الخميس ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠٢٤

الغَريبُ الذِي يَجلِسُ بالقُربِ

عبد الله عبد الصبور محمود محمد

صَوتُ كَأسٍ تَكسّرَتْ بالقُربِ مِنْ رِجْلي
فوَّقني، قَبلَ أنْ أغْمِضَ عَينيّ، وأستَرخِيَ للوَرَاء
آخِرُ كأسٍ لدى الغَرِيبِ الذي يجْلِسُ بالقُرب
قَهْقهَ فِي الحانةِ وهو يُؤرجِحُ رأسَه:
«سَأكسِرُ الحُبَّ مِثلمَا كسَرَنِي».
مرَّ قِطَارٌ بذَاكِرَتِي، وألقَى مِن شبّاكه فُقَّاعَةً
فَرْقَعَتْ كقُنبُلةٍ (بلاستِيكِيَّة) دَاخِلَ رأسِي
رأيتُهَا وهيَ تُكسّرُ وَعدَهَا!
تُكسّرُ خَاتمَ خِطبَتِنَا بِحَجَر
تكسّر أحلامِي، وطُمُوحِي، وحُبّي!
تَناسَيتُ... حَاوَلتُ أنْ أغرقَ ثَانِية فِي نَبِيذِي
حدّقتُ فِي كأسِي
رأيتُ يدًا داخِلهَا تَستَغِيثُ!
تَخرُجُ ثمَّ تَغُوصُ... تخرُجُ ثمَّ تَغوصُ... تَـ غـ و صُ...
اتَّسَعَتْ كأسِي فَجأةً، وصَارَتْ باتِّسَاعِ الحانة!
خلعتُ ملابِسِي، وسَريعًا قَفَزتُ كي أنقِذَ اليَد
قَفَزتُ... لكن... وَقَعْتُ عَلَى الأرضِ... وَحدِي
لمْ يَأتِ أحَدٌ كي يُسَاعِدَنِي
يَدِي تَرتَجِفُ وقَلبِي...
وزُجَاجَةٌ فَارِغَةٌ للغَريبِ الذِي يَجلِسُ بالقُربِ قَادِمَة نَحوَ رأسِي!
لكن قِطَارِي... صَدِيقِي القَدِيم اللّعين... مرَّ ثَانِيةً كوَمضَةِ بَرقٍ
ألقَى فُقاعَةً أخْرَى عَلى شَكْلِ سَهمٍ أو رَصَاصَة!
رَصَاصَةُ قُبلتِها الأولَى
رَقصَتُهَا الأولَى مَعِي
مِشنَقَةُ يَدَيهَا النَّاعِمَتينِ
حِضنهَا الدَّافِئُ كأفعَى الأمَازون
رَائِحَةُ جَسَدِهَا التِي أسْكَرَتنِي؛ فَطِرتُ كصُوفِيّ هَائِمٍ
وقَبلَ ارتِطَامِي بالأَرضِ، ارتَطَمَتْ بِي زجَاجَةُ الغَريبِ الذِي يَجلِسُ بالقُرب.
غِبتُ عن الوَعي... لمْ أغِبْ... غِبتُ...؟
فَتَحتُ نِصفَ عَينِي وَجدتُنِي مُستَرخِيًا للوَرَاءِ
كَأسٌ عَلَى الأرضِ، وأخرَى مُمتَلِئَةٌ للنِّصفِ أمَامِي!
أغلقْتُ عَيني كَي لا أحدّق فِي الكأسِ ثَانيةً لكِن سَمِعتُ:
«لله... للحُبّ... للفَنَاء»... «لله... للحُبّ... للفَنَاء»
هَلْ سَمَحُوا للشَّحاذِينَ أن يَسكَرُوا؟!
عَلا الصَّوتُ شَيئًا فَشَيئًا
«لله... للحُبّ... للفَنَاء»
مَقَامُ الحجَازِ يُسَيطِرُ عَلَى الصَّوت فِي: «للهِ... للحُبّ»
وتَبكِي الكئُوسُ بالصّبا فِي «للفَنَاءِ»
فُضُولِي فَرَكَ عَينَيَّ
مَا هَذَا؟
هَلْ تَحَوَّلَ الغَريبُ الذِي يَجلِسُ بالقُربِ إلى شَحَّاذ؟
ما هَذَا؟
لمَاذا يلوّحُ لِي السَّكارَى بأيدِيهم؟
مَا هَذَا؟
لماذا تحوَّلت وجُوهُهُم فجأةً لوَجهِ الغَريِبِ الذِي...؟
أغمَضتُ عَينَيَّ مِنَ الخَوفِ
عَلا مقَامُ الحجَازِ فَجأةً... اقتَرَبَ مِنْ أذنِي:
«للهِ... للحُبّ»
لَمْ يَقُلْ: «للفَنَاءِ»
إلّا عِندَمَا احتَضَنَنِي
وذُبْنَا.

عبد الله عبد الصبور محمود محمد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى