص داخل المنظومة الكونيّة ليجذب القارئ بأسلوبه الخاصّ إلى المشاركة في هذه التّأمّلات والتّساؤلات. فيفتتح النّصّ بجملة شكّلت أساساً للنّص، كما أنّها انطلاق من الزّمن نحو ما فوق الزّمن (أشتهيها، لا أنكر، بل إنّي أؤكّد ذلك...). وإن كان أساس النّص الشّهوة فهو لا يريد بها الشّهوة بالمعنى المبتذل أو الهشّ، بل إنّه ضبط دلالات اللّفظ (أشتهيها) بجعل الشّهوة رغبة عميقة في الاتّحاد بالآخر بهدف الاتّحاد بالمعرفة. الشّهوة، العطش والشّوق بحثاً عن حقيقة لا الشّهوة النّزعة المتحقّقة بنتيجة.
"أشتهي الرّوح فيها والحياة النّابضة في جميع تفاصيلها، أشتهي كلّ ذلك وأكثر إلى حدّ التّعب، إلى حدّ الذّوبان والولادة مرّة أخرى خارج الزّمان والمكان... هي لا تعلم بعد أنّي أختلج حين أتأمّل تجلّيها كلّ ليلة، حين أتحدّث إليها وأخشى فقدانها، حين تشاركني الخيال الّذي تتجلّى فيه الحقيقة أكثر من الواقع، حين أشاركها فراش رؤاي وتتجسّد الأنثى فكرة وأمنية، وهي لا تعلم أيضاً كم أنّ الغواية مقدّسة في حضورها كما في غيابها... عليّ أن أعترف أيضاً أنّها لا تغيب، الفكرة لا تغيب ولا تفنى، الفكرة تذهب بعيداً في جوهري، تحيي تفاصيلي المبعثرة، تنادي بالاكتمال وبالسّلام، بالتّمخّضات وبالحرب..."
(هي) الحاضرة في فكر الكاتب ووجدانه، المتجلّية حقيقة يكاد يلمسها، غائبة في الواقع. الكاتب في حالة وعي للآخر (الأنثى) وقيمتها الحسّيّة والمعنويّة. كما أنّه في حالة إدراك عميق لتفاصيلها لكنّها ما زالت غائبة كشخص. فهو يحاكي الفكرة والوعي والحقيقة الّتي أدركها. ويبرز هنا العمق الفلسفيّ لحقيقة الأنثى/ الإنسان غير المنفصلة عن الرّجل/ الإنسان. يحاكي الكاتب هذا التّكامل وهو في صراع بين الواقع والخيال. فالفكرة حاضرة ويقينيّة لكنّ الواقع مختلف. وكأنّه من العسير أن يلتقي بالحقيقة الأنثويّة واقعيّاً، بيد أنّها تحضر بملامحها وتفاصيلها في كينونته ومعرفته وإدراكه. (عليّ أن أعترف أيضاً أنّها لا تغيب، الفكرة لا تغيب ولا تفنى، الفكرة تذهب بعيداً في جوهري، تحيي تفاصيلي المبعثرة، تنادي بالاكتمال وبالسّلام، بالتّمخّضات وبالحرب...). وكأنّي بالكاتب يقول إنّ الأنثى الحقيقة حاضرة في عمقه، وإنّه في شوق ورغبة شديدة للقائها في ذاته. وما استحضارها في النّصّ وحضورها إلّا تأكيد على أنّ الكاتب يحتاج إلى الآخر (هي) لتكتمل معرفته.
"أفكّر أحياناً أنّ كلّ تلك الفراغات الجوفاء وضعتها لاعتقادها أنّي أشتهي جسدها لا غير، هي لا تعلم أنّي أشتهي كلّ تفاصيلها بلا استثناء ولا استغناء، أنّ كلّ ما فيها يجعلني أتمرّد على النّهار واللّيل لأتأمّل فيها، في كلماتها، في صمتها، في غضبها... هي لا تعلم ماذا يكون لي معها في اللّيل حين تغمض جفنيها...
كيف تسربّت إلى جوهري؟ في تماهينا وعد بميلاد آخر وبعث في عالم لا يهمّ فيه غير احتراق الجسد بنظرة واحدة..."
يشير الكاتب في هذه الفقرة إلى ارتباط الكينونة الأنثويّة بحرّيّته. وما إدراكه ورغبته في تفاصيلها إلّا رغبة وجوديّة في معرفة ذاته وتحرّره من النّقص والضّعف. فبعيداً عن إدراكها يتجذّر نقصه ويظلّ مسجوناً في صورته النّاقصة أو بحثه عن الاحتواء أو عن شيء من التّألّه. (هي لا تعلم أنّي أشتهي كلّ تفاصيلها بلا استثناء ولا استغناء، أنّ كلّ ما فيها يجعلني أتمرّد على النّهار واللّيل لأتأمّل فيها، في كلماتها، في صمتها، في غضبها...) في الشّهوة إليها وفي حضورها اليقينيّ انقطاع تامّ عن المكان والزّمان. وإذا خرج الكاتب من هذه الدّائرة الزّمانيّة المكانيّة حقّق حرّيّته الإنسانيّة على مستوى القيمة لا على مستوى التّحرّر الآنيّ. لذلك يأتي فعل الشّهوة هنا مرادفاً للتّعبّد بمعنى أو بآخر، كصلة حميمة عميقة بين شخصيّن تتخطّى اللّقاء الحسّيّ والرّوحيّ معاً. إنّه اللّقاء بالحقيقة وبالإدراك المتعالي عن المحسوسات. وفي تمرّده على اللّيل والنّهار إشارة إلى تفلّته من الحقائق المحسوسة ليدخل في جوهر يخلص به إلى المعرفة اليقينيّة.
يستخدم الكاتب لفظ (اللّيل) في حالتين منفصلتين، الأولى دلّت على خروجه عن الزّمان والمكان، لكنّ الثّانية دلّت على الصّراع القائم في نفسه نتيجة التّباعد (هي لا تعلم ماذا يكون لي معها في اللّيل حين تغمض جفنيها). يرمز اللّيل في هذه الجملة إلى ظلمة النّفس والصّراع بين الرّغبة والمعرفة، بين الأنا- أنت الحاضرة في النّفس والأنا التّائقة إلى الاتّحاد الكلّيّ بالأنت.
"ذات مرّة أسررت إليها أنّي أرى في الحكاية قدسيّة رغم التّجلّي الواضح للجسد... في البداية ضحكت، ربّما لظنّها أنّي أسخر من الدّين، أقسم أنّي لا أحاول إلّا أن أفهمه، من منظور آخر ربّما، لكن قطعاً لا أحاول السّخرية...
"لا أهمّية للزّمان ولا للمكان حين تلتقي أفكارنا، موعدنا ذاك إحياء للأصل الأوّل، آدم وحواء طُردنا من الجنّة ثمّ التقينا..."
يعود بنا الكاتب إلى الأصل الأوّل، الصّورة الأولى المتكاملة في بحث عن سرّ الوجود الإنسانيّ (الأنا-أنت). ولعلّه يرنو إلى فهم أعمق من ذاك الّذي توارثناه. يحضر الجسد في العلاقة التّكامليّة بين الرّجل والمرأة، لكنّه ليس سوى أساس لما هو أعمق وأبعد. فيمنح العلاقة بينهما طابعاً قدسيّاً يحدّد إطار الجنّة بمفهومه الخاصّ. الجسد هو الحقيقة غير الملتبسة، المتجلّية في الوجود الإنسانيّ والمرافقة بتفاصيلها كلّ اختباره. لكنّ هذا الجسد يحمل في كينونته ما سمح لآدم وحواء باللّقاء بعد الطّرد. إذا كان الطّرد نتيجة للمعصية كما نعلم، فاللّقاء بطابعه القدسيّ ضرورة للعودة إلى الأصل واستعادة الجنّة/ المعرفة، أو الجنّة/ الاكتمال والسّلام أو الظّفر بالأبد. (أنا مسكون بهواجس الأبد...) والكاتب المسكون بهواجس الأبد يحاكي امرأة حاضرة غائبة تشبه الأبد، وتشبهه في إنسانيّته وتفاصيله. (كانت تتحدّث بما يختلج في نفسي، ربّما ذهبت أكثر ممّا ظننت في دخيلتي.) لكن هل من لقاء حتميّ بهذه المرأة السّاكنة في عمق الكاتب؟ أم أنّها تبقى أسيرة الفكرة إلى أن يحلّ زمن آخر، أو إلى أن تتجسّد الحقيقة؟ مع أنّها غير مفارقة له، وغير منفصلة عنه. هي جزء من كلّه وكلّ حاضر في كلّه. حتّى في تأمّلاته يستحضرها ليكتمل التّأمّل ولتكون المعرفة غاية وخلاصاً.

"كانت النّهاية قريبة ولا مناص منها غير التّوقف هناك، على بعد بضع خطوات من اندثار كلّ شيء...
هكذا كان الأمر: لا مزيد من الكلام، لا وداع ولا وعد...
ربّما نلتقي هناك مرّة أخرى..."

قراءة في «ضمائر غائبة في ساعة الجسد» لمحمد أمين المكشاح

مشاركة منتدى

  • معضلة الغياب في الحضور
    في العمل والحياة
    محمد قاروط ابو رحمه
    كنت في أحد الدورات النوعية احاضر واجري نقاشا مع المتدربين القادة عن الخيال والمعرفة، كان أحد المشاركين يقاطعني ويسأل ويستنكر أحيانا.
    واخر كان يقاطع ويطلب الكلام ويبدأه بالقول، عندي ملاحظة، ارجوا ان لا تزعل مني.
    هذه الدورة انا صممت محتوياتها، وقدمت كل موادها.
    تميزت هذه الدورة بانها الأولى في فلسطين، والأولى على الصعيد العالمي في مجالها ضمن بيئتها.
    لأنها جديدة كليا على المشاركين، فان كل جديد يحمل في طياته الفشل والنجاح. وانا لدي المعرفة والخبرة بالتعامل مع ردود فعل الاخرين عندما يتعلق الامر بطرح فكرة إبداعية غير مألوفة وجديدة.
    اعرف ان الجديد سيقسم ردود فعل الناس عليه الى أربعة اقسام المؤيد للجديد، والرافض المقاوم له، والصامت غير المبالي، والمجاري.
    واعرف ان صاحب الفكرة الجديدة، سيكون كمن يضع نفسه هدفا لسهام الاخرين، او كمن يقف عريانا امام سخريات الاخرين.
    في الدورة التي اشرت اليها سابقا، كان للمشاركين فيها دورا حاسما في نجاح الدورة، وتحويلها الى دورة معتمدة ومحاضرات في دورات أخرى.
    لكن كان أحد المشاركين غائبا في الحاضر.
    كيف يكون الفرد غائبا في الحاضر؟
    لقد كان هذا المشارك، يسمع لي ليرد علي، وليحرجني، ويستعرض معارفه امامي وامام زملائه. (وهذا أيضا تجده في الحوار داخل الاسرة او العمل).
    عندما يستمع الفرد ليرد، ولا يستمع ليفهم، فانه يكون غائبا في الحاضر. الغياب في الحاضر هو استحضار ما تعرفه (الذي أصبح في الذاكرة بمنزلة الغائب) لتحاكم به ما يقال في الحاضر قبل ان تفهمه.
    عندما يفعل الفرد هذه الكيفية الخاصة في الانسان فانه يفقد الحاضر لصالح الغائب.
    فاذا كان الفرد غائبا في الحاضر فان مستقبله سيكون محكوما للغائب وليس للحاضر وللجديد الان الذي قد يجعل المستقبل أفضل.
    إن من المعروف والمفهوم ان الجديد يقع في الحاضر من أجل المستقبل، والجديد أيضا غير مألوف، فقد يكون مفيدا او غير مفيد، من يدري؟ ولا يوجد طريقة مضمونه لمعرفة ذلك. والسبيل الوحيد لمعرفة صحة الجديد هو بالموافقة على تجربة الجديد وبالتالي فهمه وإدراك منفعته من عدمها.
    ان الجديد لا يكون من فراغ ولا يعمل في فراغ، انه ابن بيئته ومن اجلها، هو ليس جزءا منك بالتمام والكمال وليس غريبا عنك أيضا بالتمام والكمال.
    عندما يغيب الفرد في الحاضر، (عند كل جديد) فهذا يؤشر على أن الفرد يعامل الجديد كما لو ان الجديد يهدد ماضيه كله ويضعه على المحك. الذين يقامون التغيير والجديد غائبين في الحاضر لان الجديد بالنسبة لهم ليس له استمرارية معهم، فينتابهم الخوف فيحضروا الغياب لمقاومته.
    لقد عملوا بطريقة معينة وكونوا معتقداتهم وأصبحت حياتهم وعملهم مألوفة.
    عندما يقرع أحدهم باب التغيير بفكرة جديدة، يهتز كيان أسلوب ماضيهم كله، لذلك تراهم يغلقون الأبواب امام الجديد بالغياب في الحاضر، لان التغيير يعني لهم انهم لن يعودوا كما كانوا.
    لقد كنا في اعمار الشباب ولا نزال حتى في كهولتنا نعالج هذا الامر بطريقة بسيطة. عندما يقدم لنا أحد زملائنا فكرة جديدة، فلا أحد يقاوم هذه الفكرة، بل غالبا ننقسم الى فريقين فريق يؤمن بالفكرة، ويتجند لتجربتها، والفريق الثاني يقول نحن على استعداد لتنفيذ ما تطلبوه منا وبالشكل الذي تقرروه.
    اما في النقد فالأمر مركب بثلاثة مسائل سلبية:
    الأول عندما يقاطعك أحدهم ليقدم نقدا، فانه يسمع لينقد، ولا يسمع ليفهم.
    الثاني عندما يقول لا تزعل مني، فهذا الفرد يفهم النقد على انه للشخص وليس للموضوع.
    والثالث عند توجيه النقد قبل الفهم، فان ذلك يعبر عن فهم النقد على انه سلبي دائما.
    المسالة الأولى عليه تعلم الاصغاء ليفهم. والمسألة الثانية، عليه التعلم ان النقد للموضوع وليس للشخص. والمسألة الثالثة، ان يتعلم ان النقد أولا اظهار الإيجابيات والثاني اظهار السلبيات مع علاجها، فلا يعتد بنقد سلبي بلا بديل.
    في الحالتين مقاومة التغيير عن طريق مقاومته او نقده، فان معضلة الغياب في الحضور هي السبب في ذلك، وعلاجهما التركيز والحضور في الحاضر.
    في الحياة لاحظ إذا اختلف اثنان كيف يحضر الغائب، ويحضر بكثافة عندما يكون سلبيا.
    لاحظ إذا اختلف زوجين، كيف يحضر الغائب ليفسد الحاضر.
    الغياب في الحاضر، او الحاضر في الغياب أحد الخصائص الكيفية التي يتفرد بها الانسان عن سائر مخلوقات الله، وظيفتها تحسين جودة ونوعية حياة الانسان وعمله، البعض يستخدمها بغير ما صممت لأجلها.
    وحدة الحضور والغياب خاصية كيفية للإنسان تساعده على الاختيار لحياة وعمل أفضل، البعض يستخدمها بغير مقصدها.
    في الختام:
    نحن ننتقي الغائب ليحضر. انه خيارنا. فإذا كان لابد لنا من احضار الغائب في الحاضر، فان اختيار الايجابي من الغائب ليعيننا على الحاضر من اجل حياة سعيدة وعمل منتج مفيد اكثر أهمية وفائدة من غيابنا في الحاضر. لتنذكر ان الانسان لا يملك الا الحاضر، فليستثمره حتى لا يكون غائبا في الماضي، الغائب.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى