الفنان الشيطان
شهد النادي الأدبي في الدمام نقاشاً حيوياً لدى مناقشة المحاضرة التي ألقاها الناقد والشاعر السوري يوسف شغري في النادي الأدبي في الدمام بعنوان «الفنان الشيطان: دراسة في إبداع وحياة كارافاجيو وارثور رامبو واوسكار وايلد» حيث كانت المحاضرة أثارت أسئلة للنقاش مع الحاضرين حول تطابق او عدم تطابق القيم الفنية والجمالية والإنسانية التي قدمها هؤلاء العباقرة مع حياتهم الشخصية، وإن كان سلوك الفنان وأخلاقه يتطابق مع ما قدم من قيم إنسانية أم لا.
افتتح الأمسية الأديب القاصّ عبد الله النصر فأكد أن هذه ورقة للنقاش وفي البداية قدم موجزا من السيرة الذاتية للمحاضر فذكر انه شاعر ناقد تشكيلي وكاتب صحفي ومترجم معروف يحمل بكالوريوس في اللغة الانجليزية وآدابها من جامعة دمشق وقد حضر أثناء دراسته و تابع محاضرات في كلية الفنون الجميلة بدمشق وكتب للصحافة السورية وعمل فيها باللغتين العربية والانجليزية وألقى العديد من المحاضرات والأمسيات الشعرية في سوريا والسعودية والبحرين وهو عضو اتحاد الصحفيين في سوريا حصل على العديد من شهادات التقدير في سوريا والسعودية والبحرين.
له ثلاث مجموعات شعرية هي (يشتعل الأفق بالفجر تحت أصابعكِ) و(تميمة الرماد) و(ياسمين الصباح) وترجم العديد من الكتب من وإلى اللغة الانجليزية منها (قاموس الفن التشكيلي الغربي) ومختارات من الشعر العالمي بعنوان (قلب في راحة يد) وديوان الشاعرة العراقية وفاء عبد الرزاق (من مذكرات طفل الحرب) وسيناريو فيلم عن أطفال العراق وغيرها. ثم ترك الأديب النصر الحديث للمحاضر الذي ذكر أن فكرة المحاضرة نشأت في ذهنه وهو يترجم سيرة الفنان الايطالي كارافاجيو من كتاب (قاموس الفن والفنانين) حيث يعمل على كتابه «قاموس الفن التشكيلي الغربي». وقد تعجب أن يكون فنانٌ قدم للبشرية أرفع القيم الجمالية في أعماله وتركَ آثراً خالدة بهذه السوية الأخلاقية والسلوكية المنحطة!! لقد اعتبر إسهام كارافاجيو نقطة تحول في تاريخ الفن و هو بلا شك عبقرية لافته للنظر في تاريخ الفن. وقد نشأ سؤال: هل من الضروري أن تتطابق القيم الفنية الأدبية والجمالية الرفيعة التي ينتجها الفنان مع الأخلاق الحميدة والسلوك الإنساني الرفيع ؟ لقد لاحظ أن هذا الخلل بين الناتج الفني العبقري والإنساني الرفيع يتطابق في الحالة العامة مع الأخلاقيات والسلوكيات المتسمة بالشرف والتسامح والرحمة في معظم الحالات. وفي حالات شاذة يكون العكس!!نرى الفنان في صورة الشيطان وقد غلبت عليه نزعاته الشريرة واللا أخلاقية!!ثم قام بعرض حياة ثلاثة فنانين من العباقرة في تاريخ الفن من الذين أثروا تأثيراً بالغاً في الحياة الثقافية للبشرية وأسهموا إسهاماً بينّاً كلٌ في مجالِهِ الخاصِّ. وقد اختار إلى جانبِ الفنان العظيم كارافاجيو، الذي رافق سيرته عرض صور لأهم لوحاته وتم الشرح عليها، الأديب الأنجلو الايرلندي الشهير أوسكار وايلد صاحب نظرية الفن للفن والشاعر الفرنسي العظيم أرثور رامبو صاحب نظرية الشاعر رائياً والذي تُعتَبرُ رائعتيهِ (فصل في الجحيم) (المركب السكران) نقطة تحول في الشعر الفرنسي والأوروبي عامةً وفي الشعرِ العالمي قاطبةً. ثم تحدث الناقد شغري عن كارافاجيو (1571 – 1610) هو الفنانُ الايطاليُ الأعمق أصالةً والأكثرُ تأثيراً في القرنِ السابعِ عشر. ورغمَ أنَّ حياتَهُ الفنيةَ كانتْ قصيرةً (كانَ عمرُهُ فقط 38 سنةً لمّا ماتَ) وكانَ إنتاجُهُ قليلاً نسبياً (لا يوجدُ أكثرُ منْ ستينَ لوحةً لهُ باقيةً إلى اليومِ )، كانَ تأثيرُهُ ضخماً (بالغاً )على معاصريهِ بإبداعِهِ أسلوباً طبيعياً و جريئاً شكَّلَ انقطاعاً باتاً وحاسماً مع (الطرائقية / النهجية) المبتذلةِ والسائدةِ وألهمَ الكثيرين ممن قلدوه. و في روما يُقالُ انَّهُ واجهَ حياةً صعبةً. كانَ يأخذُ كلَّ ما يمكنُ أنْ يحصلَ عليهِ ليتمكّنَ منْ مواصلةِ العيشِ!! وتقدمتْ بِهِ الحالُ ليعملَ كمساعدٍ لفنانينَ مرموقينَ أهمِهِم جيوزيبي سيزاري، ثم ليرسمَ عملاً مستقلاً لهُ, وفي أواسطِ السنواتِ العشرِ الأخيرةِ منَ القرنِ السادسِ عشرِ باعَ تاجرٌ بعضَ لوحاتِهِ للكاردينال فرانسيسكو ديل مونته، الذي غدا أولَ و أهمَّ منْ رعاهُ ( وكله دل مونته بأجر بإدارة شؤونِ بيتِهِ لمدةِ ثلاثِ سنواتٍ ). كانَ ديل مونته رجلاً محنكاً ذا جوانبَ متعددةٍ و كانَ يتمتعُ بمسراتٍ متنوعةٍ بما في ذلك الموسيقى و بحفلاتٍ يُقالُ أنَّهُ كانَ يلبسُ فيها الفتيانُ لباسَ البناتِ!! من أوائلِ لوحاتِ كارافاجيو الباقيةِ بشكلٍ رئيسيٍ لوحاتٍ تصوِّرُ شباناً مخنثين مليئي الأجسامِ، وهمْ كما يُعتَقدُ يعكسونَ ميولَهُ غير الطبيعية و كذلكَ ميولِ راعيهِ. كانتْ تلكَ اللوحاتِ صغيرةَ الحجمِ نسبياً وحميمة ً جداً من ناحيةِ الشعورِ بحسٍ مروعٍ منَ الحضورِ المجسَّدِ. فالأشخاصُ مضاءونَ بقوةٍ وذوو تفاصيلِ حادةِ يقدِّمُهُم الفنانُ إلى مقدمةِ فراغِ اللوحةِ يحدقونَ بشكلٍ نموذجيٍ في المشاهِدِ بنظرةٍ فيها دعوةٌ صارخةٌ مثيرةٌ جنسياً !! مثل لوحة (باخوس) حوالي 1597(متحف اوفيتزي – فلورنسا). حافظَ كارافاجيو طوالَ حياتِهِ الفنيةِ على حسِّ الآنيةِ والقربِ، فقدْ كانتْ شخوصُهُ تنتصبُ عادةً خارجاً مقابلَ مستوى خلفيةِ اللوحةِ معَ حسٍّ قليلٍ منَ الإضاءةِ، لكنَّهُ في نهايةِ التسعيناتِ هجرَ الإضاءةَ الواضحةَ لصالحِ تأثيرِ الظلِ والنورِ الضبابيِ المعتمِ وهذا واحدٌ منْ أكثرِ الصفاتِ المتميزةِ لإعمالهِ الناضجةِ.
لقدْ نالَ على الأرجحِ أولَ تكليفٍ عام مأجورٍ بإبداعِ عملٍ بواسطةِ ديل مونته الذي كانَ لوحتينِ ضخمتينِ :(نداءُ القديسِ ماتيو) و(استشهادُ القديسِ ماثيو) رسمهُما عامي 1599 - 1600. ثم تتالى تكليفه وكانت لوحاته وعلى أصيلتينِ بشكلٍ هائلٍ في الاستعمالِ الدراماتيكيِ للضوءِ والظلِّ والتلخيصِ وفي قوةِ التصميمِ والواقعيةِ المحسوسةِ - حيثُ تُشاهَدُ المواضيع المألوفةُ بطريقةٍ (وأسلوبٍ جديدٍ كلياً ومشغولٍ إلى درجةِ الكمالِ كبشرٍ مجسمينَ وحقيقيينَ ومنْ لحمٍ ودمٍ بخلافِ الأشخاصِ الذينَ كانوا يرسمونَهُم بنسبٍ مثاليةٍ تقليديةٍ. وقدْ كرَّستْ هذهِ الأعمالِ كارافاجيو كالفنانِ الأكثرِ حضوراً في روما مما غيَّرَ اتجاهَ حياتَهُ الفنيةَ : فمنْ ذلكَ الحينِ فصاعداً كرَّسَ نفسَهُ بشكلٍ رئيسيٍ لرسمِ اللوحاتِ الدينيةِ الجادةِ بعمقٍ للأماكنِ العامةِ أكثرَ من رسمِ اللوحاتِ الحميمةِ للأذواقِ النادرةِ للخبراءِ. و منْ بدايةِ حياتِهِ الفنيةِ هذهِ ، كانتْ أعمالُهُ موضعَ خلافٍ مثيرةٍ للجدلِ، لأنَّ الكثيرَ منْ معاصريهِ وجدوا واقعيتَهُ غيرَ ملائمةٍ أو مقيتةٍ في السياقِ الدينيِ!! فقد رُفضتْ الكثيرُ منْ أعمالِهِ على هذهِ الأرضيةِ منَ عدم الذوقِ أو اللياقةِ آو عدمِ الملائمةِ الدينيةِ و قدْ اسُتبدلتْ بأعمالٍ تراعي القواعدَ المقبولةَ دينياً رسمها كارفاجيو بنفسِهِ أو رسمَها فنانونَ آخرونَ !! و منْ ضمنِ الأعمالِ المرفوضةِ كانتْ لوحةُ ( موتِ العذراءِ ) 1605- 1606، متحفاللوفر بباريس و التي تصوِّرُ العذراءَ كجثةٍ ميتةٍ حقاً !! بينما كانتْ اللوحاتُ التقليديةُ تصوِّرُهَا مجردَ امرأةٍ نائمةٍ قبلَ أنْ تستقبلُهَا السماءُ!! لقدْ رفضتْهَا كنيسةُ القديسةِ ماريا ديل سكالا و اسُتبدِلَتْ بلوحةٍ لسيراسيني. كتبَ بوليوني : أنَّ لوحةَ كارافاجيو أُزيلتْ لأنَّها رسمتْ العذراءَ بدونِ احترامٍ لمكانتِهَا فقدْ جعلَ العذراءَ منتفخةُ و جزءاً منْ ساقيها عارياً!! و تقولُ روايةٌ أخرى مبكرةٌ أنَّ الفنانَ أخذَ شخصَ العذراءِ أساساً عنْ جسدِ عاهرةٍ غارقةٍ انتُشِلَتْ من نهرِ التيبر!! و معَ ذلكَ فقدْ بيعتْ اللوحةُ موضعُ الجدلِ سريعاً لـ فينيسنزو جونتساجا ، دوق مونتوا ( عملاً بنصيحة روبنز ).. و قدْ بيعتْ كذلكَ لوحاتِ كارافاجيو المرفوضةِ الأخرى بسرعةٍ لجامعي اللوحاتِ الفطنينَ.
بينما كانَ كارافاجيو يصبحُ الفنانَ الأكثرَ شهرةً في روما بفضلِ أعمالِهِ الفنيةِ المذكورةِ، كانَ أيضاً يؤكدُ سوءَ السمعةِ بسببِ طريقتِهِ العنيفةِ و الجلفةِ في الحياةِ!! فبينَ عامي 1600 إلى 1605 بنى سجلاً إجرامياً طويلاً بسببِ قضايا متنوعةٍ من الاعتداءِ على الآخرين و الشتمِ و السبابِ. ثمَّ أنَّهُ في عامِ 1606 قتلَ رجلاً بسببِ رهانٍ على مباراةِ تنسٍ!! فهربَ من روما خوفاً من إدانتِهِ بجريمةِ القتلِ و قضى السنواتِ الأربعةَ الباقيةَ من عمرِهِ كهاربٍ منَ العدالةِ. وقدْ أخذتْهُ رحلاتُهُ إلى نابولي ( 1606 – 1607 ) و مالطا ( 1607- 1608 ) و صقلية
( 1608 – 1609) ثمَّ عادَ إلى نابولي مرةً ثانيةً ( 1609 – 1610 ). و حيثما حلَّ كانَ ينالُ تكليفاتٍ هامةً برسمِ أعمالٍ فنيةٍ و يتركُ تأثيراً كبيراً على الفنانين المحليين. و خلالَ هذهِ الفترةِ صارتْ أعمالُهُ أكثرَ حدةً و صرامةً و قدْ استمرتْ حياتُهُ مشحونةً بالخطرِ. ففي عامِ 1608، سُجنَ في مالطا لكنَّهُ هربَ منَ السجنِ . و في عامِ 1609 جُرحَ في وجهِهِ بشكلٍ خطيرٍ في نابولي. و ماتَ بالحمى هوَ في طريقِهِ إلى روما ، حيثُ كانَ يظنُّ أنَّ عفواً عنهُ على وشكِ الصدورِ. لمْ يكنْ لديهِ تلاميذٌ و لكنْ كانَ لديهِ جمعٌ غفيرٌ منَ الأتباعِ ( الكارافاجيين ).لقدْ كانتْ أعمالُهُ و معَهُ أعمالُ كاراشّي تدشنانِ حقبةً جديدةً في فنِ التصويرِ الزيتيِ الايطالي. وقدْ استمرَّ ت شهرة كارافاجيو على مدى القرنِ السابعِ عشرِ، لكنَّهُ كانَ يُعتبرُ من الكثيرين " عبقريةً شريرةً و البعض كانَ يعتبرُ أنَّ تأثيرَهُ على الفنانين الآخرين خبيثاً ضاراً . في عامِ 1672،كتبَ بيلوري" ليسَ هناكَ شكٌ أنَّ كارافاجيو قدْ قدَّمَ فنَّ التصويرِ الزيتي لأنَّهُ دخلَ الفنَّ عندما لمْ تكنْ الواقعيةُ هي السائدةُ و تناقصَ الاهتمامُ بكارافاجيو في القرنِ الثامنِ عشرِ .لكنْ أُعيدَ إحياءُ اسمِهِ في منتصفِ القرنِ التاسعِ عشرِ. آنئذٍ ظهرَ أهميةَ رفضِهِ للجمالِ المثالِي لصالحِ ما هوَ حقيقيٌ وقد بدأتْ الأبحاثُ الجادةُ عنهُ في مطلعِ القرنِ العشرين. و قد اتبعه فنانون كثر اطلقوا على انفسهم الكارافاجيين. إنَّ صدى أسلوبِ كارافاجيو يمكنُ أنٍ يلمسَ في أعمالِ بعضِ عمالقةِ فنِ التصويرِ الزيتيِ في القرنِ السابعِ عشر مثلِ رامبرانت و روبنز و فيلاسكيز.
ثم انتقل الناقد شغري ليتحدث عن أرثور رامبو الذي ولد عامَ 1854 في بلدةِ شارلفيل الفرنسيةِ على الحدودِ البلجيكيةِ، وهي مدينةٌ كالحةٌ، كارهةٌ للجديدِ و هذا ما كانَ ليرضيَ رامبو و أشواقَهُ الأدبيةَ و الروحيةَ و الجسديةَ يقولُ: " إنَّها المدينةُ التي تفوقُ ببلاهتِهَا جميعَ الأقاليمِ الأخرى!!" و كانتْ أمُّهُ امرأةً متسلطةً متشددةً متعصبةَ محافظةً على التقاليدِ و المواصفاتِ الاجتماعيةِ و الطقوسِ الدينيةِ التي كانَ يضيقُ بها رامبو . و كانَ أبوهُ ضابطاً لا يكادُ يستقرُّ في البلدةِ حتى يغادرُهَا ثم غابَ غيبتَهُ النهائيةَ عندما كانَ رامبو في العاشرةِ. و كانَ تأثيرُ أستاذَهُ " إيزامبار" عظيماً عليهِ . فهو الذي اكتشفَ نبوغَهُ المبكرَ حيثُ كانَ رامبو الصغيرُ ينظمُ أشعارَهُ باللغةِ اللاتينيةِ. و هوَ الذي يسَّرّ لهُ الاطلاعَ على أعلامِ الأدبِ المعاصرِ مثلَ هوجو و دي بانفيل و غيرهما و حثَّهُ على قراءةِ كتَّابٍ و مفكرين مثلَ برودون و سان سيمون و ميشيليه و ماركس و غيرَهُم. و بنتيجةِ ذلكَ أبدعَ الفتى رامبو و هوَ في سنِّ الخامسةَ عشرةَ قصيدتَهُ ( هدايا اليتامى في عيدِ رأسِ السنةِ) . و في عامِ 1870 و هوَ في السادسةَ عشرةَ أرسلَ قصائدَهُ إلى زعيمِ البرناسيين آنذاكَ" تيودورو دي بانفيل" لينشرَهَا في مجلتِهِ ( البرناس المعاصرُ ). و في نفسِ العامِ ، هربَ الفتى إلى باريس في شهرِ آب لكنَّهُ سُجِنَ في باريس . فتدخلَ أستاذُهُ و استطاعَ تخليصَهُ منَ السجنِ و إعادتِهِ إلى شارلفيل. لكنَّهُ ما لبثَ أنْ فرَّ ثانيةً في أيلول من نفسِ العامِ إلى بروكسل!! لكنَّهُ يفشلُ في مسعاهُ و يعودُ إلى شارلفيل . و قدْ كتبَ عن تشردِهِ في قصيدتيهِ ( في الحانةِ الخضراءِ ) و
( بوهيميتي أو تشردي ).و في العامِ التالي 1871 شهدَ رامبو حدثاً طبعَ حياتَهُ القادمةَ و شعرَهُ و هوَ قيامُ كومونةِ باريس و قدْ كانَ رامبو المتمردُ منَ المدافعينَ عنِ الكومونةِ و منَ المنافحينَ عن قيمِهَا الثوريةِ. لكنَّ الكومونة ما لبثتْ أنْ سقطتْ على يدِ "تيير " و انهارتْ معَ هذا الحدثِ أحلامَ رامبو في الحبِّ الشاملِ الذي بشَّرّ بهِ في قصائدهِ الأولى مثل ( شمسٌ و جسدٌ). و قدْ كانَ رامبو قدْ كتبَ رسالتين يدعو فيهِما أنْ يكونَ الشاعرُ رائياً و يطمحُ إلى تأسيسِ نظريةٍ جديدة للشعرِ. و هناكَ حدثٌ ثانٍ أثرَّ في حياةِ رامبو و شعرِهِ و هوَ التقائِهِ بالشاعرِ الرمزيِ "فيرلين" في باريس، و نشوءِ علاقةٍ مريبةٍ ( شاذةٍ) بينهما!!و استمرارِها في باريس و لندن و بروكسيل حتى العاشرِ من تموز عام 1873 حين أطلقَ "فيرلين" النارَ على رامبو فجرحَهُ في يدِهِ !! و في هذا العامِ أنهى رامبو كتابَهُ ( فصلٌ في الجحيمِ) الذي يتبرأُ فيهِ من ماضيهِ المشينِ. و يذكرُ فيهِ أنَّهُ أرادَ أنْ يجعلَ من فيرلين " إبناً للشمس"!! و قد اختلفَ المفسرونَ في تأويلِ هذهِ العبارةِ فذهبَ بعضُهُم أنَّ رامبو هوَ الذي دفعَ فيرلين للتحللِ منَ القواعدِ و تحدِّي جميعِ القواعدِ الأخلاقيةِ و جميعِ صنوفِ العبودياتِ!! و هوَ الذي أطلقَ فيهِ القوى الشيطانيةَ منْ عقالِهَا!! و ( فصلٌ في الجحيمِ ) و هوَ نوعٌ من السيرةِ الذاتيةِ أو المراجعةِ المرَّةِ و الساخرةِ لحياتهِ الأدبيةِ . و هوَ الجحيمُ الذي مرَّ فيهِ أثناءَ علاقتِهِ الشاذةِ بفرلين حيثُ كانَ يدعو الشاعرَ أنْ يكونَ رائياً عنْ طريقِ تشويشِ الحواسِّ لبلوغِ الرؤى عنْ طريقِ اللهوِ و المجونِ و تناولِ الحشيشِ و الخمرِ و السهرِ.. الخ!!و كلُ ذلكَ للوصولِ لبلوغِ الرؤى الكاشفةِ للمجهولِ!! و لبلوغِ الجمالِ بتلكَ الهلوسةِ المقصودةِ!! و قدْ وصفَ علاقتَهُ بفرلين بقصيدتِهِ ( عذراءٌ مجنونةٌ ) و أعلنَ إخفاقَ مشروعِ الشاعرِ رائياً في نصِّهِ ( كيمياءِ الكلمةِ ) و نصِِّه ( وداع ) و هوَ آخرُ نصٍ في ( فصلٍ من الجحيم ). و فيهِ يصفُ رامبو بصفاءِ ذهنٍ حنينَهُ و عودتَهُ إلى الواقعِ!! وتلا المحاضر جزءاً من القصيدة. ثم اردف أن رامبو كان يؤكدُ أنَّهُ غذَّى نفسهُ بالأوهامِ و الأكاذيبِ، و أنَّهُ لا توجدُ يدُ صديقٍ تمتدُّ لَهُ!! إنَّهُ في أعلى درجاتِ وحدتهِ أمامَ صلابةِ الواقعِ، محاصَرٌ بماضيهِ و هوَ يتململُ ليفكَّ الحصارَ!! لقد حمَّلَ رامبو الشعرَ و حمَّلَ نفسَهُ ما لا يحتملان!! لقد خجلَ من اعتبارِ نفسهِ شاعراً و أعلنَ أنَّ مهمةَ الشعرِ هي الكشفُ و التدميرُ و التغييرُ . و أنَّ الشاعرَ مُبشِّرٌ و نذيرٌ ، و أنَّهُ يجبُ أنْ يستبقَ بشعرِهِ العقلَ!! لكنَّهُ يستنتجُ من تجربتِهِ أنَّ العالمَ مستعصٍ على التغييرِ بسرابِ الكلماتِ!! بلْ إنَّ العالمَ قد ازدادَ سوءاً بعدَ الكومونةِ الداميةِ التي عصفتْ بأحلامِ الحبِّ الشاملِ . و قد عبَّرَ الشاعرُ عن خجلِهِ الذي وصلَ حدَّ التدميرِ الذاتيِ في قصيدتِهِ ( خجلٌ ). و في عامِ 1875 انصرفَ رامبو عن الشعرِ و اتجهَ إلى ألمانيا ثم سويسرا ثم يسافرُ مشياً على الأقدامِ إلى إيطاليا و يصلُ ميلانو و في نيتِهِ أنْ يذهبَ إلى أفريقيا لكنَّ المرضّ يقعدُهُ فيعودُ إلى مارسيليا. و في عامِ 1876، ينخرطُ في الجيشِ الهولنديِ لمدةِ ستِ سنواتٍ و يُرسَلُ إلى جاكرتا . لكنَّهُ يهربُ بعدَ بضعةِ أسابيعٍ فيعودُ إلى شارلفيل. ثمَّ يطوفُ أوروبا لكنَّ المرضَ يحولُ بينَهُ و بينَ مغادرةِ أوروبا. و في عامِ 1878، يصلُ إلى قبرص مارَّاً بالإسكندريةِ فيُصابُ بالتيفوئيدِ و يعودُ بعدَ عامٍ إلى فرنسا!!و في1880 ، يعودُ إلى قبرص. و يعملُ في مشروعِ بناءِ قصر للحاكمِ!! لكنَّهُ ما يلبثُ أنْ يسافرَ إلى مصرَ ثمَّ يعودُ إلى عدنٍ و يعملُ في شركةٍ لتجارةِ الجلودِ و البنِّ. و يقيمُ في هراري في الحبشةِ. و يعاني كثيراً من المناخِ و الفراغِ الفكريِّ فيغادرُها إلى عدنٍ فالصومال عام 1883 و يكتبُ تقريراً عن أوغادين ثمَّ يعودُ إلى عدنٍ . و في عامِ 1885، يبدأُ باستيرادِ الأسلحةِ من بلجيكا لملكِ الحبشةِ . لكنَّ رامبو يصابُ بالروماتيزم فيعودُ إلى عدنٍ ثانيةً في عامِ 1886 و يصابُ بورمٍ في ركبتِهِ. و يعجزُ عنِ الوقوفِ و يُحمَلُ في نقَّالةٍ و يُعادُ إلى مرسيليا . وفي المستشفى تُقطعُ ساقَهُ. و في العاشرِ من تشرينِ الثاني عامِ 1891 يموتُ رامبو عن عمرِ 37 عاما. و يُدفنُ في البلدةِ التي وُلِدَ فيها شارلفيل.
ثم انتقل الأديب شغري للحديث عن أوسكار وايلد فذكر أنه ولد في عام 1854 ,و توفي عام 1900وهو مؤلفٌ مسرحيٌ وروائيٌ وشاعر ٌأنجلو-إيرلندي.
في طفولته كانَ يؤثرُ الوحدةَ وقراءةَ الأدبِ الإغريقيِ والشعرَ وكانَ لقراءاتِهِ هذهِ الفضلُ في أنْ يظفرَ فيما بعدُ -بمنحةٍ لجامعةِ أوكسفورد، وظفرَ هناكَ بشعبيةٍ لا بأسَ بها بسببِ لماحيتهِ وروحِهِ المرحةِ، وبدأتْ أشعارُهُ تُولَدُ على صفحاتِ المجلاتِ الإيرلندية، وعندما تخرَّجَ في أوكسفورد كانَ قدْ نالَ شهرةً بآرائِهِ الثوريةِ التي تصدمُ أذواقَ السوادِ الأعظمِ منَ الناسِ، وكانتْ ثيابُهُ الزاهيةُ منفرةَ الألوانِ تعكسُ هذا التحدي.سافرَ إلى الولاياتِ المتحدةِ ليلقيَ بضعَ محاضراتٍ، ثمَّ تزوجَ (كونستانسي لويد) وأنجبَ منها طفلينِ، واضطرتْهُ المسئولياتُ إلى أنْ يعملَ مراجعاً في مجلة (بول مول) ثمَّ صارَ محرراً لمجلةِ (عالمِ المرأةِ)، كانَ هذا الوقتُ عام 1887 هو الذي كتبَ فيهِ قصةَ (شبحُ كانترفيل(، وبعدَ هذا بعامٍ أصدرَ مجموعةً من القصصِ الخياليةِ تحتَ عنوانِ (الأميرُ السعيدُ وقصصٌ أخرى)، تلا ذلكَ إصدارَ روايتَهُ الوحيدةَ (صورةُ دوريان جراي) وقدْ قوبلتْ هذهِ القصةُ بهجومٍ عنيفٍ في البدايةِ، واستخدمَهَا مهاجموهُ كدليلِ إثباتٍ ضدَهُ في محاكمةِ كوينز برى الشهيرةِ ولكنْ منَ الضروريِ القولَ إنَّ هذهِ الروايةَ هي نموذجٌ رائدٌ ومتجددٌ لما سميَّ لاحقاً
( بالواقعيةِ السحريةِ )، قبلَ بورخيس وماركيز وسواهما، فهنالكَ علاقةٌ سحريةٌ تربطُ دوريان جراي بصورتِهِ ولجميعِ النواحي، سواءً تلكَ التي تقررُ مصيرَ دوريان جراي والتأثيرَ في سلوكِهِ، أمْ على صعيدِ التأثيرِ في إيقاعِ مجتمعِ الروايةِ وأحداثَهَا ومآلهَاَ !!. فدوريان جراي بجمالِهِ الباهرِ وُلدَ على إثرِ مأساةِ مقتلِ والدِهِ الذي ينتمي للعامةِ، بتدبيرٍ من جدِّهِ لأمِهِ، الأرستقراطي الذي وجدَ في زواجِ أبنتِهِ من ذلكَ الرجلِ خرقاً لتقاليدَ لا يسعَهُ هو أن يعيشَ بدونِـهَا، فتنتحرُ أمُهُ لأنَّها لم تكنْ قادرةً على تحمّلِ عواقبِ تلكَ المأساةِ بدورِهَا. إنَّ دوريان هو أبنُ تلكَ الرقةِ التي تعني الضعفَ والحساسيةَ معاً، وهي تنطوي على نقيضِهَا أيضاً، أي تلكَ القسوةِ التي لا تعرفُ حداً ألَّا بقتلِ الذاتِ أو الآخرِ !!أمَّا اللورد هنري فهو الشخصيةُ التي تنطوي على صراعِ ثقافتين. ثقافةٌ قديمةٌ لا تريدُ أنْ تندثرَ بسهولةٍ، وثقافةٌ جديدةٌ تحاولُ أنْ تتعرفَ على ذاِتها وتعلنُ عن طبيعتِها ولكنْ بصعوبةٍ. وعلى عكسِهِ ظلَّ الرسامُ (بازيل هولو ورد ) يحاولُ جمعَ الخيرَ والجمالَ معاً، ويا لها من مهمةٍ شاقَّةٍ أودتْ بحياتِهِ في النهايةِ، وعلى يدِ دوريان جراي ذاتَهُ ، مُلهمَهُ وأحبُ الناسِ إليهِ!!لقد رسمَ بازيل صورةَ دوريان جراي كآيةٍ من آياتِ الجمالِ، أبـهرتْ جراي نفسَهُ الذي صلَّى إلى اللهِ، لكي يجعلَ هذهِ الصورةَ تتحمّلُ وتعكسُ آثرَ الزمنِ والأحداثِ والانفعالاتِ بالنيابةِ عنهُ في حينِ يظلُّ هو يحتفظُ بجمالِهِ وشبابِهِ الدائمِ، وهذا ما كانَ لَهُ وما كانَ سببَ مأساتِهِ أيضاً !! في المشهدِ الأخيرِ منَ الروايةِ، يقفُ دوريان جراي أمامَ صورتِهِ، بعدَ أنْ بلغتْ غايةَ البشاعةِ، يتلفتُ حولَهُ وهوَ في ذروةِ حيرتِهِ وتأزمِهِ، فلا يرى غيرَ تلكَ المدّيةَ ذاتَها التي قَتلَ بـها بازيل، لقد رآها تلمعُ، إنَّها المديةُ التي قتلتْ الرسامَ فلماذا لا تقتلُ عملَهُ - لوحتَهُ أيضاً ؟! (فلتقتلَ المدّيةُ الماضيَ، وحينَ يموتُ الماضيَ ينعمُ دوريان جراي بحرّيتَهُ مرةً أخرى) تقولُ الروايةُ.إن هذا الحلَّ ينطوي على ( متعةٍ ) مضاعفةٍ بالنسبةِ لرجلٍ مُتخمٍ بالرذيلةِ والجريمةِ مثلَ السيدِ جراي. فهي عمليةُ قتلٍ تنسجمُ معَ طبيعتِهِ، وهي خلاصٌ من ماضي القتلِ ذاتِهِ!!ولكنْ ووفقَ منطقِ الأحداثِ، فهو لا يملكُ خياراً آخرَ ، بعدَ أن أقنعتْهُ الصورةُ،بأنَّ ضميرَهُ أُتخمَ بالجريمةِ والرياءِ، بالشكلِ الذي لم يَعُد فيهِ مكانٌ للمزيدِ !! ( أمسكَ دوريانُ المديةَ وطعنَ بـها الصورةَ . وأعقبها سقوطُ جسمٍ. وكانتِ الصرخةُ مفجعةً حتَّى إنـَّها أيقظتْ الخدمَ من نومِهِم ) فلم يدُرْ في خلدِهِ إنَّهُ لم يعدْ بوسعِهِ، حينَ يشتهي القتلَ، سوى قتلِ نفسِهِ ! ثمَّ علا نجمُ وايلد سريعاً، وامتلأتْ الصحفُ بآرائِهِ وأخبارِهِ، وقدَّمَ مسرحُ سانت جيمس روايتَهُ )مروحةُ الليدي وندرمير) التي دشنتْ اسمَهُ كأحدِ أهمّ ِكتّابِ المسرحِ الإنجليزيِّ.شهدَ العامُ 1895 ظهورَ أعمالِهِ (امرأةٌ بلا أهميةٍ) و(الزوجُ المثاليُّ) وتحفتِهِ الخالدةِ (أهميةُ أنْ تكونَ جادَّاً) و(سالومي)، وكانَ لهذهِ الشهرةِ دورٌ في تبديلِ شخصيةِ وايلد كأنَّما تحقيقُ الطموحاتِ قدْ حررَ ميولاً مرضيةً ما في تكوينِهِ، وسرعانَ ما بدأ تدهورَ الرجلِ إلى نهايتِهِ.وتكفَّلَ أصحابُ السوءِ بتسهيلِ طريقِ الرذيلةِ للرجلِ، حتىَّ قُدِّمَ للمحاكمةِ فيما يُعرَفُ ـمحاكمةِ (كوينز برى) الشهيرةِ, في 25 أيار من عام 1995 . وفي ردّهِ على الاتهاماتِ التي وجهتْهَا إليهِ المحكمةُ, في معرضِ اتهاماتِهَا ضدِهِ بالكتابةِ في أمورٍ لا أخلاقيةٍ, يقولُ وايلد ( ليسَ الهدفُ هوَ عملُ الخيرِ أو الشرِّ, وإنّما محاولةُ خلقِ أمرٍ ما يحوي في مضمونِهِ الجمالَ والعقلَ والانفعالَ). وحُكِمَ عليهِ بالسجنِ معَ الأشغالِ الشاقَّةِ لمدةِ عامينِ، إلى جانبِ مصادرةِ ممتلكاتِهِ وحظرِ بيعِ كتبِهِ في المكتباتِ.
وفي السجنِ كتبَ إلى صديقِهِ وعشيقِهِ ألفرد دوجلاس والذي ربطتْهُ بِِهِ علاقةٌ آثمةٌ لغايةِ تاريخِ وفاتِهِ، خطاباً شهيراً نُشِرَ فيما بعدُ باسمِ (منَ الأعماقِ) أو De Profundis)). بعدَ حادثةِ السجنِ، استسلمَ أوسكار وايلد شيئاً فشيئاً لليأسِ الذي انتزعَ منهُ كلَّ رغبةٍ في الكتابةِ. كانَ عليهِ أخيراً أنْ يعترفَ بانهزامِهِ، فقدْ أعلنَ:"لا أعتقدُ أننَّي سأكتبُ من جديدٍ : هربَ حبُ الحياةِ مني، وكذلكَ الإرادةُ التي هي أساسُ الفنِّ".ما كتبَ: "لأنَّني كتبتُ سابقاً كلَ الذي كانَ عليَّ أنْ أكتبَهُ. كتبتُ عندما كنتُ لا أعرفُ الحياةَ؛ أمَّا الآنَ وقد عرفتُ معنى الحياةِ، لمْ يعدْ لديَّ ما أكتبُهُ. لا يمكنُ للحياة ِأن تُكتبَ، يمكنُ للحياةِ أنْ تُعاشَ فقط. حتَّى لو أردتُ الكتابةَ، لن يكونَ عندي وقتٌ. وقتي محدودٌ، وأعمالي انتهتْ، وعندما أتوقفُ عن الحياةِ، تبدأُ أعمالي الحياةَ".ويغادرُ (وايلد) السجنَ فيتركُ البلادَ إلى فرنسا، ويُمضي الوقتَ دونَ كتابةِ أعمالٍ مهمةٍ أخرى، ثم يصيبُهُ التهابُ الأذنِ الوسطي الذي يؤدي بِهِ إلى الحمى الشوكيةِ في ديسمبر عامِ 1900م ويلفظُ أنفاسَهُ الأخيرةَ فيُدفَنُ في باريس في مقبرةِ بيرلاشيز في مونمارتر.
و في ختام محاضرته، تساءل الناقد شغري: هل منَ الضروريِّ أنْ يتطابقَ سلوكُ الفنانِ معَ ما يقدِّمُهُ من جمالٍ و قيمٍ إنسانيةٍ رفيعةٍ؟ أ ليسَ من المحيَّرِ حقاً أنْ يكونَ هؤلاءِ الفنانين الذينَ عرضْنا لهم بهذهِ السلوكِ و القيمِ الأخلاقيةِ و المزاجيةِ التي دمَّرتْ حياتَهُم؟ أ لمْ يسيطرْ الشيطانُ على سلوكِهِم و تصرفاتِهِم مما أدَّى إلى مغادرتِهِم هذا العالمَ و هم في ريعانِ الشبابِ؟هلْ أنَّ إبداعَ الفنِّ يتطلبُ أنْ يبيعَ الفنانُ روحَهُ للشيطانِ كما فعلَ فاوست؟
بعد ذلك فتح الأديب النصر النقاش فتساءل الأستاذ عبد العزيز محمد عن وجود أدباء مثل هؤلاء في تاريخ الأدب العربي. و ضرب مثالا بابي نواس في خمرياته و شذوذ هو علق الفنان الشاعر ميرزا الصالحان الموضوع جميل حقا و لاحظ التناقض العجيب و الغريب بين السلوك و القيم الإنسانية و الجمالية التي قدمها هؤلاء العباقرة و تساءل هل تعمم هذه الحالات على الكثير من المبدعين. و أضاف أن هذا من جهة نظره حالات شاذة فحسب.و علق الأديب القاص جبير المليحان رئيس النادي الأدب فعلق إنها إشكالية اختيار ثلاثة نماذج غريبة الأطوار و السلوك. هناك طبعا نماذج من الأدباء ملتزمون بالقيم الأخلاقية في سلوكهم. و في تاريخ الأدب العربي لدينا حالات من التمرد على القيم السائدة كما في حالة الشعراء الصعاليك حيث كان في موقفهم خروج عن السائد و ما يتجاوز السلوك الشخصي إلى حالة من التمرد الاجتماعي. ثم داخل الدكتور أحمد كنعان فذكر أن العلاقة بين العبقرية و الجنون في الفن العربي لا يقارن مع الحالات في الأدب الغربي. و أشار إلى كتاب صدر عن عالم المعرفة الكويتية أكد على تلازم العبقرية و بعض الأمراض مثل الهوس مما أدى ببعضهم إلى الإدمان و القتل. و أضاف أن في عالم الأديب المثالي و تناقضه مع السائد اجتماعيا قد يقوده إلى سلوكيات خارجة عن السائد.و علقت الفنانة شعاع الدوسري فأكدت أن الموضوع جميل لكنه يبدو وكأنه مبتور.كنت أتمنى فيه أن نرى تعليقاً على الجانب الآخر. فهذه الصفات و السلوكيات من بعض الفنانين لا تعمم على جميع الفنانين. هناك أدباء و فنانين يمكن وضعهم في صف الملائكة!!شعرت انه يمكن أن يكون للموضوع تكملة يؤكد الجانب الآخر. ثم تحدث الأديب القاص عادل جاد فذكر أنه في تاريخ الأدب كان الفنان على درجة ما من عدم التوافق مع مجتمعه و في هذه الحالات ولد الفن العظيم و مثال ذلك نأخذه من الأدب الروسي الذي وصل إلى قيم رفيعة قبل الثورة الروسية و عندما حل التوافق صار الأدب يمجد الواقع دون إبراز التناقضات مما أدى إلى تردي الأدب. و من طبيعة الفنان أن يكون مختلفا لنأخذ سيد درويش مثلا فيه حالات تطرف .. و هناك في الأدب العربي حالات من التطرف الشديد . مثلا حالات الحب العذري أو العمري و هما من حالات التطرف الشديد. لكن المجتمع كان متسامحا مع الأدباء أكثر من زمننا هذا.ثم سال الأستاذ بندر عبد الله المحاضرَ عن اختياره لهذا العنوان للمحاضرة ( الفنان الشيطان ). و داخلت الفنانة زهرة أبو علي و بدأت بشكر المحاضر على هذا الموضوع وقالت إن الفنانين أحوج ما يكون إلى احتضان المبدع و دعمه و التركيز على مساهماته فالفنان يعاني من أشياء كثيرة. إذا يحتاج للتركيز على الجوانب الايجابية لا السلبية.و رد الناقد شغري بأنه اختار العنوان ( الفنان الشيطان )لان الشيطان سيطر على هؤلاء المبدعين و حرفهم عن جادة الصواب. أليس من الأمر العجب أن يكون فنان بقامة كارافاجيو الذي كان نقطة تحول في الفن الأوروبي و العالمي. حين ادخل ما سمي ( الضوء الفني ) للوحة بدل الضوء الطبيعي بحيث يخدم التعبير و زيادة التأثير الفني في اللوحة . و هو الذي حرر اللوحة من مثاليات و مواصفات لا تمت إلى الواقع بصلة و من المعروف أن الجمال هو كل ما يذكرنا بالحياة و الواقع. و تكفي مساهمته العبقرية بإبراز التضاد الحاد بين التعتيم و الإنارة في اللوحة الذي وصل تأثيره إلى فنان عظيم مثل رامبرانت و غيره و لا يزال تأثير كارافاجيو قائما إلى اليوم. ألا يدعو للتساؤل أن يقوم عبقري بهذه القامة بقتل إنسان من اجل سبب تافه : مراهنة على لعنة تنس!! و يتشاجر في حانة مليئة بالمرتزقة في ميلانو و فيصاب في وجهه بجروح شديدة !!و لو نظرنا إلى رامبو العبقري الذي لا يزال تأثيره قائما إلى اليوم من خلال الأشكال الحديثة للشعر كقصيدة النثر و الذي أدخل مفهوم الشاعر الرئوي. هذا الشاعر العظيم الذي لم يكتب الشعر أكثر من خمس سنوات. كيف له أن يغري الشاعر الرمزي فيرلين بترك عروسه و اللحاق به إلى مختلف المدن الأوروبية من اجل علاقة شاذة!! أليس عجيبا أن نرى ذلك و يدعو إلى التساؤل؟ و ذلك المسرحي و الشاعر الذي كتب في حياته رواية واحدة هي من عيون و كلاسيكيات الأدب الانجليزي اليوم و صاحب نظرية الفن للفن التي واجهت الأدب الموجه. هذا العبقري الذي التزم في بداية حياته بأسرة و زوجة و له ولدان .. يترك كل ذلك و ينصرف إلى علاقة محتقرة مع اللورد الفرد دوجلاس الذي يقاضيه والد اللورد بتهمة الشذوذ و يفضحه في الصحف الانجليزية فلا يقوى على الكتابة بعدها و تتركه زوجته و تغير اسم عائلة أولادها منه إلى ( هولند )و هو نفسه يغير اسمه بعد خروجه من السجن و يهرب إلى باريس حيث يموت هناك وحيدا دون اهتمام من أحد !!و ردا على من قال إن الفنان بحاجة لتأكيد و الاحتضان . قال الناقد شغري إن تاريخ الفن حافل بفنانين يقتربون في سلوكهم من الملائكة و على سبيل المثال الروائي الروسي العظيم ليف تولوستوي الذي وهب ضيعته التي يملكها للفلاحين العاملين فيها لأنه دعا إلى ذلك في أدبه و لما حاججه الفلاحون منحهم الضيعة دون تردد. رغم أن ذلك دمره من قبل اضطهاد زوجته الارستقراطية له بسبب ذلك. و في حالات كثيرة أضاف الناقد شغري ، قدمت كل ما استطيع من الدعم للكثير من الفنانين و الأدباء الشبان و غير الشباب بالكتابة عنهم و الحوار معهم.