الخميس ١٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم كاظم الشويلي

القاص جيكور... عندما يتحفنا بروائعه

عندما نطالع المنجز العراقي في السنوات الأخيرة، تدخلنا الغبطة والسرور من النصوص الجادة والهادفة والتي تحمل بين سطورها بارقة من الأمل والتفاؤل على قدرة هذا المنجز في مواكبة ومسايرة المنجز العربي على اقل تقدير، بل والتفوق عليه في كثير من الحالات... وهذا مؤشر فوق الجيد على الحالة الصحية التي تمر بها الأجناس الأدبية في بلدنا الحبيب.

 أخر ما طالعنا من إبداعات عراقية وبالذات في المنجز القصصي، هو القصة القصيرة الموسومة بعنوان (المسؤول والمرآة) للقاص المبدع (جيكور) ويبدو انه اسم جيكور هو اسم مستعار لقاص عراقي،ربما هو عاشق للسياب، وبرغم ما يمثله هذا القاص الرائع من ابداع لكن الذي يهمنا هو ان جيكور استطاع ان يصنع لنا قصة قصيرة حائزة على شروط القص وبجدارة، حيث تدور فكرة القصة حول رجل مسؤول في الدولة، يسلك مسكا وصوليا وانتفاعيا، وان ظاهره يخالف باطنه، يحاول أن يظهر بمظهر الناسك والطيب لكن سريرته تشير الى غير ذلك، لقد استطاع جيكور ان يصور لنا شخصية المسؤول بشكل دقيق وباهر،وكأننا نشاهده مثل فليم سينمائي قصير، يحدثنا جيكور في قصته:-

 (فتح خزانه ملابسه الممتلئة بعشرات البدلات الفاخرة والاقمصه وربطات العنق وهو يدندن باغنية قديمة غناها مطرب جديد هابط فهبطت معه لحنا وأداءا, سحب بدلة رمادية وقميص ابيض, وبدون اختيار تناول ربطه عنق صفراء مرقطة بالأزرق, لايهم هذه الأيام تنسيق الملابس، قالها, فكل الفوضى تسمى تشكيل وحداثه, تبسم وهو يتحسس كرشه الذي تضخم بشكل كبير الشهور الأخيرة. فتح دولابا مليئا بأفخر أنواع العطور الفرنسية والأوربية والأسيوية,لم يكن قد عرف هذه الأنواع او حتى شاهدها في صوره او دعاية من قبل,, رش أكثر من نوع على وجهه ورقبته وسترته ,فتح زجاجه صغيره وصب نصفها في يديه بلل وجنتيه ولحيته وشاربه, نظر إلى جبينه الموشوم (ليس من اثر السجود) لمسه بإصبعيه الوسطى والسبابة ليتأكد انه واضح ويمكن مشاهدته من بعيد عندما يقف أمام كاميرات الصحافة والقنوات الفضائية التي تقابله أكثر من مره في اليوم... ).

 بهذا الوصف الجميل والسرد الرائع نتعرف على هذه الشخصية المنافقة، يدفعنا القاص برفق إلى عقدة القصة فأن المسؤول ماكاد أن ينظر إلى المرآة حتى شاهد شخص آخر وكأن القاص يوحي بأن ما شاهده هو صورته الحقيقة الواقعية وليس كما رسمها لنا قبيل لحظات، وهنا تكمن قدرة القاص على الإبداع، نتابع سرد القصة: (وقبل أن يهم بالخروج تذكر المرآة الجديدة التي اشتراها بالأمس وعلقتها زوجته في الممر المؤدي إلى الباب الخارجية, اخبره صاحب المحل ان هذه المرآة لا تشبهها إي مرآة أخرى في كل العالم, فهي تعكس الصورة الواضحة والحقيقية لكل من ينظر فيها.. اقترب منها وتراجع مذعورا, التصق بالجدار لهول ماراه, يا ألهي ما هذا؟؟! من هذا الكائن الذي في المرآة؟؟؟ دنا منها وهو نصف مغمض, شاهد رأسه كأنه صندوق كبير فيه ثقوب كثيرة يصفر فيها الهواء، مد يده بخوف وحذر إلى رأسه ليتأكد من وجود هذه الثقوب, ارتعب عندما دخل أصبعه في أحداها, انتقل إلى الثقوب الأخرى فكانت كلها موجودة... هز ذلك الرأس الصندوقي بيديه فخرج صوت يشبه النخالة أو نشاره الخشب. كانت أذناه كبيرتان مثل اذان الفيل, وعينيه جاحظتين أحداهما حمراء بلا بؤبؤ والأخرى سوداء في وسطها بقعه بيضاء تشع مثل عيون الذئب...).

 هنا يحصل الصراع بين الشكل الحقيقي للشخصية والشكل المنمق والمزيف، مما يدفع القاص إلى اللجوء الى الحوار، وكما نعرف ان الحوار هو المادة الدسمة للقصة القصيرة، وهنا يبدع القاص في أدارة الحوار مما يضفي على القصة لمسة فنية جميلة: -
 
 (... ياربي ماهذا؟؟ معقول هذه هي معدتي؟! ماهذه النيران التي تدخل وتخرج منها؟ ماهذا السائل الذي يشبه القطران؟؟ لا.. هذا المخلوق المسخ ليس انا.. أبدا أبدا.. ضحك شخصه في المرآة بصوت عال.. هذا انت, بل انت اقذر من هذا,لو وضعت كل عطور الدنيا فرائحة النتن والخسه تظل تفوح من كل مكان فيك، البدلات وملابس الحرير لاتخفي قبحك ابدا.. وراسك الفارغ سيصفر الهواء فيه الى الابد، تراجع الى الوراء وأمسك زهرية ورد ورماها على صورته التي في المرآة انكسرت لكن قهقهات شخصه ظلت تتعالى,, صرخ بصوت عالي وسقط من السرير..نهض وتناول قنينة مياه معدنية من الثلاجة الصغيرة في غرفه نومه, عبها في فمه إلى أخر قطره, شكر الله لأنه كان كابوسا ليس الا, مشى إلى النافذة نظر الى الخارج فشاهد السيارات الكثيرة وأفراد الحماية والسائقين والخدم.. تحسس رأسه الكبير فلم يجد اي اثر للثقوب.. اقترب من المرآة المعلقة في الغرفة بحذر,, تبسم وهو يدندن بذات الأغنية القديمة التي غناها المطرب الهابط).

 لقد استطاع القاص المبدع جيكور أن يسخر قصته القصيرة لينتقد ظاهرة المسؤول الذي لا يهتم إلا بذاته والانا التي تتملكه، مما يدفعنا الى تقدير واحترام هذا القاص الذي سخر وقته وجهده في سبيل الارتقاء بالنص القصصي من حالات الابتذال والانحطاط إلى الأدب السامي الهادف الملتزم، فتحية للقاص المبدع جيكور...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى