الأحد ١٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم عادل الأسطة

العنوان ومكوناته في مجموعة أكرم هنية

دروب جميلة

"دروب جميلة" (2007)، هي آخر مجموعة قصصية أصدرها القاص أكرم هنية. وكان أصدر، منذ العام 1979 خمس مجموعات هي: "السفينة الأخيرة... الميناء الأخير" (1979)، "هزيمة الشاطر حسن" (1980)، "وقائع التغريبة الثانية للهلالي" (1981)، "عندما أضيء ليل القدس" (1986)، و"أسرار الدوري" (2001).

ولفت انتباهي، منذ وقت مبكر، التفات الكاتب إلى أهمية العنوان، ما دفعني، منذ بداية الثمانينيات إلى توجيه سؤال له، في مقابلة أجريتها معه، حول هذا. وكان نص السؤال: "المتتبع لأعمالك القصصية، في مجموعتيك يلمح نقطة مهمة تتمثل في عناوين القصص، ولعلني أرى أن هذا جزء من نجاح العمل الفني، إذ إن عنوان قصصك أحياناً يلخص القصة "هزيمة الشاطر حسن"، وأحياناً يحث القارئ على قراءة القصة "وردتان للزميلة ندى، مؤتمر فعاليات القرية يصدر نداءً هاماً.. الخ". هل ترى ما أراه؟ ثم هل تأثرت بكتّاب معينين لجأوا الى هذا في أعمالهم؟".
وكنت نشرت المقابلة على صفحات مجلة الفجر الأدبي، ثم أعيد نشرها في كتاب "الدخول إلى حبر الروح" (1990). ولم ينف القاص اهتمامه بالعنوان والتفاته إليه، وقد أشار إلى تأثره ببعض الكتّاب المصريين.

وحين سألته هذا السؤال لم تكن الدراسات السيميائية، التي تُعد دراسة العنوان والنهاية جزءاً منها، قد شاعت في العالم العربي، وانتشرت. لقد شاعت هذه الدراسات منذ تسعينيات القرن المنصرم تقريباً، حين ظهرت دراسات نظرية أفاد أصحابها من دراستهم في باريس، وقراءتهم كتب (جيرار جينيت) التي تعد أساسية في هذا الجانب، ومثلها دراسات (ليو هوبك). وقد أشار إليها كل من شعيب خليفي وجميل حمداوي، كما أشار إليها آخرون، ممن يعدون مؤسسين في هذا الباب.

وسيلتفت أحد طلابي، وهو يدرس قصص أكرم هنية في رسالة ماجستير إلى العناوين في قصصه، وسيكتب فصلاً ربما عُدّ جديداً في تناول قصص الكاتب التي درسها كثيرون. والدارس هو عبد الله ملحم، وقد أجيزت رسالته في قسم اللغة العربية في جامعة النجاح.

هنا سأقارب عناوين مجموعته الجديدة "دروب جميلة" مقاربة عامة، وسألتفت بالتفصيل إلى احدى القصص.
تتكون مجموعة "دروب جميلة" من ثماني قصص هي: زمن حسان، وكان ذلك قبيل موتنا، ودروب جميلة، وألوان هادئة، ومونولوج نهاري، وفي البحث عن الزميلة ندى، وترانزيت الأطياف الشاحبة، وستة مقاعد في مقهى صغير.

ويلاحظ أن الكاتب اختار القصة الثالثة "دروب جميلة" لتكون عنواناً للمجموعة كلها. وهي على العموم أطول القصص حجماً، إذ تبلغ ستاً وعشرين صفحة، فيم لا تزيد أية قصة من القصص الأخرى، حجماً، عن ست عشرة صفحة.
ويلاحظ أن أغلب القصص تتكون من جمل اسمية، وليس هناك سوى قصة واحدة تتكون من جملة فعلية. ويلاحظ أيضاً أن أغلب القصص ذات الجمل الاسمية لا تتكون من مبتدأ وخبر حاضرين في العنوان، إذ غالباً ما تكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره هذه قصة "زمن حسان" لأكرم هنية، أو مبتدأ لخبر محذوف تقديره: زمن حسان قصة قصيرة للكاتب أكرم هنية.

وإذا ما نظرنا في مكونات عناوين القصص فسنجد أنها متعددة، هناك المكون الزماني (زمن، قبيل، نهار)، وهناك مكون مكاني (دروب، ترانزيت، مقهى) وهناك مكون فاعل (حسان، جميلة، ندى)، وهناك مكون حدثي (البحث، موتنا، مونولوج) وهناك مكون شيئي (ألوان، أطياف، مقاعد).
وسنلحظ تسلل كلمتين غير عربيتين إلى العناوين (مونولوج، ترانزيت)، وسنلحظ أيضاً بروز الصفة بروزاً لافتاً (ألوان هادئة، مونولوج نهاري، الأطياف الشاحبة، مقهى صغير)، كما سنلاحظ أيضاً خاصية مضاف إليه تتكرر خمس مرات.
وربما تساءل المرء: لماذا اختار الكاتب قصة "دروب جميلة" لتكون عنواناً للقصص كلها؟، لأنها أطولها حجماً، أم لأنه يراها الأفضل؟ أم لأن فيها ما قد يبرز في القصص الأخرى؟.

وحين يقرأ المرء العنوان قبل أن يلج إلى النص نفسه، فقد يقرأه قراءتين: دروب جميلة، فتكون هنا جميلة صفة للدروب، ما يعني أن المرء سيقرأ قصصاً تبعث الفرح والسرور أو دروبُ جميلة، وهنا ستكون الدروب خاصة بامرأة هي جميلة، وسيتساءل المرء: ما هي دروب جميلة؟ هل دروبها دروب جميلة، أم دروب غير جميلة. فإذا كانت الدروب جميلة فقد تطابق الاسم والدروب، وإذا كانت غير جميلة، فقد افترق الاسم عن المسمى.
وحين يقرأ المرء العنوان، بعد قراءة القصة، فإنه سيستعيد القراءة الأولى، وسيعزز القراءة الثانية - أي دروب جميلة، وسيعرف أن دروب جميلة ليست دروباً جميلة بل هي دروب قاسية صعبة تؤدي إلى الموت، بل ولقد أدت بالفعل إلى الموت.

وسيلحظ المرء، وهو يتبع دروب أبطال القصص، أنها ليست على ما يرام، وأنها دروب صعبة وقاسية، غالباً ما تنتهي نهايات مأساوية. ليست دروب حسان دروباً سهلة، فقد ولد على الحاجز، وظل يمر به، ويعاني من جرائه، وقد يشتبك مع الجنود الإسرائيليين عليه بسببه. وليست دروب بطلي قصة "كان ذلك قبيل موتنا" دروباً جميلة، فكلاهما يستشهد، حين تقصف الطائرات الإسرائيلية سجن نابلس المركزي. هكذا تنتهي القصة بالموت. وهكذا يمكن النظر في بقية القصص: يفاجأ الرسام في "ألوان هادئة" بعكس ما توقع، ويكون الواقع غير ما رسمه في لوحته، فالفتاة التي تخيلها هادئة وجميلة تعاني من فقد البصر، وبطل "مونولوج نهاري" مصاب بالسرطان، وقد سار، في حياته، في دروب غير ما رغب في أن يسير عليه، ولا يقابل البطل في قصة "في البحث عن الزميلة ندى" زميلته. لقد افترقا منذ زمن على الرغم من أنهما أنفقا أياماً جميلة معاً يوم كانا طالبين في الجامعة ويفترق أيضاً رمزي عن الفتاة التي التقى بها في "ترانزيت الأطياف الشاحبة" ويعاني كل واحد من الأفراد الستة الذين يجتمعون في المقهى الصغير من إشكالات وهموم، فيما ينتظر صاحب المقهى حتى يغادر هؤلاء الزبائن، فالحياة معهم مملة وكئيبة.

وسيكتب لي الكاتب، حين يهديني نسخة من المجموعة، العبارة التالية: لعل دروبنا تصير جميلة. وفي العبارة ما يقول: إن دروبنا ليست جميلة. وهذا عموماً ما تقوله أغلب القصص، بخاصة التي قاربت الموضوع الوطني، وهي: زمن حسان، وكان ذلك قبيل موتنا، ودروب جميلة.

قصة "ستة مقاعد في مقهى صغير":

اختار الكاتب المكون الشيئي مقاعد، دون أن يختار مكوناً فاعلاً آخر. فلم يكتب ستة رواد في مقهى صغير. فهل يضم المقهى فقط ستة مقاعد، وبذلك يكون حقاً مقهى صغيراً. المعروف أن المقاهي غالباً ما تكون واسعة وذات مقاعد كثيرة العدد، إلا إذا كانت مقاهي تبيع المشروبات لأماكن مجاورة، ولا تستقبل الرواد إلا استقبالاً عابراً.

حين ندلف إلى القصة نرى أن عدد المقاعد أكثر من ستة. هناك ثماني طاولات، وكل طاولة حولها عدد من المقاعد. وإذا افترضنا جدلاً أن الطاولة الواحدة تضم أربعة كراسي، فإن عدد المقاعد يغدو اثنين وثلاثين. هنا نثير السؤال: ماذا قصد الكاتب، إذن، من وراء عنوانه؟.
يبدو عدد رواد المقهى في القصة ستة، يضاف إليهم صاحب المقهى والنادي الذي غادر مبكراً. فهل قصد القاص بالمقعد من يحل عليه؟ بمعنى هل أطلق المحل وأراد الحال، وبالتالي سيكون العنوان: ستة رواد في مقهى صغير.

سيكتشف المرء هذا بعد قراءة القصة، فالمقهى يضم طاولات ثماني، ومقاعد أخرى فارغة. لكن لماذا شيّأ القاص البشر؟ لماذا استخدم لفظة مقاعد بدلاً من أن يستخدم لفظة رواد؟ ثم إنه لم يمنحهم أسماء وملامح خاصة. إنهم الرجل رقم 1، والرجل رقم 2، والرجل رقم 3، والرجل رقم 4، والمرأة رقم 1، والمرأة رقم .2

المقهى هنا صغير، لا يلتفت أي من رواده إلى الآخر ليحادثه. كل مشغول بهمومه ومشاكله. كل واحد ينتظر شيئاً ما، شخصاً ما. وقد ينتظر بعضهم الموت، ثمة ملل وكآبة.

والمقهى هادئ لدرجة الممل، إنه يختلف عن المقاهي الأخرى في بلادنا، ففيها الضجيج والحركة. وغالباً ما يكون أربعة أفراد حول الطاولة، يجتمع حولهم أربعة آخرون يراقبون لاعبي الورق أو طاولة النرد. يتكلمون ويصرخون ويشتمون، ويلفظون كلاماً فيه من البذاءة ما فيه. وهذا ما يخلو منه المقهى الصغير. وفيه يغدو الرواد مقاعد فوق المقاعد: لا حركة ولا صوت ولا رفيق. لا اتصال ولا تواصل. كأن المكان خلو من البشر، وجنة دون ناس لا تداس. هذا ما تعززه القصة، وهذا ما يعززه كل واحد من الرواد، حين يتركه القاص يعبر عما يجول في خاطره، ولننتظر:
يخبرنا الرجل رقم 1، بأن المقهى يضم ثماني طاولات، يشغل ستاً منها زبائن ورواد، وهؤلاء متناثرون، ولأنهم قلة فإن كل واحد منهم يراقب الآخر. لو لم يكن المقهى صغيراً، لما راقب الرواد بعضهم بعضاً، ولما التفت إليهم صاحب المقهى. يعتقد الزبائن أن كل واحد منهم موضع نظر الآخر. ويفصح بعض الرواد رأيه في البقية. يتساءل الرجل رقم 1، "لماذا يطلق صاحب المقهى هذه الابتسامة نحوي؟". ترى لو كان المقهى كبيراً، وكان هناك زبائن كثر، هل كان هذا السؤال سيخطر بباله؟

وسيبدي الرجل رقم 2، رأيه في المقهى: المقهى هادئ هذا المساء. ويستخدم خلافاً للكاتب الذي اختار العنوان للقصة، لفظة رواد، لا لفظة مقاعد، ولكنه أيضاً يتساءل: ترى بماذا يفكر رواد المقهى؟ وهنا نتساءل: هل يرد هذا السؤال على لسان هذه الشخصية أم تراه يرد على لسان الكاتب نفسه الذي كتب القصة التي هي إجابة عن هذا السؤال؟.

الرجل رقم 2، هذا متقاعد عجوز يعيش وحيداً، ويظل، في المقهى، وحيداً، ويفكر في موته أيضاً. إنه، مثل الآخرين الذين ينتظرون أشخاصاً، إنه ينتظر الموت كما ينتظر مكالمة قد تأتيه من ابن أو ابنة أو حفيد.
المرأة رقم 1، لم تكن من رواد المقاهي. إنها ترتاد هذا العالم بعد أن توفي زوجها الذي كان محافظاً، ولا يسمح لها بالخروج. ها هي الآن تخرج إلى أماكن لا تخرج إليها النساء في بلدان محافظة. ها هي تخرج وترتاد المقهى، وهي فوق هذا تفكر في شرب الخمر حتى تستثير زوجها الميت، لكثرة ما كان يضيقُ عليها. المقهى هنا ضرب من الحرية، مع أن هذا المقهى الصغير ليس ممتعاً وليس مسلياً بالقدر الكافي. وستفكر في مقاه أخرى.
الرجل رقم 3 شاعر يتساءل عما سيكتب. إنه يفكر في موضوع يصلح للكتابة. ويتساءل: لماذا لا أكتب عن رواد المقهى؟ ولكنه سيلاحظ أن كل واحد من رواده، باستثناء واحد، منكفئ على ذاته، فلا اتصال ولا تواصل مع المحيط. وهذه عبارة ذات دلالة. وسيعزز الرجل رقم 4 ما قاله الرجل رقم 3، لا اتصال ولا تواصل، وهذا يؤدي الى الصمت والهدوء وغياب الحركة والوشوشة والأحاديث والضحك والصخب والعنف. ومع ذلك يتساءل الشاعر:
"ترى كم من قصة حب ولدت في هذا المقهى، وكم من علاقة انتهت؟ وكم من النساء والرجال جلسوا طويلاً فوق هذه المقاعد ينتظرون رفيقاً أو شيئاً أو لا ينتظرون أي شيء على الاطلاق". كأنهم مقاعد فوق المقاعد.

ومع أن المرأة رقم 2 تأتي إلى المقهى، لأنه مكان هادئ، خلافاً لشقتها حيث تقيم مع زميلات ما يؤدي إلى الضجيج، إلا أن المقهى، في نظرها، مكان للانتظار، وهي تكره الانتظار. كانت هذه المرأة مع علاقة برجل بدأ ينسحب من عالمها. وكانت ترتاد معه المقاهي. الآن هي وحيدة، في المقهى، مثل بقية الرواد.

يرى الرجل رقم 4 المقهى غريباً، فكل شخص فيه يجلس وحيداً. إنه لم يدخل، في حياته، مقهى كهذا. إنه يثير الكآبة، ومن هنا يقول الرجل رقم 4: لو كان للصمت رائحة، لكان، في هذا المقهى، الوطن. ولو كان للصمت لون، لكان لون الصمت في هذا المقهى، رمادياً. العطن رائحة كريهة، واللون الرمادي مكروه. والرجل هذا ينتظر. إنه ينتظر صديقه حتى يُقله إلى المطار، ليغادر إلى بلاد أخرى، فهو يريد أن يغادر هذه البلاد.
ثمة ستة رواد فوق ستة مقاعد، ولكن ماذا عن صاحب المقهى. هنا نصغي إليه، هو الواقف لأنه يقدم لهم الخدمات.

ينظر صاحب المقهى إلى الزبائن ويفكر في أمرهم، وثمة ما يتيح له فرصة التفكير، فالعمل بطيء لقلة الرواد. ويغدو صاحب المقهى مثل رواده: ينتظر: إنه ينتظر أن يغادروا حتى يغادر، وعليه أن ينتظر أربع ساعات طويلات. وسيقول: "مع زبائن مثل هؤلاء أضمن أمسية كئيبة".
ثمة عنوان رئيس للقصة، ولكن أيضاً ثمة عناوين فرعية هي التي ذكرناها: الرجل رقم 1، الرجل رقم 2، الرجل رقم 3، الرجل رقم 4، المرأة 1، المرأة 2، صاحب المقهى، مع تغيير في الترتيب طبعاً. ولو حذف القاص هذه العناوين الفرعية لربما اختلط مصدر الكلام علينا. وهنا سيكون عليه أن يفعل ما فعله غسان كنفاني في "ما تبقى لكم" - أي أن يميز شكل الحروف، حتى نعرف الاختلاف في مصدر الصوت. ولو فعل ذلك لصعّب الأمر على القارئ، وهذا ما التفت إليه غسان كنفاني يوم كتب روايته، ما جعله لا يواصل الكتابة بهذا الأسلوب. وإذا كان لهذه العناوين من فائدة، فهي، بلا شك، انها تجعل القراء يميزون بين متكلم ومتكلم، بين مقعد ومقعد.

وربما الآن أدركنا لماذا جعل المؤلف عنوان قصته "ستة مقاعد في مقهى صغير" لا ستة رواد في مقهى، دون أن يسقط الصفة أيضاً. أحياناً يتشيأ الناس، بخاصة حين لا يتواصلون، ومرة كتب عبد اللطيف عقل: ما أقسى أن تتشيأ أفئدة الناس!.

دروب جميلة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى