الكاتب أحمد الخميسي وقطعة ليل
منذ زمن لم أعثر على مجموعة قصص بهذه الأهمية والجمال والإثارة . 12 قصة قصيرة هي فيما أعتقد حصيلة عمل جاد طويل وإدراك ناضج لمفهوم الكتابة ووظيفتها . تضعني المجموعة في حيرة ، فعلى الرغم من الوحدة الأصيلة في التناول والأسلوب الكتابي فإن القصص كلاسيكية وعصرية ، كابوسية وحلمية ، شاعرية غنائية ، ودرامية حية متحركة .
أحمد الخميسي يستعرض في هذا العدد القليل من الصفحات قدراته ككاتب أستاذ قادر على التعبير الموجز النافذ المشحون بالصور ، كل قصة تجربة مختلفة في القص والتناول ، لكن تجمعها جميعا روح واحدة من الأسى والشجن الذي يحمل روح العبارة القاسية التي يصدر بها المجموعة" إلي المستقبل الذي لا يأتي أبدا ".
لعل من أصعب قصص المجموعة وأكثرها قربا من روح الكتاب تلك القصة التي يحمل الكتاب عنوانها " قطعة ليل " : هذا البحث القاتل عن خيط من ليل وسط نار ضوء ساطع : " الضوء ساطع كالجحيم ، حتى ذرات التراب متوهجة ، القمر مازال يقف قبالة الشمس أبيض بلا ضوء ، لابد أن قطعة الليل مرمية في مكان ما. كيف يمكن للحياة أن تستمر هكذا ؟ " . من مثل هذا التناقض الشكلي ينبعث نوع فريد من الفن النافذ الذي يحمل القصة القصيرة إلي آفاقها الفنية الكلاسيكية والحديثة معا ، وهذا سر تفرد هذه المجموعة الصغيرة للأستاذ أحمد الخميسي .
في المجموعة قصص عن القرية ، وعن الكاتب نفسه ، وعن العائلة ، وعن موسكو ، وعن المدينة ، وعن قلب الإنسان في صورة صغيرة بالأشعة . وفي كل هذه الموضوعات هناك حالة من الإنسانية الراقية التي تنقلك إلي الأعمال الفنية الكبيرة .
" ياسر وجدي " في قصة " وقت آخر " يقرر ألا يرجع إلي بلده كفر عبده قبل أن " يفض سر ما تراءى له من صور تتناسل وتعيد خلق نفسها " . الأشياء ظل لحقيقة سرعان ما يزول ، والقرية الناعسة سرعان تكرر نفسها بلا نهاية ، ليس القرية وحدها ولكن كل شئ ، الحياة كلها . " هل من دواء يطرد ما تثيره أحداث الأيام الأخيرة من شعور غريب بأنه يعيش حياة بالية من زمن سابق لرجل آخر استنفدها ثم خلعها لأول عابر طريق ؟ أي طبيب يمكنه أن يجد علة الشعور الذي يتخلله بأنه يذوى وحده مئات المرات في فضاء عريض أصم خال من كل شئ ؟ " .
نهاية قصة " وقت آخر " جديرة بالتسجيل لأن فيها براعة أخاذة في الصورة وفي التعبير : " كان الهواء يرف من دوران المروحة وهي تهس بحركتها الثابتة في جو الفسحة فوق الجالسين إلي السفرة ، وقد توترت كل قواه ليتذكر زمنا كانت الوقائع فيه تشد بعضها البعض إلي الأمام .. دون جدوى . جاش صدره بانفعال شديد وأطبق شفتيه على قلبه محدثا نفسه : لم يبق أمامي سوى انتظار الأحداث التي انقضت ، ومباهج الماضي أفرح بها مستقبلا . حينئذ شملته تلك الرعدة على مقعده ، فارتجف لها جسمه كله بشدة .. مرة ومرة ثانية . وفتح الجميع عيونهم إلي آخرها منتفضين من مقاعدهم يتابعون بنظرات الدهشة جسمه المضطرب وهو يهوي إلي الأرض متخبطا فوقها ، وساعتها وقع ما لم يكن لأحد أن يتخيل حدوثه ، فقد أخذ ياسر وجدي يتلاشى شيئا فشيئا دون أن يترك وراءه أثرا ، في البداية تبخرت ذراعاه وساقاه ، ثم بطنه وصدره فرأسه في عامود طويل من الدخان الرقيق " .
في السطر الأخير من تلك القصة الغريبة نرى ياسر وجدي يتجه إلي عمله ويعود منه بانتظام ، يستقبل الأقارب في الصالون ، ويتردد على قريته كفر عبده .
إن هذه السريالية الواقعية المشحونة بالدلالات الاجتماعية والإنسانية نسيج خاص يتميز به الكاتب ويجدد ملامحه في كل قصة مع المحافظة على النفس القصصي الكلاسيكي الذي تتذكر معه أحيانا أعمال تشيكوف ، وأحيانا أخرى آثار همنجواي .
في كل قصة من قصص المجموعة ال 12تجربة من هذا النوع ، وإحكام في البناء يجعلك تلهث وراء السطور في قلب خافق بالاشتراك مع الأبطال ومصائرهم .
في آخر الكتاب قصة " نبضة " وهي قصة فريدة في شاعريتها وإنسانيتها . شاب وزوجته يخرجان من عيادة الطبيب بعد أن شاهدا في الأشعة صورة قلب الجنين الصغير ينبض في أحشاء الأم . وقال الطبيب للزوج : سأعطيك هذه الصورة للذكرى . الحياة حول الرجل والمرأة قاسية أشد ما تكون القسوة ، فقيرة أشد ما يكون الفقر . الرجل فقد عمله في حادث سير ، والأم الشابة أخطأت في توقيت الحمل لأنها نسيت حبات منع الحمل ، ومع ذلك فهناك نوع فريد من الحب والشاعرية نادر وفريد ، استطاع الكاتب أن يدخلنا إليه دون افتعال سنتمنتالية ، وعشنا مع الأسرة نبض القلب الصغير الذي بدأ يدق في الأحشاء رغم كل شئ .
الأستاذ أحمد الخميسي دارس للأدب وفنان ، يحمل في دمه شيخا من شيوخ الفن والكتابة في مصر : أستاذ أجيال الكتاب عبد الرحمن الخميسي ، ولكن الخميسي الابن يبني بناء مستقلا قويا وأصيلا ومشبعا بالإنسانية .
" قطعة ليل " لأحمد الخميسي مجموعة قصصية جديدة في زمن يقال عنه زمن الرواية ، وهي حقا تستحق الاحتفال والاهتمام .