الخميس ١٥ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم محمد عبد الحليم غنيم

الرائحة

بقلم : سعدات حسن مانتو

في تلك الأيام الماطرة نفسها؛ كانت أوراق شجرة البيبال خلف النافذة تُغسل بالطريقة ذاتها. وعلى سرير الزنبرك المصنوع من خشب الساج، والذي تم تحريكه قليلًا بعيدًا عن النافذة، كانت فتاة مراثية تتشبّث براندهير.

خارج النافذة، كانت أوراق شجرة البيبال، كأقراط طويلة، تصطك في الظلام الخافت.

تشبثت الفتاة الماراثية براندهير، كأنها ترتعد. كان المساء قد اقترب، وبعد أن قضى نهاره في قراءة الأخبار والإعلانات في صحيفة إنجليزية، صعد إلى الشرفة ليستنشق بعض الهواء. وهناك رآها، ربما عاملة في مصنع الحبال القريب، تحتمي تحت شجرة تمر هندي. تعمد لفت انتباهها بتنحنحه، ثم أشار لها بالصعود إلى الأعلى.

كان يشعر بالوحدة منذ أيام كثيرة. فبسبب الحرب، التحقت جميع فتيات بومباي المسيحيات تقريبًا، واللواتي كنّ زهيدات الثمن فيما مضى، بقوات الدعم النسائية. وقد افتتحت بعضهن مدارس رقص قرب منطقة فورت، حيث لا يُسمح بالدخول إلا للجنود البيض.

وهذا ما سبب اكتئاب راندهير العميق: فمن جهة، تناقص عدد الفتيات المسيحيات؛ ومن جهة أخرى، فإن راندهير — الأكثر تهذيبًا، وتعليمًا، وصحة، ووسامة من الجنود البيض — لم يكن يُسمح له بدخول حانات الرقص فقط لأن بشرته ليست بيضاء.

قبل الحرب، كانت لراندهير علاقات جنسية مع العديد من الفتيات المسيحيات قرب ناگپارا وفندق تاج. كان يعرف طبيعة هذه العلاقات، ويدرك — أكثر من أولئك "الهجينات" المسيحيات أنفسهن — أن تلك القصص الغرامية لم تكن سوى صيحات موضة، وأنهنّ، في النهاية، سيتزوجن واحدا من الحمقى.

لقد أشار إلى الفتاة المراثية بالصعود فقط انتقامًا من هازل، التي كانت تسكن في الشقة أسفل منه.كل صباح كانت ترتدي زيها العسكري، وتميل قبعتها الكاكيّ على شعرها القصير، وتخرج إلى الرصيف وكأنها تتوقع من المارة أن يفرشوا لها الأرض بأجسادهم.

كان راندهير يتساءل دائمًا لماذا ينجذب لهؤلاء الفتيات المسيحيات.لا شك أنهن كنّ يُظهرن الأجزاء الجديرة بالإظهار من أجسادهن بجرأة، ويتحدثن عن اضطرابات الدورة الشهرية دون أدنى خجل، ويروين قصصًا عن عشاق سابقين، ويبدأن بالرقص ما إن تُعزف الموسيقى…

كل ذلك حسن، لكن ألا يمكن لأي امرأة أن تتحلى بهذه الصفات؟

لم يكن راندهير ينوي أن ينام مع الفتاة المراثية حين أشار لها بالصعود. لكن بعد لحظات، عندما رأى ملابسها المبتلة، وفكر فى نفسه : «آمل ألا تُصاب بالتهاب رئوي، المسكينة»، ثم قال بصوت واضح :

 انزعي هذه الملابس وإلا أصبتِ بالبرد.

فهمت قصده، لأن عروق عينيها احمرّت وبدت وكأنها تسبح. لكن عندما أخرج راندهير روبه الأبيض وناولها إياه، فكّرت فيه مليًا وفكت سترتها/ كاشتا*، التي بدت الآن أكثر اتساخًا بسبب البلل. وضعتها جانبًا ولفّت الروب حول فخذيها بسرعة. حاولت خلع بلوزتها الضيقة، لكن طرفيها كانا مربوطين بعقدة مدفونة في انحناءة صدرها الضحلة والمتسخة. حاولت طويلًا، بمساعدة أظافرها البالية، فتح عقدة البلوزة، لكنها أصبحت صعبة بسبب المطر. بعد أن تعبتُ أخيرًا، استسلمت، وقالت لراندهير شيئًا ما باللغة الماراثية، معناه: "ماذا أفعل؟ لن تُفتح".

جلس راندهير بجانبها وبدأ بفتح العقدة. لكنه سرعان ما تعب من ذلك أيضًا، فأمسك بطرفي البلوزة بكلتا يديه وسحب. انزلقت العقدة؛ تطايرت يدا راندهير في كل مكان؛ برز ثديان نابضان للعيان. شعر راندهير للحظة أن يديه، كيدَيْ خزّاف ماهر، قد شكّلتا كوبين من الطين الطري المعجون على صدر هذه الفتاة الماراثية.

كان لثدييها نفس الطابع نصف الناضج الممتلئ بالعصارة، ونفس الجاذبية، ونفس البرودة الدافئة التي تُوجد في الأطباق الرطبة حديثة الخروج من بين يدي الخزّاف. وكان هناك بريقٌ غريبٌ ممتزج بهذين الثديين الشبابيين النقيين. كأن طبقة من الضوء الخافت تحت لونهما القمحي الداكن قد أطلقت هذا البريق، بريقٌ موجودٌ وغير موجود في آنٍ واحد. كان انتفاخ ثدييها يشبه مصابيح طينية تحترق عبر مياه عكرة.

في تلك الأيام الممطرة نفسها. تساقطت أوراق شجرة البيبال خارج النافذة. كانت ملابس الفتاة الماراثية المبتلة مكومة في كومة قذرة على الأرض؛ بينما تعلقت براندهير. بعث فيه دفء جسدها العاري المتسخ نفس الإحساس الذي يُحدثه الاستحمام في حمّام حلاقٍ دافئٍ رغم قذارته في عزّ الشتاء القارس.

طوال الليل، ظلت متعلقةً براندهير. اندمج الاثنان في بعضهما. لم يتبادلا أكثر من كلمتين، لكن كل ما يحتاج إلى قوله تم نقله عبر شفتيهما وأنفاسهما وأيديهما. طوال الليل، تجولت يدا راندهير بخفة الهواء على ثديي الفتاة الماراثية. كانت حلمتاها الصغيرتان والتورمات السمينة المنتشرة في دائرة سوداء حولهما تستيقظان بالإحساس، مسببتين في جسدها رعشةً جعلت راندهير نفسه يرتجف.

كان قد عرف هذا الارتعاش مرات عديدة من قبل؛ وكان على دراية تامة بمتعته. أمضى ليالٍ كهذه سابقًا، ضاغطًا صدره على ثديي العديد من الفتيات الناعمة المتماسكة. قد نام مع فتياتٍ غير خبيراتٍ تمامًا والتفت حوله، وقلن له كل شيء عن منازلهنّ الذي لا ينبغي إخباره لغريبٍ أبدًا. قد أقام علاقاتٍ جنسيةً مع فتياتٍ يقمن بكل العمل الشاق ولا يسببن له أدنى متاعب. لكن هذه الفتاة الماراثية التي وقفت غارقة تحت شجرة التمر الهندي، والتي أشار لها لتصعد إلى الطابق العلوي، كانت مختلفة.

استنشق راندهير رائحة غريبة تنبعث من جسدها طوال الليل؛ كانت كريهةً وحلوةً في آنٍ معًا، فاستنشقها بعمق. من تحت إبطيها، وثدييها، وشعرها، وظهرها — من كل مكان؛ أصبحت جزءًا من كل نفسٍ يتنفسه راندهير. طوال الليل ظل يفكر، هذه الفتاة الماراثية رغم قربها الشديد مني لن تكون بهذا القرب لولا هذه الرائحة المنبعثة من جسدها العاري. لقد تسللت إلى كل ثلمة في عقله، ساكنةً أفكاره القديمة والجديدة معا.

لحمت تلك الرائحة راندهير والفتاة معًا طوال تلك الليلة. دخل كل منهما في الآخر. هبطا إلى أعماق سحيقة، حتى أصبحا كيانًا واحدًا، قمة خالصة من النشوة البشرية، نشوةٌ، رغم كونها عابرة، إلا أنها أبدية، ورغم تحليقها في الهواء، فإنها ثابتة، لا تتزحزح ولا تتحرك. أصبح الاثنان كطائرٍ، بعد أن حلق عاليًا في زرقة السماء، بدا ساكنًا لا يهتز.

فهم راندهير الرائحة التي انبعثت من كل مسام هذه الفتاة الماراثية، لكنه عجز عن تشبيهها بأي شيء، كالرائحة التي تفوح من الماء عند رشه على الطين. لكن لا، تلك الرائحة كانت مختلفة؛ لم يكن فيها أي شيء من زيف اللافندر والعطور المصنعة؛ كانت حقيقيةً تمامًا، كالعلاقات الجامعة بين الرجل والمرأة، حقيقيةً وعتيقة.

كان راندهير يمقت رائحة العرق. بعد الاستحمام، كان عادةً يضع مسحوقًا معطرًا تحت إبطيه وفي مناطق أخرى؛ أو بعض الخلطات الأخرى التي تكبح رائحة العرق. ما أدهشه الآن هو أنه لم يشعر بأدنى اشمئزاز وهو يقبل إبطي الفتاة الماراثية المشعرين؛ بل على العكس، شعر بنوعٍ غريب من المتعة. أصبح شعر إبطيها الناعم رطبًا من العرق. الرائحة التي انبعثت منهما، وإن كانت مفهومة من جوانب عديدة، إلا أنها في النهاية كانت غير مفهومة. شعر راندهير أنه يعرفها، ويدركها، بل ويفهم معناها، لكنه لا يستطيع أن يجعل أي شخص آخر يفهمها.

في تلك الأيام الماطرة ذاتها نظر من النافذة نفسها فرأى أوراق شجر البيبال تُصدر صوتًا خافتًا وقد غسلها المطر. بدا صوتها وحفيف الريح وكأنهما يمتزجان. كان الظلام دامسًا، لكن النور كان مدفونًا في الظلام كما لو أن شعاعًا من ضوء النجوم قد شق طريقه مع قطرات المطر. في تلك الأيام من المطر، حين لم يكن في غرفة راندهير سوى سريرٍ خشب تيكٍ واحد. أما الآن فهناك سرير آخر بجواره؛ وفي الزاوية، طاولة زينة جديدة. نفس أيام المطر، نفس الفصل، قليل من ضوء النجوم يتسرب مع قطرات المطر. لكن الهواء صار الآن كان مشبعًا برائحة الحناء.

كان السرير الآخر خاليا. وعلى السرير الذي استلقى عليه راندهير جانباً، يراقب قطرات المطر وهي تداعب أوراق الشجر في الخارج، غطت امرأة بيضاء البشرة في النوم بعد أن حاولت عبثًا إخفاء الجزء العلوي من جسدها العاري بذراعيها. كان سلوارها الحريري الأحمر ملقى على السرير الآخر؛ حيث تدلى خيط من رباطه القرمزي الداكن. كانت ملابسها الأخرى ملقاة أيضًا على السرير؛ حمالة صدرها، وسروالها الداخلي، وقميصها المزين بأزهار ذهبية، ووشاحها - كلها حمراء، حمراء بشكل مذهل. كانت مشبعة برائحة الحناء القوية. تجمعت بقع صغيرة من اللمعان مثل الغبار في شعر الفتاة. وعلى وجهها، اجتمع اللمعان وأحمر الشفاه لينتج لونًا غريبًا، باهتًا وبلا حياة. ترك حزام حمالة الصدر علامات على صدرها الأبيض.

كان ثدياها بلون الحليب، لكن تشوبهما مسحة زرقاء. أما إبطيها فحليقان، يبدوان كأنهما مُغبرّان بالكُحل. كان راندهير قد تأمّل هذه الفتاة مرارًا، وفكّر: "أليس الأمر وكأنني فتحت لتوي صندوقًا خشبيًا، وأخرجتها منه، كما تُخرج رزمة من الكتب أو أطقم الخزف؟ بل حتى جسدها يحمل الخدوش والآثار نفسها التي نجدها على الكتب والخزف."

فك راندهير أربطة حمالة صدرها الضيقة المحكمة؛ حيث ظهرت آثارها على اللحم الطري في ظهرها وصدرها. وكانت هناك أيضًا بقعة على خصرها من الرباط المشدود بإحكام. أما عقدها الثقيل ذو النهايات الحادة فقد ترك انبعاجات على صدرها، كما لو أن مساميرَ قد غُرزت فيه بقوة. في تلك الأيام الممطرة نفسها. تتساقط قطرات المطر على أوراق شجرة البيبال الناعمة الملساء، تصدر ذلك الصوت نفسه الذي سمعه راندهير طوال تلك الليلة. كان الطقس رائعا؛ هبت نسمة باردة؛ لكن رائحة أزهار الحناء القوية امتزجت بها.

انسابت يدا راندهير كالهواء على ثديي هذه الفتاة الشاحبة بيضاء البشرة، البيضاء كالحليب. بعثت أصابعه رعشة في جسدها الناعم. عندما ضغط صدره على صدرها، سمع صوت كل وتر ارتسم في جسدها. لكن أين كانت تلك الصرخة، تلك الصرخة التي استنشقها في رائحة تلك الفتاة الماراثية، تلك الصرخة التي كانت أوضح بكثير من صرخة طفل عطشان للحليب، الصرخة التي بعد أن تجاوزت حدود الصوت حتى تلاشت، فلم تعد تُسمع، ولكن ظل إحساسها حاضرًا بعمق لا يُوصف.؟

كان راندهير يحدق عبر قضبان النافذة. حيث كانت أوراق شجرة البيبال تصطخب بالقرب منه، لكن بصره كان يتجاوزها إلى أبعد من ذلك، إلى حيث يلمع ضوء خافت غريب عبر السحب الكثيفة، ضوءٌ يشبه ذاك الذي رآه في ثديي الفتاة الماراثية، ضوءٌ كجوهر السرّ، مختفٍ وظاهر في آنٍ واحد.

بين ذراعي راندهير، استلقت فتاة بيضاء البشرة، جسدها ناعم كالعجين الممزوج بالحليب والزبدة؛ من جسدها النائم فاحت رائحة الحنّاء المنهكة، المتبقية من الليل—رائحة بدت له كأنها زفرة رجل يحتضر، حامضة، كالتجشؤ؛ باهتة، حزينة، خالية من أيّ بهجة.

نظر راندهير إلى الفتاة المستلقية بين ذراعيه كما ينظر المرء إلى الحليب المتخثر، بكتلته البيضاء الخالية من الحياة العائمة في ماء فاتر. بنفس ذلك الاشمئزاز الفاتر، تركته أنوثتها بارداً. كان عقله وجسده لا يزالان مأخوذين بتلك الرائحة التي انبعثت بشكل طبيعي من الفتاة الماراثية؛ الرائحة التي كانت ألطف وأمتع بكثير من رائحة الحناء، التي لم يتردد في استنشاقها، التي تسللت إلى أعماقه بإرادتها وحققت غايتها الحقيقية.

بذل راندهير محاولة أخيرة لملامسة جسد تلك الفتاة الأبيض الحليبي، لكنه لم يشعر بأي رعشة. أما زوجته الجديدة- ابنة قاضي الدرجة الأولى، الحاصلة على بكالوريوس آداب، والتي كانت محط إعجاب العديد من الشبان في جامعتها- فلم تحرك فيه ساكنا في رائحة الحناء القاتلة، بحث عن تلك الرائحة التي استنشقها في تلك الأيام الممطرة، عندما كانت أوراق شجر البيبال تُغسل على نافذة مفتوحة، من جسد فتاة ماراثية قذرة.

(تمت)

الكاتب : سعادت حسن منٹو/ (11 مايو 1912 - 18 يناير 1955) كاتب مسرحي وروائي باكستاني، نشط في الهند البريطانية ولاحقًا، بعد تقسيم الهند عام 1947، في باكستان.اشتهر منٹو بكتاباته بالأردية، حيث ألّف 22 مجموعة قصصية، ورواية واحدة، وخمس سلاسل من المسرحيات الإذاعية، وثلاث مجموعات من المقالات، ومجموعتين من الرسومات الشخصية. تُعتبر أفضل قصصه القصيرة من الأعمال الأدبية الراقية التي يحترمها الكتّاب والنقاد. حوكم منٹو ست مرات بتهمة الفحش في كتاباته: ثلاث مرات قبل عام 1947 في الهند البريطانية، وثلاث مرات بعد الاستقلال في باكستان، لكنه لم يُدان قط. يُعتبر أحد أبرز كتاب الأردي في القرن العشرين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى