صبيح كلش ... طائر الجنوب يغرد بعيداً
يدرك الفنان العراقي المغترب الدكتور(صبيح كلش ) جيدا ومنذ البدء ان مشكلة زماننا بالدرجة الاولى هي الاستلاب الانساني فمذ نشأته الاولى في الجنوب الرافديني حيث ولد(عام 1948 ) في مدينة العمارة وهو يرى ويحس هموم الفلاح الميساني مغروسا بطمى الارض محاط بغابات القصب والنخيل وبيادر الزرع تضيء سمائه حرائق أبار الذهب الاسود وهو يلتحف تاريخا من الاساطير والحكايات تغور في العمق حتى تصل الخليقة الاولى بموروث سومر وبابل واوروك لكنه يعيش على الكفاف، لينتقل الى العاصمة بغداد لاكمال دراسته فيصتدم بذات الوجوه ويعيش معها معانات التقلبات السياسة والاجتماعية المريرة فلا يجد غير الاقلام الملونة و الفحم الاسود ليعيد بها رسم حيوات تلك الوجوه المتعبه فتبرز مواهب الرسم لديه وتلتفت اليه عيون اساتذة الفن، يغادر العراق بعد ان ينال بكلوريوس الفنون بتفوق واضح صوب فرنسا ليكمل دراسته الاكاديمية في ( البوزار ) مطلعا على حداثة الفن التشكيلي العالمي ويحصل على شهادة الدكتوراة في تاريخ الفن المعاصر ليخرج بتجربه خاصه ممازجا فيها بين الارث المحلي والافق العالمية، اذ تبرز محاولته في تأهيل التواصل بين الحاضر والماضي وخلق علاقة ما بالاشياء من حوله وبالمحيط بشكل اشمل.
فهو يحاول الخروج بوعي من المألوف في سياق الاختلاف، بين جمالية وحداثة التشكيل وبين اغراء الاستفادة من الموروث المتراكم في الذاكرة. فيكون الوريث الشرعي لرواد حركة الحداثة في التشكيل العراقي وجهودهم الابداعية والفكرية كجواد سليم وفائق حسن ومحمود صبري وشاكر حسن ال سعيد وغيرهم الكثير ليمازج خلاصة كل التجارب المحلية بما اطلع عليه من التجارب العالمية، فحداثة اللوحة عنده تبرز عبر عملية تركيبية ذات فعل شمولي، بين التكوين والمضمون أخذه في نظر الاعتبار مضامين الحداثة للثقافة البصرية في مجالها الواسع كفعل يعاكس كل جمود او تكرار اجتراري او توفيقي. ان الفنان يحاول ان يمد جسورا بين العقل والمشاعر، وبين الخيال والواقع بروئية ما لا يمكن رؤيتها بشكل مباشر فهو يستفاد من مجازية الاستعارات المستمده من التغلغل في عمق التأريخ واسطرت الموروث الشعبي لتوكيد منظور مغاير للعالم ومعاناة الانسان المنسحق تحت سياط الاستبداد، فهو يرغب في رؤيته بعيون الفنان الواعي كنسيج من العلاقات والثيم اللامتناهية. ان لوحاته تحاول بجد ان تغير رؤيتنا للعالم بفتح نوافذ في طرف أفكارنا،فلا يكون الفن فنا الا اذا دفعنا للتأمل والتفكير الايجابي واعادة لنظر في مخزوننا الثقافي وافساح المجال لافكار جديدة.
فالمعرفة - وكما يقول (فراس السواح ) - التي لا ترتبط بالسلوك تبقى مجرد ألعاب ذهنية لا قيمة لها. ان الفنان يتحسس جمالية الشكل(كالجسد المسجى )مثلا بكل تفاصيله واجزاءه ويتابع الظل والضوء والملمس في حساب دقيق، فيوظف كل لمسة ضوء توظيفا يخدم العلاقات التشكيلية غير المنظوره بين المساحات اللونية والكتل والخطوط. فالفنان يعالج اشكالية الاغتراب الانساني بوعي عبر جدلية الصراع لسبر اغوار التناغم، انه يتلاعب بالبنى وفق وجه تعبيري جمالي متفاعل مع اقتباسه لبنى نصّية يتبناها كثيم رئيسية ثم يضيف اليها من استحضاراته من حكايا ورموز متعددت المشارب كالاساطير التاريخية والموروث الشعبي والكتابة الحروفية ممازجا بينها وبين تاثير الواقع على ذات الانسان ليخرج علينا برؤى مغايرة عن السائد في الفن. ان الفنان في استلهامه للمرموز من الدلالات التراثية لا يتعاطى معه من وجة نظر سكونية جامدة أو كمصدر لماضي ميت ينقل منه ما يشاء بحرفية الناقل بل هو يحاول جاهدا أن يوجد في هذا الموروث وتلك الرموز قدرة حركية معاصرة، وذلك باستثمار الفضاء الجمالي المشحون باشارات التعبير عبر فتح مدلولاتها التاويلية لخلق تصورات متعددة لقراءة خطابه البصري فهو يحاول ان يحرر هذه الرموز من بعدها الايقوني باستدعاء الواقع اليومي ليمازج بينهم، لتبدوا العلامات اساطير مجازية ترمز الى الواقع أو الى اي فكره يريد طرحها.
لذلك نلاحظ ان كل لوحة من لوحاته لها لغتها وخطابها الخاص بها لكنها في المحصله تصب في بناء اسلوبية خاصه بالفنان، وهذ ما يميزه ويميز اسلوبه المتفرد برؤية واعية للفضاء البصري وطبيعة تركيبية تكاملية بمفرداتها، لقد اشتغل العديد من الفنانين العرب على الحرف العربي والكتابة الحروفية لكنها عنده لا تمثل مجدا زخرفيا او ثراث تزيني بل هي حاجه تعبيرية متجذرة في ارثه الثقافي والبصري لايستوعبها الا مخزونه الرمزي ، فتجربته المتجدده تعتمد على صياغة خطاب يعتمد الارث اللغوي للربط بين ثنائية العقلي والحسي، وخلق نوع من الحوار.
ان محاولة الفنان (صبيح كلش ) اقامة علاقه نفسية بين الشكل الفني للوحة ومضمونها جعله يستخدم الفعل لاسترجاع الماضي وعلى هذا الاساس فهو يعتمد على مخزون الذاكرة الفردية _ للفنان _ والجمعية بتاريخيتها واساطيرها ليسترجع كل المواريث المؤثره في الذاكرة وسكبها على سطح اللوحة بمفاصل متعددة فاللغة والفن وحتى السياسة تلتائم لتشكل مادة اساسية للتصور، ان المزاوجة بين المعاصر والتّاريخيّ ما هي الا محاوله للكشف عن مدى الاضطهاد الذي تعانية الذّات الإنسانيّة المعاصرة. وحنين بالعودة لطفولة أنسانيّة كحلم البحث الانعتاق الى عالم ارحب يحقق ولو جزءمن سعادة الانسان.