الراقص
ليلة خميس شتوية.. بدأت المدينة تأوي إلى ريفها وقراها البعيدة منذ ساعات الظهيرة، ككل خميس في رحلة عبثية تتكرر كل أسبوع. بعد الساعة العاشرة ليلاً تبدو المدينة مهجورة وقد غيرت محياها ألف.. ألف مرة. المدينة أوت إلى النوم، وهنا في قلبها بدأت حياة أخرى.. فضاءات مقتطعة من جسم المدينة القديمة تسبح خارج المكان، الطريق مرصوف بحجر أسود محاكاة لزمن ولى، وعلى مقربة من هذا الطريق يمكن رؤية ألوان متضاربة خارجة عن سياق المكان تنعكس على أرضية الزقاق، ألعاب قطع إكسسوار شالات معتقة، وألبسة قوس قزحية اللوان، وفي نهاية هذا الزقاق الضيق، مجموعة من شباب المدرسة الفرنسية والمدرسة الأمريكية يحاولون الدخول ككل خميس، لكنهم لن يدخلوا لأنهم دون السن القانونية، معظمهم يعيش ضمن أعراف وتقاليد الغرب، إنهم عرب في معظمهم، لكنهم يتصرفون كالأجانب، الحارس الشخصي على باب هذا المكان يمنعهم من الدخول، لا يسمح لأحد بالدخول قبل أن يدفع باستثناء أصدقاء صاحب المكان. إنه طالب حقوق في سنته الثالثة، يمارس لعبة كمال الأجسام منذ سنين، يعمل هنا ليكسب بعض النقود، شخص رقيق لا يقوى على ضرب أحد، ولا أحد يذكر أنه ضرب شخصاً في يوم من الأيام، لكن منظره يخيف الجميع، لا يحركه شيء من على الباب ولا يشرب الكحول أبداً، وفي بقية أيام الأسبوع يعمل حارساً لمصنع في منطقة في ريف المدينة، في كل رأس سنة تحدث بعض المشادات بعد الكثير من الشرب فيحمل الأشخاص المتنازعين ويرمي بهم إلى الخارج دون الإكثار من الكلام. بالقرب من طلاب المدارس الأجنبية شاب وفتاة يدفعان النقود، ويدخلان.
هو مصور فوتوغراف موهوب عاش فترة من حياته في لبنان، وتعًّرف على مصور مشهور، ليتتلمذ على يديه، لكنه لم ينشط وبقي كسولاً دون عمل. في كل يوم خميس يركب سيارة والده البيجو الثمانينية، التي يستعيرها أو يسرقها، بعد أن يتأكد من أن الضوء في غرفة والديه قد انطفأ، يغرقان في نوم عميق بعد احتفال جنسي صغير تحول إلى روتين ضروري لاستمرار الحياة أكثر من كونه علاقة حب متبادلة بين الطرفين، احتفال معد مسبقاً، بكل تفاصيله الصغيرة.
يلج السيارة ومازالت رائحة عطر أبيه الثمين التي تعبق في الممر المؤدي إلى الحمام تزكم أنفه بقوة، يضع مفتاح السيارة دون أن يدير المحرك، يدفع السيارة إلى بداية المنحدر ويركب مسرعاً وما إن يصل إلى مكان لا يثير صوت محرك السيارة فيه انتباه والده، يجلس باتزان يتأكد من وضع ياقة القميص المرتب، ينظف عينيه بسبابته وإبهامه، ويبلل شفتيه الثخينتين بطرف لسانه، يحاول أن يسرح شعره المجعد أو يثبته دون جدوى، يبتسم ليتأكد من نظافة أسنانه، ثم ينطلق وعجلات السيارة تصدر ضجيجاً قوياً، وهو يدوس على عتلة البنزين كطفل في الخامسة والعشرين من عمره.
هي تقطن في ضواحي المدينة، يجدها تنتظر على شباك البيت كالعادة وبالقرب منها أصص ياسمين تقطف بعضاً منه وتضعه في يدها، وتهرع إلى الباب بعد أن تتأكد من ذهاب والديها إلى النوم دون أي طقوس، فكل منهما ينام في غرفة منفصلة عن الآخر منذ ما يزيد على عشر سنين، تغلق الباب بقوة معلنة عن ساعة ذهابها في شرط ضمني بينها وبين ذويها، يقتضي أن تقوم بذلك، فهم لا يرغبون في أن تذهب أمام عيونهم، تصفق الباب بقوة في الذهاب والإياب عوضاً عن ذلك لإعلامهم بساعة مغادرتها وعودتها. تركض مسرعة إلى السيارة ممسكة بحقيبتها الأنثوية الصغيرة.. شعرها القصير كالصبيان يتطاير بالقرب من وجنتيها دون أن يلمس الوجنتين ليدغدغ أنفها الصغير فتقطب حاجبيها بحركة جميلة وتنفخ شعرها كي يبتعد عن وجهها، إضاءة الشارع الخفيفة تلونها بالأبيض والأسود، وكأنها خرجت من شاشة فيلم سينما خمسيني للتو. تلج السيارة بجسدها الصغير المليء بالحيوية تنظر إليه بوجهها الطفولي الذي بقي محتفظاً بقسمات المراهقة وجنونها، تقبّله على وجنتيه القاسيتين قبلة سريعة. وتضع الياسمين في يده.. يستمر بالنظر إليها بعينين صافيتين لا يعكرهما شيء، فتصفعه على جبهته صفعة خفيفة بأطراف أصابعها. وتسأله: هل أنت بخير. لماذا تنظر إلي هكذا؟.. هل أنت جاهز للرقص؟.. فيجيبها وهو يتهيأ للانطلاق بالسيارة بسرعة في الشوارع الضيقة: نعم سنرقص حتى الصباح..
قبل أن يفتتح هذا المكان لم تكن هناك الكثير من البارات داخل المدينة، لتبدأ بعد ذلك بالتكاثر. يشعر المرء في هذا الفضاء بأنه أشبه بلوحة بالألوان المائية الباهتة مرر الفنان قطعة قماشية على الوجوه فغابت التقاسيم، محافظة على نظرة ممزوجة بالخوف والمتعة معاً... تتسرب من الداخل موسيقى لـ«50 cent » تتداخل مع إيقاع أغنية لراشد الماجد، ورائحة تداعب الحواس، مزيج من الكحول، العطور، مزيلات العرق، والكثير من أنواع الدخان. رائحة أعراق وجنسيات مختلفة في بيت عربي قديم سبق أن كان ذات يوم إسطبلاً للماشية، زين مالكه السابق أبوابه وبعضاً من جدرانه بزخارف إسلامية بأشكال هندسية وأخرى نباتية، وبالقرب من هذه الزخارف وضع المالك الجديد صورة تنتمي إلى الفن الحديث، محاولاً قدر الإمكان ألا يحطم التشكيل اللوني للمكان، وبالقرب منها كانت صورة المسيح على ناطحات سحاب نيويورك معلقة، إلى أن سرقت ليبقى مكانها فارغاً.
في المنعطف الأخير، قبل الوصول إلى المدينة القديمة لمست يده يدها بالقرب من مبدل السرعة. لم تعر ذلك أي اهتمام نظر إليها ليتأكد من أنه لم يزعجها بتلك الحركة غير المقصودة، لم تكترث، فيزيد من سرعة السيارة مرة أخرى لتصطدم يده بيدها في المرة الثانية عن قصد. راحت السرعة تزداد باطراد. وصلا إلى «باب توما» توقف في ساحة كبيرة، ركن السيارة بخبرة اكتسبها من سرقة سيارة والده لعشرة أعوام وأسرع ليفتح لها الباب بحركة استعراضية، دخلت معه في اللعبة فناولته يدها ليساعدها في أن تطأ الأرض، نظر إليها مرة أخرى بنفس الطريقة.
– كفى! أنت تخجلني.
– آسف..
حاول أن يقترب منها أكثر لكنه لم يستطع، فاغتنم الفرصة بعناق سريع من الخلف بحركة ذكية كي يحميها من سيارة تمر بسرعة، أمسكها من خاصرتها التي تكشف قليلاً عن جزء من ظهرها واستدارة البطن، ثم ابتعد ليلمس ظاهر يده صدرها الصغير بنعومة، ليرفعه بحنو وهو ينزل يده لتستقر الراحة على مرفقها وتنحدر إلى رسغها لتحيطها كأسوارة، ثم يمسك كفها ويجرها خلفه كطفل صغير وكأن شيئاً لم يكن. نظرت إليه من الخلف في محاولة لإبعاد أي فكرة قد تشوش صورته في عينيها.
– هو ألم تشعر بدفء أصابع يدي..
– هي مستحيل.. هل لمست يده صدري.. لقد أراد أن يبعدني عن السيارة فحسب.. يجب ألا أفكر بهذا كثيراً.
داخل المكان وقفا ليجدا جنود الأمم المتحدة «قوات الفصل» خارج زيهم التقليدي وشاراتهم الزرقاء كتل من العضلات وعيون ملونة ورغبة جامحة يرحبون بهما برفع الكؤوس وإيماءة بالرأس.. الجندي الألماني حاول كثيراً أن يتقرب منها لكنها تملصت منه بصمت.. موظفون من مختلف الجنسيات يعملون في شركات عابرة للقارات بشكل سري.. ابن تاجر كبير هرب من الأنثى التي في البيت في وقت متأخر محاولاً التملص من عاداته وتقاليده ليجد لنفسه موطئاً داخل هذا الفضاء، إنه صديقهما المفضل ليس متطلباً لكنه يسألهما دائماً: بالله عليكما ألستما متحابينن؟ يجيبانه بالنفي لكنه يكرر السؤال دائماً، يحب أن يستمتع بوقته لكن لا علاقة تربطهما به خارج المكان. بالقرب منه بعض العاملين في السفارة الأمريكية تسللوا بين الحشد، يعتريهم خوف وريبة طوال الوقت، قضت إحداهن ليلتها معه خارج حصنها بعد ليلة مخمورة، تسللت في اليوم التالي ولمللت أغراضها على عجل كمن ارتكب جريمة، ورحلت تاركةً بعض الأغراض والكثير من الأسئلة.. إنكليز وأستراليون ينتابهم قلق الأمريكيين وتوجسهم ذاته.. الـBARMAN لبناني، والـD.J أيضاً لبناني، وهناك علاقة كره متبادلة... أديب عراقي مع مجموعة من أصدقائه يصرخ وكأنه في حوار مع الموسيقى لتهزمه الموسيقى دائماً، لا أحد يحب وجوده في المكان، كان معارضاً لصدّام عندما كان صدّام في الحكم، وهو الآن مع صدّام بعد احتلال العراق، يعتقد أن الوقت غير مناسب للعودة للعراق والجميع يتمنون لو أنه يعود للعراق مع أنهم متيقنون بأن الوقت بالنسبة له لن يكون مناسباً أبداً، يتناقش بالسياسة دوماً ويفهم في كل شيء، الجميع هنا ينادونه لبيبة... الأندونيسي الشاذ جنسياً أضاع طريقه ولا يحب الحديث مع أحد، ولا أحد يعرف ماذا يعمل، يقيم علاقات عابرة ولا يريد الالتزام، بعض النسوة يمسكن به متلبساً أحياناً وهو ينظر إلى أجسادهن..
في المدخل الرئيسي يقوم بتجربة يائسة لالتقاط آخر لحظة ضائعة وجميلة من جسدها في لحظات حريته الأخيرة، يحاول الإحاطة بها كمحاولة ليعلن أنها له أمام الحشد كله الذي حفظهما سوية، تبعد يده بلطف عن كتفها بابتسامة عتب رقيقة، فينظر إليها بعتب حزين.
– هو لم تبعدي يدي من قبل.
– هي لا شيء .. لا شيء البتة.. فقط أشعر بالحر.
نظر إليها وكأنه يودعها قبل أن يغتصب جسده آلاف المرات. راحت عيناه تجولان في المكان، ورائحته تعبق وتزكم أنفه بقوة ، رائحته وهو يحترق. الجميع هنا يعرفونه.. إنه الراقص إنه القائد.. قائد الرقص في هذا المكان.. اليوم سيتوج ملكاً للراقصين.. ينظر بعينيه إلى طرف قميصها المفتوح حيث يظهر الثدي الصغير والطري، تشعر بنظرته تلمسها فتمسك طرف القميص وتزرره، تشعر بحرارة جسده.. تمسكه من ذراعه وتخوض في غمار الجموع المتكدسة التي ما زالت تقوم بالإحماء باجتراع كميات الكحول، وتتهيأ للرقص، على نبض الراقصين المنتشرين في الزوايا.
في الوسط تقف مجموعات من الفرنسيين، والإسبان، والإيطاليين، يندسون بينهم رافعين أيديهم، عناق اشتياق، يتجاذبان أطراف الحديث مع المجموع.. أجانب جاء معظمهم لتعلم اللغة العربية لأسباب مجهولة، يتجمعون ويتكتلون ويتمايلون في المساحات التي يقفون فيها على أنغام الموسيقى، ويختلطون مع الآخرين بحذر، ومعهم طبعاً مجموعة من الأدلاء السياحيين الكرماء والمجانيين، يقدمون خدماتهم مقابل أحلام بعلاقة سرية سريعة، أو حلم بدعوة إلى أوربا في يوم من الأيام، ومنهم من يقدم خدماته مقابل زجاجة بيرة ورقصة فقط. روائي وشاعر شاب يبحث عن الاختلاف في كل شيء، صديق الجميع ولا صديق له يحب علاقتهما، وينظر إليهما بحب.
يسرع مدير المحل إلى الاقتراب منهما، رجل عملي في أوائل الخمسينات من عمره، تعرض للكثير من الخيبات في حياته، موسيقي سابق كان في السبعينات يغني الأغاني الثورية، ثم انتقل في الثمانينات وأوائل التسعينات إلى أغاني الـ«doors»والـ«eagles» وغيرها من الفرق التي ما زالت آثارها موجودة إلى اليوم، وانتهى به المطاف في هذا المكان، معظم أصدقائه متشابهون وموسيقيون سابقون. يقترب منهما: ((أوه .. أخيراً وصلتما لقد تأخرتما كثيراً.. لم يبدأ أحد بالرقص الجميع ينتظر الشرارة الأولى)). يصافحهما بحرارة: ((أماكنكما مازالت محجوزة. وكأن الجميع ينتظرون أن تشعلا الرقص... هيا بسرعة واطلبا من النادل ماذا تريدان أن تشربا)).
في الطرف الآخر يجلس أولئك الذين أتوا مبكرين وقد حجزوا أماكنهم بالقرب من ساحة الرقص الضيقة، يصلان إلى المكان ويجلسان فيسارع النادل ليقف وراءهما
– هو: أفضل الويسكي مع القليل من الثلج.
– هي: اختر لي.. أو؟؟ حسناً سأشرب صودا الآن..
تبدأ الدعوات تنهال عليهما من كل حدب وصوب، دعوات لرشفة من بعض الكؤوس، بعض المداعبات والنكت رصفت طريقهما إلى الطاولة التي حجزت باسميهما، يقرب كرسيها منه، فتبتسم بمودة مبطنة بالكثير من الشك.. يصل المشروب بسرعة كبيرة.. يرفع كأسه فيسقط كقطعة واحدة في فمه ويطلب المزيد ترمقه بعينها أن «لا» لكنه يتابع. يدخل في دوامة يشرب بسرعة كبيرة، المزيد من التحيات من طاولات قريبة، ومع كأسه الثالث، يمزج الـ«dj» أغنيتيهما المفضلة لـ«asher ».
بالقرب منهما عاهرتان جميلتان تنظران إليهما بحب ممزوج بالحسد. عاهرتان تبحثان عن الحب في الوقت الضائع، ومتعة الجسد الحرة في الرقص، ونظرات الإعجاب بجسديهما مجاناً للآخرين، الأولى أقامت علاقة مع موظف في السفارة البريطانية وعندما حاول أن يدفع لها غضبت وكسرت ذراعه، لكنه لم يتجرأ أن يبلغ عما حدث كي لا يتعرض منصبه في السفارة للأذى، أما العاهرة فأصيبت باكتئاب ومن ذلك اليوم تكتفي بنظرات الإعجاب التي تحيط بها، أما الباقي فبمقابل. مجموعة من الطلاب الجامعيين يتعاملون مع المكان كسياح أكثر من السياح، يرتدون كالسياح ويتحدثون باللغة الأجنبية مع الجميع على الرغم من الطلبات المتكررة من الأجانب أن يتحدثوا معهم باللغة العربية لأن ذلك مفيد بالنسبة لهم، نحات كبير في العمر أعلن مؤخراً عن ميوله الجنسية الشاذة يرغب في أن يقيم علاقة مع الأندونيسي لكن الأخير يرفض ذلك لأنه لا يريد الالتزام. أمريكي خارج السرب مشكوك في أمريكيته والمتهم الرئيسي في سرقة لوحة المسيح، يعطي دروساً مجانية في الإنتنرنت وتدور حوله أقوال أنه مطلوب بسبب تجاوزات على الشبكة. كاتبة مسرحية مدعية لم ينشر أو يعرض أي من نصوصها تعرف عن نفسها على أنها شخص «حر»، من أبرز المحيطين والمعتاشين على الأوربيين في هذا الفضاء تحاول كسب ودهم دائماً والخاسر الأكبر في هذه العلاقات، صاحب شركة إعلانية ثري كبير لا يرقص أبداً بل يكتفي بالنظر بشهوة إلى الأجساد التي ترقص أمامه، البعض يقول أنه ليس سوياً، وهو المتهم الثاني بسرقة لوحة المسيح، يتبادل الاتهامات المبطنة مع الأمريكي، ويشك بعلاقة غريبة تربطه بالعاهرة الثانية دون دليل يربط بينهما سوى أقاويل الأمريكي. مطرب فاشل يغني لعمرو دياب يعتبره صاحب البار نشازاً، يجالس الجميع، والجميع يكرهه لرائحته السيئة... عاهرة قبيحة تأتي مع زبائنها، تحاول أن تنافس العاهرتين الأخريين في هذا الفضاء تتبادل نظرات الكره مع الجميع لأن العاهرتين الأوليين تنالان الإعجاب ولا تتركان شيئاً للبقية، قامت بطباعة كرت فيزيت ولم تجد صفة لتطبعها على الكرت. مجموعات كبيرة من الأشخاص مجهولو الهوية يدخلون في نسيج المكان بسرعة ويرحلون دون أن يشعر أحد..
في زوايا الفضاء ينتشر الراقصون إنهم نبض المكان الحقيقي، إنهم المايسترو، من دونهم سيفقد المكان طعمه ورائحته. يقفون في الزوايا وعندما يرقصون يتحركون وكأنهم يمارسون الجنس.. لحظاتهم لا تترك أثراً للحزن... يرقصون ويرقصون.. ويرقصون حتى يشعلوا المكان. يتوزعون على كراسٍ في الزوايا.. ويقف البعض على الطاولات كراقصي الـstriptease في الحانات الغربية، يتعرون من كل آهاتهم وأحزانهم ويجنون مستذكرين أجساداً كانت يوماً ما قريبة ويرقصون كطيور الحمام المذبوحة، يرقصون ويصرخون ويتأوهون ابتهاجاً بلحظات تستحضرها مخيلاتهم..
تبدأ الأغاني التي اعتادا الرقص عليها تتكرر، ولم يبدأ أحد بالرقص بعد، وكأن الجميع ترك له شرف الرقصة الأولى، تنظر إليه عدة مرات، ثم تمسكه من يده وتجره إلى ساحة الرقص.
هي: ألا نرقص؟
يقفان في منتصف ساحة الرقص ويبدآن، يتحرران من كل أثقالهما يسرق آخر حركات جسدها بعينه ليتممها، وتقوم هي بالمثل، الإيقاع المنخفض يسوقه إلى الأسفل فتغوص معه، يجولان في المكان بلعبة كر وفر راقصة، وعندما يقترب منها ستكون يده في المكان الصحيح لتحملها عندما ستنحني، رأسها يتحرك بالتوازي مع يديه، لن يختلط خطوهما ولن تتعثر بقدميه لأنه الراقص إنه «راقصها»، حفظ كل حركاتها، ويعرف متى ستغير اتجاهها. هو يعرف متى سيتوقف وهي تعرف متى سيتحرك. حفظ كل الأغاني التي تحبها عن ظهر قلب، ينتقل من مساحة لأخرى يمزج بين إيقاع الموسيقى وإيقاعها، وفي دقيقة يضمها فلا تنفر وتبادله بضمه إلى صدرها.
هي تشعر بنبض قلبه للمرة الأولى، تشعر بالعرق الذي ينساب على جسده وتكتشف أنها لم تنفر منه، شمت لأول مرة رائحته القوية، وللحظة واحدة انتابها شك فظيع، ضمته إلى صدرها دون أن تعرف لماذا.. وأبعدته دون كلمات أمسكت رأسه، لتسأله ليضيع السؤال في ضجيج الموسيقى.
– هي: هل أنت جبان إلى هذه الدرجة
وللحظة شعرت بحرارته... مسحت كالعادة لحظات الشك التي دارت في مخيلتها.. وتستمر بالرقص.
هو لم يعد يسمع إيقاع الأغنية، راح جسده ينساب في متعته الوحيدة وهو يرقب حركتها.. أبعدته عن جسدها بخوف من شرك نصب متأخراً.. كان مغمض العينين وخيالها يرقص في مخيلته.. يجيبها ليضيع الجواب في ضجيج الموسيقى.
– هو: نعم أنا جبان ..
بعد دقيقة واحدة بدأ الجميع يتحلقون حولهما ثم اختلطوا، ضاقت مساحة الرقص، ضاقت كثيراً.. استمرا في الرقص. أحاطها بكليته.. تمايلا معاً.. حاولت إبعاده لكنها الآن لا تستطيع.. يستمر الرقص ويستمر.. حتى يشعر بيدها تمسك بكم القميص بقوة وتجره خارج الساحة.
– هي: لقد وصل.
يقف في مكانه ويتابع حركتها باتجاه الباب، ذاك الذي يقف هناك رجلها.. حبيبها.. تعانقه بقوة وتقبله. حبيبها هناك، يسيران معاً إلى الطاولة، يراقبهما من بعيد.. تعانقه وتبقى يداهما متشابكتين..
هو.. يرقص ويرقص ويرقص، تهدأ الموسيقى، وتتضارب النغمات لكنه ما زال يرقص، يتذكر لمسة ثدييها، يتذكر حنو عينيها، يشعر بحرارة قبلتها على الوجنة يتذكر لحظات عينيه المسروقة بهدوء من فوق قميصها، يتذكر أحاديثهما السرية عن عشاق مروا وعن حبيبها الجديد ويرقص. يرقص وتهرب من عينه دمعة تمتزج مع العرق، يراقب وقع خطوات حبيبها الغبي الذي يرقص خارج النغم وخارج الموسيقى. يراقب جسدها وهو يرقص على إيقاع آخر .. هو يرقص ويرقص ويرقص، ليتوج ملكاً للراقصين. اليوم هو الملك .. هو ملك الراقصين... الراقصين الوحيدين والحزانى..
مشاركة منتدى
19 أيلول (سبتمبر) 2007, 15:55, بقلم يوسف لمسلم
قد تكون على حق من يدري