السبت ١٩ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم سليمان القرشي

الطريق إلى الخرطوم

عجيب عالم الرحلات الذي دخلته محققا، فما لبثت أن أصبحت رحالة، وقد قادتني عجلة القدر هذه المرة إلى الخرطوم التي ما وصلتها إلا عبر بوابة أوربا، إذ امتدت الرحلة من مطار الدار البيضاء باتجاه روما أولا، ثم من روما إلى القاهرة ثانيا، ومن القاهرة أخدنا وجهتنا إلى الخرطوم التي وصلناها فجر يوم الجمعة 10 فبراير 2006 بعد أزيد من عشرين ساعة من السفر وذلك للمشاركة في ندوة علمية..

كانت الساعات الأربع التي قضيناها في مطار روما كافية لحصول عدة مواقف هزلية، كانت تذاكر سفرنا محصورة عند مطار روما، فكان لابد من تحويل الخط باتجاه القاهرة (الترامونزيت)، وهي العملية التي لم تكن سهلة ولا ميسرة، إذ وقف حاجز اللغة حائلا بيننا وبين أهل روما من موظفي المطار ومستخدميه، ولقد توسلنا بكل معارفنا بلغة الطليان، فسخر الله واحدة في العقد الخامس من عمرها، كانت تعرف شيئا قليلا من لغة موليير، وتتوشح بشيء غير قليل من اللباقة وسعة الصدر، فيسرت أمرنا، وشرحت صدرنا، وهيأتنا للمقام بين ظهراني القوم آمنين مطمئنين، فكانت فرصة للتجول في أفنية المطار والتفرج على أسواقه التي بدت أنيقة و نظيفة؛ نظارات مثيرة يتجاوز سعرها المائتي أورو، و قوارير عطر فرنسي تشيع المرح في كل الحواس، أما باخوس فإن مراسيم عبادته قائمة الأركان و كنائسه زاهية الألوان. كما لم يخل المكان من فضاء لبيع الكتب التي تصفحنا عددا منها،،، طباعة فاخرة،،، وأوراق جيدة،،، وزوار يحرصون على اقتناء كتاب أو مجلة أو جريدة يطالعونها في انتظار أخذ وجهتهم، ليس هنا مجال للثرثرة التي لا تنتهي، ولا للشكوى من كل الناس، ولا يضيع نور البصر في تتبع المؤخرات والتجسس على العورات. لا شك أن للرقي شروط، وللتقدم قوانين تبدأ من الفرد وإليه تنتهي، أفلا ننتهي؟؟.

أما القاهرة فقد بقينا في ضيافة مطارها ساعات خمسة، تناولنا في أثنائها ما أطفأ ظمأنا وأذهب جوعنا إلى حين، كانت القاعة المخصصة للمسافرين العابرين ملأى بمواطني دول شرق آسيا وبنساء ورجال وأطفال من جنسيات مختلفة، وإن بدا جليا أن أغلبهم من إفريقيا وأسيا، حيث غصت بهم القاعة ، وضاق صدرها بعددهم، سيما وقد استسلم بعضهم للنوم،،، فكان أن فضلنا التحرك باتجاه مقهى كان صدره أرحب وفضاؤه ألطف،،، وقد أبهجني منظر عروس بلباس زفافها ترافقها وصيفتان لا تقلان عنها جمالا وروعة،،، كانت خطواتها دقيقة وسريعة،،، كما حاولت أن تخفي ابتسامة تلخص كل ما اعتراها ساعتئذ من مشاعر الفرح والحبور،،، كلنا علق بكلمة،،، فيما كبر رجل بجانبي،،، للجمال سطوة وسلطة على النفوس،،، وللعروس إذا جليت سلطان أحسست أنه أخذني بعيدا نحو جبال مدينة تطوان...

كانت مؤشرات الساعة تتحرك ببطء شديد، فيما ران التعب على قلوبنا وأجسادنا، وتحول المكان المغلق بالنسبة لي إلى لا مكان، وصدقت من قال: هذا الزحام لا أحد، وتوحد الحاضرون في شخص مسافر مجهول متعب،،، حقيبة سفر،،، ووسط كل هذا الانتظار والعرق والعياء وإلحاح النوم ومقاومة الجفون،،، لم تمل راهبة إيطالية ركبت من روما في اتجاه السودان عن السؤال عن معاني كلمات عربية،،، أخذت تسجلها بعناية في مذكرتها الصغيرة،،، راهبة في العقد السادس اكتشفنا أنها كانت تصحب معها حقيبة جلدية حمراء كبيرة الحجم،،، لما ساعدتها على استخلاصها بمطار الخرطوم ،،، ابتسمت ابتسامة جوكاندية...

في رحاب الزمن السوداني:

كانت مؤشرات الساعة ترجع إلى الوراء أربع ساعات ونحن في الخرطوم مقارنة مع ما كنا عليه ونحن نعيش الزمن المغربي الذي يوافق توقيت غرينتش كما تؤكد ذلك كل يوم المذيعة على أمواج الراديو، كانت المسافة الفاصلة بين المطار والفندق لا تتعدى كيلومترين اثنين، أو هكذا تصورتها، خاصة وقد قطعتها السيارة في أقل من سبع دقائق، ليس هذا افتتان بالرقم سبعة، ولكنها حقيقة يعرفها كل من زار الخرطوم التي بدت للوهلة الأولى غامضة عصية على الفهم والإدراك بالنسبة لنا نحن الذين نستشرف عالما غير العالم ومكانا غير المكان، هل لأننا نحمل نظارات غربية وننظر من خلالها لذواتنا؟. أم أن السبب كامن في جهلي المخجل بجغرافيا نفسي ووطني العربي الذي لا أحفظ له في مخيلتي غير تمثلات لا تكاد تلتقي مع الواقع أو تتقاطع معه في شيء.
كانت الخرطوم كما ترسمت لناظري جغرافيا غريبة وبعيدة عن كل ما رأيته في العواصم العربية التي زرتها،،، بساطة في الناس وانبساط في المكان، وتواضع يشعرك بخجل كبير ويجبرك على إعادة ترتيب أوراقك ومراجعة علاقتك بالناس والمحيط.

كان السوق العربي أول ما زرناه في مدينة الخرطوم التي افتتح صباحها على حركة دافئة، لم يكن خروجنا من الفندق باتجاه أسواق البلد بدافع حب التسوق، ولكن حقائبنا آثرت البقاء في روما، إذ فوجئنا أنها تخلت عنا دون أن ننتبه إليها، فوجدنا أنفسنا مجردين من أمتعتنا التي خف وزنها وبخس ثمنها، فوقعنا في حرج شديد لم يرفعه غير رفعنا للملابس التي التصقت بأجسادنا المنهكة. وقد افتتحت الدكاكين المتراصة بجنبات السوق العربي مراسم استقبالها لزبنائها بترتيب محتوياتها بالدكاكين الصغيرة والمتراصة، فيما بدأت جولات المتسولين الصباحية بإلقاء نظرة عامة على المكان وتصفح المرتادين، وقد كنا طعما سائغا لهم، خاصة منهم واحدة لم تتجاوز العشرين من عمرها فقد "لصقتنا" كما نقول هنا في المغرب، فهي تتمسك بقميص عبد الرحيم مؤذن مرة، وتستعطفنى مرة ثانية، لم أفهم من كلامها سوى أنها تتشفع بمكة المكرمة، ولمكة في نفسي مكانا خاصة، أليست مهوى الأفئدة، وما أشد هوى فؤادي إليها... ناولتها ورقة أذهبتها بعيدا في السوق وحملتني أبعد نحو عوالم الحجاز الروحية.

وقد عملنا قبل خروجنا للسوق على تغيير العملة، كان جيبي ساخنا بحفنة دولارات سرعان ما انتفخت وهي تلبس جبة الدينار السوداني، وإن نبهتنا عاملة الفندق إلى أن الناس تحسب بالجنيه، فبدأت العمليات الحسابية،، كم بالدرهم المغربي؟ كم أدفع؟ كم سيبقى؟ أسئلة لم تكن بدافع الشح أو الخوف من حيل التجار ومكرهم، ولكنها كانت بدافع فقر المثقف وعوزه، لا أدري لماذا هذا التزاوج التاريخي بين الأدب والفقر، لعل الأغنياء من مثقفينا يجيبونني عن هذا السؤال الذي كثيرا ما صرفني عن عالم الحرف نحو دنيا الخبز.

في حضرة الوجد:

شدتني الفرقة الشعبية السودانية التي دعينا لمتابعتها بعنف، كانت رقصات أفرادها تمزج بين ألوان عربية وأخرى إفريقية عصية على الفهم صعبة على الإدراك، قادرة على اختراق النفوس والأفئدة بدون مقدمات أو تراتيب، شاعت حالة وجد صوفي في دواخلي مدفوعة ببركان عواطف وانفعالات تمازجت فيها باقة أحاسيس تثير الرهبة والشوق والنشوة والرغبة، وتتجاذبها نسمات الجمال والجلال، يتخدر الإحساس وتستسلم المشاعر لينبوع في النفس أقوى من أن أتمكن من الإمساك بخيوطه أو أتذوق كننه.

رقص الجميع فيما انزويت إلى مقعدي مأسورا بسحر ابتسامة لا أدري هل كانت من طقوس الرقص المقدسة أم هي تجليات لمارد الأنوثة الذي ثار على قمقمه.
ونحن في شارع الجيش مع صلاح، الموظف السوداني الذي تكفل بمرافقتنا خلال مقامنا في الخرطوم، كانت ترانيم صوفية تتلوى من مسجل السيارة بتسابيح وتهاليل، بقدر ما كانت بسيطة وغير متكلفة، بقدر ما كانت نافذة ومؤثرة، وهنا تدخل مرافقنا ليشرح لنا أبجديات الفرقة الصوفية الدائرة في فلك الرقم سبعة وتفريعاته المستمدة من سحرية العدد ودلالاته العميقة في الوجدان الإنساني المعضدة برموز سنبلة العطاء الأبدية.

مع جمهور الثقافة السوداني:
كانت قاعة العروض تغص كل يوم بالحضور، الحضور متميز ورائع، يتابع العروض المقدمة خلال الندوة باهتمام بالغ وبنهم معرفي قل نظيره، كانت الجلسات تستغرق وقتا طويلا بحيث امتدت في أحيان كثيرة إلى ما بعد منتصف الليل، فلا يظهر على الحاضرين عياء ولا يبدو عليهم ضجر أو ملل، ولا يعكر صفو القاعة طنين الهواتف النقالة ورنيينها الذي يتخذ في مثل هذه اللقاءات شكلا بهلوانيا.
وأثناء العروض كانت الجلسات الجانبية، سواء مع الصحفيين أم الطلبة وعموم الباحثين والمهتمين، لا تكاد تتوقف أو تفتر، وخلال تعاملي مع هؤلاء وأولئك لاحظت نظرة السودانيين من الباحثين للمغاربة باعتبارهم متمكنين من مناهج البحث الغربية الحديثة، بالنظر إلى علاقتهم بالغرب وقربهم الجغرافي المثير مع جنوب أوربا، كل هذا أطر نظرة أهل السودان للوفد المغربي الذي ضم نخبة من الباحثين الذين استفدت بدوري من مرافقتهم واستمتعت بمعاشرتهم. إلا أن ما حز في نفسي هو عدم تمكني من حمل نسخ لبعض المخطوطات السودانية، رغم اتصالي بعدد من المسؤولين وتشفعي بغير واحد من المثقفين، وهذا ما اضطرني إلى الحديث عن الموضوع علانية في إحدى الجلسات، فأنا أفكر دائما في تشكيل لجنة من المحققين من قبل جهة أو مؤسسة رسمية أو خاصة وإمدادها بالمخطوطات قصد إخراجها وتحقيقيها، نظرا لما في هذا من خدمة للتراث العربي الإسلامي وإغناء للثقافة العربية، فهل يعيش هذا الحلم كظيما في نفسي، أم أن الأيام ستكشف عن وجه سخائها.

ولعل شغف أهل السودان بالثقافة هو الذي جعل الباحث السوداني المعروف عز الدين عمر موسى يحرص على الحصول على نسخة من كتاب رونق التحبير في حكم السياسة والتدبير لابن سماك العاملي الأندلسي الذي قمت بتحقيقه وتقديمه، فبمجرد أن أخبرته بأني حملت له نسخة من الكتاب أبدى حرصه على استلامها وضمها إلى مكتبته، وبما أنه كان على موعد مع السفر إلى الديار السعودية فقد أخبرني أن ابنه نوح سيزورني في الفندق ليحمل الكتاب... وزارني نوح، وحمل الكتاب، وهو ذات الحرص الذي لمسته في كل من سعدت بالتعرف إليه من أهل السودان.
نوح،،، هذا الاسم الجميل والدال لم يكن وحيدا في شجرة الأسماء السودانية التي تمسكت عروقها بتربة أصيلة كدنا نفتقدها في الأسماء "الجديدة" التي كثيرا ما لا نعرف لها معنى أو ندرك لها دلالة، ومن هذه الأسماء أذكر مزمل ومجتبى ومريم وصديق وموسى وهبة، وغيرها من الأسماء التي لا يمكن إلا أن تترك فيك أثرا أو تثيرا سؤالا ما أو تستحضر ذكرى.

حسن الخاتمة:

(هذه الظلة من عمل الشهيدة "فلانة" تغمدها الله برحمته، ادع لها بالرحمة). إنه إعلان من الإعلانات التي كثيرا ما تصادفها بالخرطوم وأنت ترتاد أزقتها وشوارعها، والمقصود بالظلة المحل المخصص لحماية الركاب من حر الشمس وهم في انتظار الحافلات التي ستأخذهم إلى وجهاتهم المتعددة. شيء لم أره من قبل، بدا لي أنه نوع من الوقف أو الصدقة الجارية التي تفيد البلاد والعباد.

وإذا لم يساعدني الحظ في الوقوف على بعض العادات الاجتماعية المرتبطة بالموت في السودان فقد وقفت على تمثلاتها، سواء في المعرض الذي زرناه جماعة، والذي يؤرخ لحضارة تضرب بعيدا في جذور التجربة الإنسانية، حضارة تحتفي بالحياة وتقدس الموت في نفس الآن، أو في ما هو موجود ومتداول بين الناس، ومن ذلك أذكر جريدة تسمى (حسن الخاتمة) وهي جريدة مختصة في أخبار الموت والموتى!!! أليس هذا احتفاء بالإنسان في كل مواقفه ومقاماته، وألا يعتبر هذا الفعل متجذرا في حضارة النيل؟ .

في ضيافة النيل:

كان يوم الأربعاء 14 فبراير 2006 موعدا للوصال مع نهر النيل، ولمعانقة هذا النهر السرمدي طقوس وترتيبات لا يعرفها إلا من داوم مسامرته، وجدت أهل السودان يتحدثون عن نيلين؛ أزرق وأبيض، كنت كل صباح، وصفحة النيل تتشبث بالغبش، أحرص على الإطلالة من شرفتي بفندق القصر نحو النيل الذي بدا لي على الدوام هادئا رزينا وثابتا وهو يشق مدينة الخرطوم التي استسلمت للنهر بكل كيانها.
كانت جزيرة توتي وهي في أحضان النيل تبدو في عالم آخر غير عالم ما وراء ضفاف النهر، وهو الأمر الذي جعل الدكتور عز الدين عمر موسى يجتهد في الإشارة لنا نحو بيته الذي يتوسط الجزيرة ويعتذر عن عدم تمكنه من دعوتنا لشرب الشاي في هذا البيت، خيل لي أننا لم نتمكن من الحصول على المفاتيح السحرية للجزيرة التي تأبت علينا فاكتفينا بالنظر إليها من بعيد.

كان تجولنا في نهر النيل على متن قارب من صنع مصري، لا بل هما قاربان شدا إلى بعضهما بالحبال الغليظة وفرقت بينهما بلطف عوازل مطاطية خوف الاحتكاك الوخيم العواقب.

رحت أقارن النيل بأنهار المغرب، وأنا الذي أتيت إلى هنا حاملا لبحث عن الماء في الرحلات الحجية بين الحقيقة والرمز، وبينت أن الصورة المتخيلة لهذا النهر قد اصطدمت بصورته الواقعية فصحت مقارنته عندئذ بأنهار المغرب، فاستعدت ذكرياتي مع نهر أم الربيع وهو يقتحم مداخل مدينة أزمور المغربية الضاربة في جذور التاريخ والتي تفننت في إنجاب أقطاب الفن التشكيلي الذين اخترق صيتهم الآفاق. كان منظر نهر أم الربيع يشدني بقوة كلما مر القطار قادما من مدينة الجديدة باتجاه مدينة الرباط شمالا أو العكس حيث كنت أرتحل أسبوعيا بين المدينتين، مكان عملي ومحل إقامتي، وكنت في كل مرة ألتفت بحركة لا إرادية باتجاه النهر وهو ينساب في اتجاه المحيط الأطلسي وقد امتد جسران، قديم وجديد، بين ضفتيه، وهو نفس الوصال الذي ربط دفتي النيل عبر "الكوبري" الحديدي الضخم.

على ضفاف النيل توزع العشاق، بدت خيالاتهم مشبعة بالتجاذب الأبدي بين آدم وحواء، وفي ارتباط سرمدي بالشجرة، كان أزواج العشاق في بحثهم عن لحظة صفاء وطقوس خلوة يختارون الأشجار الضخمة المنتصبة بكبرياء على ضاف النهر، الأنثى آسرة، تشد الرجل دائما أبدا إلى الشجرة، وفي هذا الفعل قد يغادر الجنة إلى حيث يبحث عن لقاء المرأة من جديد!...

وأنا في طريق عودتي إلى بلدي، بعدما انطلقت الطائرة مباشرة ذات صباح لم أتبين منه غير شفق أحمر قان، أغمضت عيني لحظات استعدت فيها كل الأحداث والمواقف، ووقفت عند كل الوجوه التي قابلتها في هذه الرحلة، وجدتني أردد:
عيون المها بين الرصافة والقصر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى