
"الفنون الشعبية" الفلسطينية: رقص متمرد
خطفت ثنائية القمع والتمرد لثمانية راقصين وراقصات في صفوف فرقة "الفنون الشعبية" الفلسطينية ضوء "قصر الثقافة" بمدينة رام الله منتصف أيار الماضي عندما رقص نصفهم على ايقاع موسيقى لاتينية بأطراف ضحية متماسكة تواجه نصفاً آخر بوتيرة جلاد متوحش، وبايحاءات بسيطة راقصة للجسد والأطراف يواجه المقتول القاتل: قدرة فائقة على الصبر والتحمل بكرامة وبطش مريع بلا حدود ويشتبك الطرفان رغم اعتلال المعادلة، واحد يصفع بجنون متعالٍ وآخر يتحمل بكبرياء دون استعداد للاستسلام أو رفع راية بيضاء.
مع خاتمة رقصة "تَمَرُد" الايمائية بزمنها القصير نسبياً وتوقيتها المُحبك، تنتصر الضحية رمزياً بنهاية الإداء الحركي البسيط الراقص وذلك بمقدرتها الفذة على امتصاص ضربات لا ترحم مسلحة بفلسفة أخلاقية متماسكة، فيما تنهار طاقة الجلاد على مواصلة القمع رغم تسلحه بفكر عدواني خارج نطاق القيم، ويغادر الراقصون خشبة العرض نصفهم مطحوناً يحمل قامة مرتفعة يلاحقه النصف الآخر بلكماته المتواصلة لكن المنهكة. توارى القاتل والمقتول خلف ستارة المسرح قافزة من فوق الأكتاف رمزية الصراع: ضحية وجلاد تحكمهما علاقة صراع مزمن، ويصفعنا السؤال هل يتصالحان بتجاوز "الحاجز النفسي"؟ هل يجدان مَنْ يُمثلهما في تصالح كربوني صوري يُغيّبُ اكتمال شروط اتفاق بحده الأدنى قد يكون أقله اعتراف القاتل ببشاعة جرائمه واستعداده لتلبية مطالب الضحية لضمان "صلح تاريخي" كما يعلن دوماً.
غادر الراقصون المسرح تاركين لنا، نحن الحضور، حرية التفكير في الأسئلة المعقدة والشائكة التي تفرضها طبيعة العلاقة الواضحة غير الملتبسة بين القاتل والمقتول.. هل تستجيب الضحية لصلح عابر دون شروط؟
ويبدع الشبان أيضاً باداء رقصة "حصار" الارتجالية، ينتظمون أرضاً على شكل دائرة فيما تؤدي كل أطرافهم حركات راقصة وتواجه حملات تحطيمها، لكنها لم تنكسر أمام سطوة الاختناق المبرمج والمشدد فيحتفل الراقصون بأيديهم التي تظل مرفوعة في النهاية رغم انكفاء الجسد، رقصة رمزية نجحت في تكثيف مرارة المعاناة اليومية على الحواجز العسكرية.
وأبدعت الفرقة مرة أخرى بفن توظيف الموسيقى الدامية للفنان العربي مارسيل خليفة بصياغة رقصة "مجزرة" عندما تشابكت الأيدي والحركات البسيطة الراقصة على الأرض لمواجهة القذائف وقصف الطيران الحربي ربما في رمزية قاتلة لاشعال الذاكرة المتهتكة بحكايات "عناقيد الغضب" أو القتل الدامي في بلدة قانا بالجنوب اللبناني وسحق 250 مدنياً، معظمهم من الأطفال والنساء، بين جريح وشهيد عندما التجأ بعد ظهر الثامن عشر من نيسان عام 1996 نحو 800 مدني إلى مقر الكتيبة "الفيجية" التابعة لقوة الأمم المتحدة، وكذلك القتل اليومي المتواصل للأبرياء في غزة والضفة وبغداد. ثم تلتها رقصة "الشهيد" بتشابك الرايات السود على الأيدي وبحركات مؤثرة تفيض حداداً تعلن الحزن على رحيل الشهداء، فيما اعتلت ظهور الراقصين مفاتيح ضخمة تبشر بحق العودة رغم التنكيل والقمع والمجازر وتزايد قافلة الشهداء.
لا تقدم لوحات "الفنون" الراقصة: تمرد، حصار، الشهيد ومفاتيح التي عرضتها في الأمسية الثقافية "ذكرى وذاكرة" متزامنة مع ذكرى النكبة الكبرى وتأسيس الفرقة، أجوبة قطعية للقضايا الشائكة لكنها تكتفي بفن إثارة الأسئلة المهمة والصعبة وتترك للمشاهد وظيفة البحث عن جواب ناضج للمعضلة. على أن اسهامات الرقص الشعبي المتجدد والابداعي، مثل باقي ألوان الفنون المختلفة، تتجاوز محنة تقديم حلول جاهزة لقضايا معقدة وكبيرة بل تكمن مساهمتها في صياغة المعادلات القائمة وتعديل المختل منها بتوظيف ايماءات حركية راقصة لتفجير زوبعة من الأسئلة فقط، تاركة للحضور حق البحث عن اكتمال الجواب دون تسليم بمنطق الأجوبة العلمية الجاهزة لكل معادلة وذلك لاختلاف معادلة وقواعد الفن والابداع.
الواقع القائم بكل ثقله على الأرض من استحضار ذكرى النكبة إلى الحصار إلى المجزرة المتواصلة وقوافل الشهداء، لم يقف عائقاً أمام "الفنون" لعرض رقصات تراثية مشبعة بالفرح والحب، فقد أبدعت برقصة الافتتاح "خطاب الروح" وتمكنت من توظيف فني جيد للاضاءة والأجهزة التقنية عندما يظهر ويبرز خيال راقصين عملاقين على شاشة العرض يؤديان حركات ابداعية تروي حكاية الروح واشتباك الجسد.
وسحقت الأقدام الراقصة خشبة العرض عندما أدت رقصات: تواصل، يا ظريف الطول، أبو قذيلة، ليّا وليّا، مهيرة العلالي، كوكتيل وأبدعت في تحية "الفنون" الخاصة برقصتها الساحرة "فنونيات" بتداخل حركات رائعة ومثيرة لنحو إثنين وأربعين راقصاً وراقصة على ايقاع خليط من الموسيقى التراثية المتجددة والجميلة التي أعاد توزيعها الموسيقي الأردني طارق الناصر.. وألهبت "فنونيات" أكف الجمهور الكبير الذي تفاعل مع الإداء بلا حدود لتمر اللحظات خطفاً في خاتمة العرض الشيّق والممتع مجدداً التقييم أن الفرقة لازالت في أوج عطائها الابداعي وهي تحتفل بالسنوية السابعة والعشرين على تأسيسها وتنافس بقوة في حضورها العربي وتميّزها الفلسطيني.
تخلل أمسية "الفنون" عرض فيلم "انقاذ عاطفي" (20 دقيقة) للمخرجة الألمانية هيلينا ولدمان، وقد حصل مؤخراً على جائزة الأفلام الوثائقية في مهرجان الدوحة بامارة قطر. يروي "انقاذ عاطفي" قصصاً حقيقية لستة أعضاء من الفرقة ترك الاحتلال آثاراً داخل كينونة حياتهم النفسية بل غيّر مجرى يومياتهم الاعتيادية، وقد أثارت المخرجة الالمانية اعجاباً بطريقة تركيبها للفيلم وعرضها للأحداث اليومية المؤلمة التي عاشها أعضاء الفرقة، وافتتحته بحركة جنون لمرأة ترتدي معطفاً أبيض على مقربة من جدار الفصل العنصري معلنة أن عنصرية الجدار لا تقف عند حدود تقسيم الأرض وسحق الجغرافية بل تدخل إلى النفس وتعمل بجهد على شرخها، وقد استحق الفيلم بجدارة جائزة رفيعة فيما حصد أعضاء الفرقة كل الجوائز.
تستعد "الفنون" لافتتاح مهرجان فلسطين الدولي في رام الله أواسط تموز المقبل بعرض جديد لفرقة "البراعم" تحت عنوان " رقصة شمس" وهو عرض فلكلوري يجدد الرقص الشعبي على ايقاع 16 مقطوعة موسيقية أعاد توزيعها الموسيقي طارق الناصر.