الخميس ٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧

الشاعر والفنان العراقي بسام الوردي ينقذه الموت... من النسيان

ماجد السامرائي - الحياة

برحيل الاديب والفنان بسام الوردي يهوي نجم آخر من سماء الإبداع العراقي ليستقر في جوف أرض غدت المساحات الأوسع فيها للقبور. وبسام الوردي، لمن لم يعرفه من غير العراقيين، فنان بامتياز، جمع بين الشعر والمسرح والسينما، فكان له في هذه الفنون ما أكد به حضوراً متميزاً في واقع ثقافي دخله بهدوء صاحب الموهبة الواثق من موهبته، وانسحب منه بهدوء الواثق مما قدم لهذا الواقع على مدى ثلاثة عقود.

شعرياً ومسرحياً وسينمائياً ينتمي بسام الوردي الى جيل الستينات، وهو الجيل الذي أنبت، عراقياً، روحاً جديدة في الأدب والفن، فتميّز شعرياً بعطاء دال الى شخصيته، ووقف على خشبة المسرح فكان متميزاً بشخصيته، كما وقف وراء الكاميرا متيحاً لرؤيته السينمائية التفرّد بفرادة المشهد.

كان بسام الوردي في عمق الصورة التي كوّنها جيل الستينات عن نفسه. وإذا كان هذا الجيل قد بدأ صاخباً في حياته اليومية لكثرة ما واجه من تحديات، فإن بسام الوردي كان الشاعر الأكثر تأملاً لذاته بين أبناء جيله، فواجهوه بتحديات روح الإبداع فيهم. ومع أن هذه «الذات» وجدت نفسها، منذ البداية، في صراع لا ينتهي مع العالم، فإن هذا الصراع ظل بالنسبة اليه صراعاً داخلياً، إذ لم يشارك الآخرين من جيله، إلاّ في حدود نسبية، صخبهم.

كان شاعراً من طراز خاص. يكتب، كثيراً أو قليلاً، ولكنه كان شحيحاً في النشر، وإن نشر شيئاً من شعره فمع مزيد من التردد، لا لضعف في هذا الشعر كان يخشى أن يحسب عليه، أو عدم توازٍ في المستوى الفني مع شعر جيله، بل كان، كما بدا لي غير مرة في مثل هذا الموقف، أنه يعدّ ما يكتبه خاصاً به، ولا يريد للآخرين، كل الآخرين، أن يكتشفوا أسراره. لذلك كان يقرأ شعره، إذ يقرأه، لصديق حميم، وليس لجمع من الاصدقاء والمعارف، وكأنه كان يختار من يفشي له «سرّه»!

كان قليل الكلام، كثير التأمل، عميق المعاناة. يقاسم حياته الفن والشقاء، وشقاؤه كان، هو الآخر، سرّاً من أسرار نفسه. إلاّ أنه، على رغم ذلك، كان في آخر مرة إلتقينا قبل نحو سنة، أو اكثر بقليل، يقابل كل شيء بابتسامة المنحسر، لا المنتصر، لأن المرض اشتدّ معه، فارضاً عليه العزلة. وكما يبدو فإنه «توافق» مع عزلته، لأنّ أحداً منا، نحن أصدقاءه، لم يسمع شكواه مما يعاني!

في ذلك اللقاء الأخير حدثني عن بعض ما قدّم. وكان يختصر في الكلام الى حدود بعيدة. لم يكلمني عن شيء مما يفكر فيه، وكأنه كان يشعر، أو قد أدرك، أن حبل التواصل مع المستقبل قد انقطع. وكان الماضي الذي حدثني عنه ثرياً: شعر كتبه عبر رحلة العمر الشقي لا يدري كم مجموعة يؤلف لو أتاح لنفسه أن يجمعه وينسقه في مجموعات، وكتابات كثيرة لا يعرف على أي نحو يصنّفها، وكيف، وأفلام سينمائية ركز فيها على الجانب التسجيلي متمثلاً في «الفيلم الوثائقي القصير»، موثقاً بين ما وثق رحلات حياتية وأعمال عدد من الفنانين التشكيليين، بدأها بفيلم «حكاية للمدى» عن الفنان يحيى جواد، الذي كان معوّقاً ولم تمنعه الإعاقة الجسدية عن مواصلة الابداع نحتاً. وآخر عن الرسام عطا صبري، وثالث عن النحات خالد الرحال، ورابع عن محمد غني... وحين أراد الخروج بفيلمه من دائرة التوثيق كان فيلمه الروائي الأخير «ليلة سفر»، وهو الفيلم الذي لم يحالفه «الحظ الرقابي» ليصل الى الجمهور عبر صالات العرض، وبقي «قيد التداول» ليكون الغصة التي احتبسها صدر هذا الفنان نحو ربع قرن. أما حضوره على المسرح، وفي الدراما التلفزيونية، فهو لا يدري إن بقي شيء منه، أو سلم من غوغاء الاحتلال.

وكان يتساءل، ومعه نتساءل، عما إذا كان بقي شيء من هذا كله حاضراً في الذاكرة، وهي ذاكرة جيل أخذ يتلاشى عن أرض الواقع سواء بالغياب – الموت أو الغياب – الهجرة. إلاّ أنه كما أحسسته في ذلك اللقاء الأخير، من كلامه هو وانفعالاته المحبوسة، كان له، هو الآخر، غيابه الخاص. فإذا كان المنفى ابتلع الكثيرين من أصدقائه وزملائه ممن كان يحمل منهم أطيب الذكر، وله معهم أجمل الذكريات فإنه، هو أيضاً، كان له منفاه: بيته الذي لم يكن يغادره إلاّ مضطراً لرؤية صديق عزيز، أو حضور حفلة تكريم كما يوم الاحتفاء به وتكريمه.

أشياء كثيرة بقيت في الرأس والعين من ذلك اللقاء الأخير معه، أبرزها عصاه التي كان يستعين بها على المشي قاطعاً الطريق الى طريق آخر.

ماجد السامرائي - الحياة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى