الزمن والذاكرة في أعمال الفنان محمد عقبة
مذ أبصر الضوء في احدى حواري القاهرة القديمة عام 1930، أي قبل أكثر من سبعة عقود والدهشة لا تفارق عيون الفنان محمد ابراهيم عقبة وكأنه يرى الاماكن بعين الدهشة للمرة الأولى، متمثلا قول حكيم قديم (أن تتعلم القراءة فهذا شيء حسن، أما الأحسن فتعلم كيف ترى..) هكذا عاش في حلم طفولي ملون يحاول حفظ تاثير الاماكن المحيطة من مباني وأزقة وشوارع في ذاكرته حتى مضى الى الدراسة الجامعية ليدخل كلية الفنون الجميلة - قسم العمارة ليتخرج عام 1955 مهندسا معماري لكنه لم ينسى اقلامه الملونة وفرشاته واستمر في تجربة فنيه متفردة في نقل اجواء البناء المعماري وجماليته المكان عبر استنطاق عوالم الذاكرة الجمعية للمدينة ككيان يعيش وينمو وتتبدل سمته عبر توالي الايام واجواء التطور الطبيعي للحياة العامة.
إن ولع المعماري جعله يشعر باهمية الزمن وتجليات مروره السريع وانعكاس فعله على الانسان والمكان معا مما جعله يوجد لغه اخرى في التواصل بينه كفنان وبين المتلقي عبر لوحات فنيه تبدوا محايده او بريئه لكنها مؤثره وتاثيره يكمن في كونها تضيء في لنفس هواجس متعددة الرؤية، بل تفجر زخما من التوتر عبر قراءة توجب تفكيك المدلول الفني لدى الفنان الذي يعتمد بشكل اساسي على دلالات الذاكرة الجمعية، عبر فهم مميز لعلاقة الانسان بالوجود والحياة من خلال المكان كوحدة داله على وجوده وتطوره، فالأمكنة في لوحات الفنان تتشكل مترابطه مع الازمنه بين الماضي المنصرم والحاضر المعاش لتخرج الى منطقه اوسع من المعاصره المستقبلية فهي تنبيء بالمتغيرات وتعكس التطور الوجودي للمكان. فالفنان هنا راصد جيد للزمن واثره في حياة المدينة، ولان العالم من حولها يتغير بسرعة فانه يحاول ان يهيء ارث الذاكره فمع كل لوحة يحكي لنا الف حكاية تحتمل التأويل.
فجوامع القاهرة ومآذنها والاهرام والنصب في وسط الساحات العامه كتمثال (سعد زغلول) ومراكب اسون والحواري القديمة ونهر النيل الضاج بالحركة والحياة من حوله وغيرها الكثير من الاماكن التي تشكل عوالم المدينه استلهمها الفنان كحلم عاشه، فقد لخصت لوحاته كل الزوايا التي لا تلتفت اليها الى عين الفنان المتمرس المستند الى وعي وادراك عالي للاشياء العاديه واليومية برؤيه مفعمه بالحب ومعرفة قيمة الارث المعماري والتاريخي وابراز قيمته المختزنة عبر عين المعماري العارف لقيمة المكان.
إن القاهرة كمدينه عمرها اكثر من الاف عام اعطت للفنان سعادة المبدع الذي اوجد لنفسه اسلوبا خاص مكنه من تحويل المعمار الجامد الى حركيه عبر الظل الوضوء واللون. كذلك أثرت الجزائر العاصمة بارثها المعماري والطبيعة المتنوعة اذ عاش هناك فترة من الزمن اذ منحته القدرة على توزيع اللون وهندسة بناء اللوحة التفاعلية، إن لوحاته تنم عن ثقافة بصرية محلية بقدر ماهي ترقى الى المنجز العالمي، فأسلوب الفنان في نقل الواقع متاثرا بالانطباعية التاثيرية ذات سمة حداثوية معاصرة، فهو يحاول جادا ان يجدد تراثيا ويعطي مضمونا تشكيلا فيه من الماضي وجها ومن الحاضر حوارا لا ينقطع انه يفتح لنفسه طريقا متميزا بين التشكيليين العرب. إن استيعاب الفنان لروح العصر واستخدامه لأدواته ولغته بعد هضمه وتطويعه للواقع مستفيد مما في الانطباعية من شعشعة الضوء وقزحية اللون. ومن قدرة على تحليل عناصر الشكل في الطبيعة، ليبني من خلالها رؤاه المصرية الصميمية مضيفا حسا من القوة ولرصانه والتماسك.
إن الفنان، إذ يبني لوحته لونيا، فيضيف لونا على لون ليصل الى كثافة لونية تعطي العمل ابهارا اخاذا ذو توازن لوني دقيق، فهو يتعامل مع اللون كرمز يولد من خلال الشكل وبطاقتة التعبيرية الكامنة، ان اعماله الاولى بالالوان المائية اعطته قدرة على الانتقال الى الالوان الزيتية وتأسيس اسلوب وتقنية متفردة بين معاصرية في التصويرية الواقعية، بالإضافة إلى قدرة في استنطاق القدرة التعبيرية في رسم الوجوه (البورترية) والتي تستند الى فهم علاقة الانسان بالمحيط في عاطفة محملة بالقلق الوجودي. وكأن ألوانه تحاول الانعتاق من قماش اللوحة لتنطلق الى اوسع فضاء.
إن الفنان (محمد ابراهيم عقبة) يقيم توازنا بين الموروث والمعاصره كضرورة جمالية، فهو شاهد على عصره وناقل امين لتراثه، على انه لايقوم بنقل الواقع الميت، فاللوحة لدية احالة الى قوة ومنظور جمالي، فهو يختزل الواقع بخطوط وإيقاعات (ضربات) لونية ومساحات متناغمه ليقترب بها من الموسيقى البصرية وكأنه يدعوا المتلقي ان ينصت الى اللوحة عن طريق النظر.