الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم محمد السيد عبد الباسط

الطريق إلى السماء

كان الليل ثقيلا على غزة كأنه جبل من لهب، والدخان يتصاعد أعلاه من الأحياء المحترقة كغيمة ثقيلة تملأ الأفق، لكن داخل المستشفى، كان الترقب المشحون بالقلق يضاف إلى قسوة القصف.

في غرفة العمليات الصغيرة، وقف الطبيب إياد يضغط على جرح أحد المصابين، والعرق يتصبب من جبينه، بينما مساعده ناصر يحاول إيقاف النزيف، كان المولد الكهربائي يعمل بصعوبة، والأدوات الطبية شحيحة، لكن الأمل لم يكن ينفد.

قال إياد بصوت حاسم:

 اضغط أكثر، لا تدعه ينزف.

ردّ ناصر:

 إنه ينزف بشدة، يا دكتور.

لكن إياد لم يتوقف، لم يكن هناك خيار آخر، فكل دقيقة تعني حياة، والموت هنا ليس مجرد احتمال، بل كان يحاصرهم من كل زاوية.

خارج الغرفة، كان صوت الممرض محمود يعلو؛ وهو يحاول تهدئة المرضى والجرحى، ووجوههم مرآة تعكس معاناة المدينة:

  لا تخافوا! لن نترككم أبدًا.

لكن الحقيقة كانت أكثر ظلمة، فالمستشفى مُحاصر. لا ماء، لا كهرباء، لا إمدادات طبية، والقناصة ينتشرون حوله، يطلقون النار على كل من يحاول الخروج أو الدخول، يطلقون النار على كل شيء.

يعرف الجميع أن الاحتلال يريد للمستشفى أن يسقط، يريد إنهاء آخر نقطة للعلاج في الحي العتيق، آخر شعاع للحياة، لكنه لم يدرك أن الحياة في غزة عنيدة… لا تموت بسهولة.

في الداخل، حاول الموظف عبر اللاسلكي الاتصال بأي جهة خارجية:

 هنا مستشفى الأمل… نحن تحت الحصار… لدينا جرحى ومرضى في حالة خطيرة… نحتاج إلى مساعدة.

حاول مرارًا، لكن الرد كان صمتًا مطبقًا، ومع ذلك لم يستسلم: حاول من جديدا حتى التقطت الإشارة مخترقة شوشرة أجهزة العدو الإلكترونية، وجاءه الرد:

 لا يمكننا التدخل الآن، لكننا نحاول… اصمدوا.

اصمدوا… الكلمة التي صارت نشيد غزة منذ عقود، الكلمة التي يعرفون معناها جيدًا، لكنها هذه المرة كانت تعني شيئًا آخر… تعني أنهم وحدهم لفترة على الأقل.
عند الفجر، سمع الجميع صوت انفجار ضخم، ثم صرخات… المستشفى أصيب بصاروخ!
هرع إياد وناصر إلى الخارج، وجدوا الجناح الشرقي قد دُمِر بالكامل، كان الناس أشلاءً تحت الأنقاض، ما لبثا أن سمعا صوت أنين، قال ناصر:

  يوجد أحياء.

غير بعيد، همت الممرضة ليلى في حركة لا شعورية أن تصرخ ، لكنها كتمت صوتها خشية أن يخرج، وتمتمت "لا ينبغي أن أقوم بأي عمل يفت في عضد صمودنا، ويضعف روح المقاومة التي تسري فينا"، ثم ركضت نحو المبنى المنهار، كان إياد ومحمود يحفران، فراحت تحفر معهما بيديها، وسرعان ما انضم إليهم من بقي من الطاقم الطبي، كانوا يسابقون الموت وهم يحفرون، كلما كَلّ أحدهم تذكر أن استمراره في الحفر قد يكون سببا لإنقاذ حياة إنسان، فتعاوده القوة من جديد، لم يبالوا بصقيع كالزمهرير يلقي شباكه على المكان، وأرعدت السماء فاستمروا، وأسقطت المعصرات ماءً ثجاجا فاستمروا، هم يحفرون رغم كل شيء، صاح محمود:

  الله أكبر، الله أكبر.
كانت يد امرأة تحت الحفر قد بدأت تظهر، كثفوا الحفر، وسرت حرارة العزيمة في النفوس، حتى ظهر النصف العلوي للمرأة من تحت الركام، كانت المرأة قلقة، قالت:

  أرجوكم، رأسي عارٍ من حجابي، رأسي عارٍ من حجابي.
أسرع إياد فخلع سترته وألقاها على رأسها، فتحجبت بها بينما يحاول آخرون إكمال استخراج جسمها.

ظلت المحاولات طوال الليل، كانوا يخرجون الجرحى واحدًا تلو الآخر، والموت حولهم ينهش المكان، لكنهم لم يتوقفوا.

كانت أصوات الرصاص تتداخل مع أزيز الطائرات، فيما كانت الأنفاس تلهث تحت الأنقاض وفي أروقة المستشفى المحطم. إياد ينظر حوله، الجميع يحفر، الجميع يقاوم، لا أحد يستسلم.

فجأة، جاء صوت موظف اللاسلكي، وقال:

 قال القائد أبو طارق: "نحاول أن نفتح ممرًا لكم، المقاومة قادمة".

نظر إياد إلى محمود وناصر وليلى، لم ينبس أحد بكلمة، لكن العيون تبادلت نظرات الأمل. رغم كل شيء، هناك من يقاتل من أجلهم، هناك من لم ينسَهم.

قرب المستشفى، كانت مجموعة من المجاهدين تتحرك في الظلام، يتسللون بين الأزقة، يجتازون الركام، ينصبون كمائن للقناصة، ويزرعون العبوات الناسفة في طريق الآليات التي تحاصر المستشفى. كانوا يعرفون أن نجاحهم قد يكون الفرق بين الحياة والموت لمن في داخل المستشفى.

تحركت دبابات ميركافا في اتجاهات مختلفة، صاح القائد أبو طارق:
  الآن.

فأطلق بعض المجاهدين قذائف الياسين، وتصاعد الدخان في السماء، وهجم المجاهدون بينما انطلقت زخات من الرصاص تغطي تحركهم.

في الداخل، أسرع محمود يراقب من ثقب صغير في الجدار، وما إن رأى الانفجارات حتى صاح بصوت متهدج:

 الله أكبر، المقاومة تحاول.

لم يكن العدو غافلًا، وسرعان ما بدأ في الرد، فتصاعد القصف بكثافة غير مسبوقة، واهتزت جدران المستشفى، وسقط سقف إحدى الغرف. الركام، الدخان، الدماء، كل شيء أصبح جزءًا من المشهد اليومي لغزة، لكن شيئًا واحدًا لم يسقط… العزيمة.

تقدم إياد نحو ليلى، وقال بثقة:
 لا وقت للخوف، لن نترك أحدًا خلفنا.

هزّت رأسها، مسحت العرق عن جبينها، ثم حملت حقيبة الإسعافات ونهضت، وركضت خلفه إلى القاعة المليئة بالجرحى، حيث بدأوا بإعداد من أمكن إنقاذه للخروج.

في الخارج، كانت المقاومة قد فتحت ممرا صغيرا نحو المستشفى، لكنه لم يكن آمنًا تمامًا. حمل محمود أول جريح على ظهره وركض عبر الممر، بينما كان القناصة يتربصون، تبعه ناصر، ثم ليلى، ثم بقية الطاقم الطبي، أما إياد، فبقي حتى النهاية، يتحقق من أن الجميع قد خرجوا، ثم سمع صوت محمود يصرخ من الطرف الآخر:

 دكتور إياد… تعال.

هم أن يتحرك، لكنه لمح طفلا صغيرا بالكاد يبلغ عمره خمس سنوات، ملقىً بين الأنقاض، عيناه تبرقان بالخوف. فركض إياد نحوه، حمله بين ذراعيه، ثم انطلق عبر الممر.

لكن العدو رآه، أطلق طلقتين، كان إياد قد اقترب من نهاية الممر، سقط على الأرض والطفل بين ذراعيه، ركض محمود نحوه، حمله بسرعة، فيما كانت سيارات الإسعاف تنتظر لنقل الناجين بعيدًا عن منطقة الحصار.

على نقالة الإسعاف، فتح إياد عينيه ببطء، نظر إلى ليلى وناصر ومحمود، ثم همس بصوت ضعيف:

 لقد نجحنا.

ثم تهلل وجهه، وارتسمت ابتسامة وضيئة عليه، وقال بصوت متقطع لكنه مسموع:

  اصمدوا، دافعوا عن الأرض والشعب، لا تسلموا أرضكم لحظة إلى أعدائكم، أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد ان محمدًا رسول الله.

كان دمه قد تساقط على الأرض، فاختلط بتراب غزة، بينما صعدت روحه إلى السماء، تدحرجت دمعتان على خدي محمود، وسقطتا على وجه الشهيد، راح يتأمله، ثم ابتسم محمود رغم دموعه، وأمسك بيد إياد بقوة، ثم نظر إلى الأفق المشتعل بنيران الحرب، وقال بصوت واثق:

 من طهر هذه الأرض كانت أجسامكم أيها الشهداء.
دارت هذه الذكريات بخاطر محمود بعد أن سمع خبرًا أن أحدهم يريد أن يهجر الشعب خارج أرضه، ثم تبسم وقال:

  قل ما شئت... من عرف الطريق إلى السماء، لا يخاف أهل الأرض، يا أحمق! الحياة في غزة تُبنى من بين الركام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى