الأربعاء ٧ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم كمال الرياحي

الكاتب الحر سليم دولة

الإهداء:

إلى شيطان ذلك اليوم الكافكاوي الذي حرّضني على محاورة سليم دولة أقول شكرا أيها اللّعين لقد دفعتني إلى متعة لن تندمل.

يمكنك العثور عليه بسهولة في أحد المقاهي التونسية أو المكتبات الموبوءة بالفقدان، في شارع الشوارع، في مقهى “لينيفار”. أصبح للرجل حلقته الخاصة التي تتّسع يوما بعد يوم كما ذكرت إحدى الصحف التونسية، أصبح للشيخ مريدون يتحلّقون حوله مثل سقراط المدينة ليستمعوا لكلامه المختلف.
تجمّعت فيه رومانسية العالم وعنفه، خليط غريب من سحر الشرق وعقل الغرب. كان يتحسّس شاربه النيتشوي صحبة قلقه الدائم مقلّبا أوراق كتاب “ستندال” حين أفسدنا عليه تجلّيه بتحيّتنا وعرضنا عليه إجراء الحوار.

سليم دولة

علمت قبل ذلك أنّ الرجل يرفض المقابلات والحوارات، فلا يقبل الحديث إلى صحيفة أو مجلّة إلا نادرا، لكنّه فاجأنا بالقبول، وتورّط بذلك الوعد، و عرفت بع ذلك أنه رجل لا يخلف وعده أبدا لذلك هو قليل الوعود, داهمناه يوما مدجّجين في الأسئلة، وكانت الجلسة الأولى والثانية فالثالثة… وكادت متعة الأجوبة تنسينا أننا بصدد حوار، هذا الحوار الذي انتشر خبره كالنّار في الهشيم بين أوساط المثقفين والبصّاصين الذين أصبحوا يسألون باستمرار عن موعد ظهوره .

سليم دولة هذا الكافر بنواميس الكتابة التقليدية، رجل صاحب عقل متوحّش يتجوّل في الشوارع الخلفية للفكر الدغمائي ليفتّق حواشيه ويرتّق مُزّقه. عاشق للغة والمتون التراثية، منقّب في أدمغة التاريخ، يشقى سعيدا بالحفر في الممنوع، “كاتب حرّ” كما يسمّي نفسه، متحرّر من الضوابط و الفضاءات يحمل أحلامه الطفولية القديمة وكوابيس كهولته الحديثة وهو يجندل الشوارع بشكل انتحاري،
صدر له:

 ما الفلسفة؟
 ما الثقافة؟
 كتاب الجراحات والمدارات
 كتاب السّلوان والمنجنيقات
 قدّم لكتب كثيرة (دواوين شعرية وكتب تراثية …)
 له عديد المقالات الفلسفية والسياسية في الصحف و المجلاّت العربية.

من مؤلفاته المخطوطة:

بيان بغداد السقراطي

طاف بنا هذا الحوار في أجواء الفلسفة والحبّ والإبداع والسياسة والفكر وعرّج بنا على عوالم الموت والانتحار…فيه أجوبة خاصة لأسئلة خاصة نحتناها بشكل مخصوص لـ”كاتب استثنائي” كما تسمّيه أحلام مستغانمي ، كاتب مسكون بايتيقا الرّفض، رجل هارب من عوالم الأساطير…من اللاّمعنى إلى المعنى.

الحوار

 صباحك فلسفي, تأتي إلى الفلسفة من الصحراء (مدينة قفصة) هل يمكن للفلسفة أن تكون بدويّة صحراويّة ؟
 ما هذا الاحتياطي من الاستفزاز الصباحي الذي توفّر على كميّة من المكر الصحفي؟ سأبادلك مكرا بمكر، تتحدّث عن قفصة حاضنة التراث البدوية كما يسمّيها صبحي حديدي في حين أنها تسمّى “مدينة التدقيق والتحقيق” ولو دقّقت وحقّقت في الوريقة الأولى من كتابي “الجراحات والمدارات” لأدركت بلا عناء بصري أنه ورد فيها : » مدينة قفصة مدينة كبيرة قديمة أزلية وكان على أحد أبوابها كتابة منقوشة على حجر من عمل الأُوَّلِ تُرجمت فإذا هي “هذا بلد تدقيق وتحقيق” «. من هذه الملاحظة تتبيّن نسبة المدينة التي انتمي إليها إلى القدامة ببعد أزلي، باختصار، إنّها أقدم من أقدم عواصم الدنيا وأقدم من قرطاج أصلا. هذه مدينة سُكّت بها عملة تسمّى “القفصي” وكما هو معلوم اللحظة الحضارية التي تتوصل فيها مدينة ما أو بلد ما إلى التداول بالعملة يعني أنّها تخطّت مستوى عقليّة اقتصاد المقايضة وأكثر من ذلك يمكن استحضار مفهوم الورد إذ نتحدّث عن “ورد الرمل”، فقفصة بهذا المعنى إنّما هي سليلة مفارقة عجيبة إذ تنتمي إلى مطلقين واحد يفتح على سجلّ الصحراء وما تتوفّر عليه من متاهات رمليّة وواحد يفتح على متاهات حضارية، إنّ وضع قفصة بهذه المفارقة ليشبه وضعي تماما.
 كيف ذلك ؟
 أنا بدويّ الانتماء سلالة وبدوي في ممارسة تيهي، إذ كيف لبدوي لم تلجمه الصحراء أن يشتغل بالفلسفة، زهرة المدن وسليلة الرياضيات والهندسة والجبر والإحصاء والحساب ؟ فإذا كانت الفلسفة على رأي ذلك الألماني المرعب “هيجل” إنّما هي وردة العصور وزهرة المدن فإنّ ما قادني إليها يمكن اعتباره شيئا شبيها بهذا، وهو الشعر والذي هو في نهاية التحليل زهرة الصحاري رغم أنّ الشعراء يزاولون وجودهم في المدن وما يستلزم ذلك من رهافة عيش وتنوّق كما يقول ابن خلدون إن على مستوى المعيش اليومي أو على مستوى رهافة المخيال الجماعي، فالذي قادني إلى اختيار الفلسفة شاعر وناثر، أمّا الشاعر فهو ذلك الضرير الذي أبصر ببصيرته، أقصد “المعرّي” إذ عثرت يوما على كتاب في جبّانة تسمّى جبّانة “سيدي المقدّم” أثناء اتياني بكرة أفلتت منّا أثناء اللعب ونحن صغار – عمري 14 سنة – وإذا بلفافة من الأوراق الصفراء متروكة لحالها هناك فكأنما لسان الكون وفق لغة صاحب المقدمة قد دسّها كلعنة في طريقي، أخذت هذه اللفافة من الأوراق ولما أنهينا اللعب عدت إلى البيت وفتحتها وإذا بي أقرأ أوّل ما أقرأ هذين البيتين :

سألتُ عن الحقائق كل يوم فما ألفيت إلاّ حرف جحدٍ

غير أنّي أزول بغير شـكّ ففي أي البلاد يكون لحدي

لم تكن أوراق مسفّرة فظننت أنّ هذا الكتاب في السحر بفعل تداول الكتب السحرية في “قصر قفصة” وكما ترى إن هذه الأبيات الصاعقة قد استجابت للتوّ مع هوى في نفسي المتمثّل في الشعور باليتم ذلك أني عشت في مقام اليتيم ففعلت هذه الأبيات فعلها وأخذت أنزوي تدريجيا وأمارس ضربا من العزلة والانقطاع عن اللعب، كما اتّفق أن كلّفني أستاذ العربية، وأذكر أنّ اسمه “سعيد الدقّاشي”، بتلخيص كتاب “قادة الفكر” لطه حسين وموضوعه الشخصيات التي قادت الفكر فعلا من ذلك تساؤل “طالاس” ومدرسته عن أصل الأِشياء، من أين ؟ وإلى أين ؟ فكانت ثاني الصدمات التي اقتلعتني من عالم الطفولة وبهجته و”فلسفته العفوية” إلى طرح أسئلة من النمط الوجودي والتي يطرحها غالبا الأطفال بسريّة فائقة خوفا من السلوك الانضباطي ضدّهم، من ذلك كنت أتساءل كيف لزوجة والدي، والتي تحفظ ستين حزبا وتحدّثنا عن الغزالي والسحر والطلسمات وعن ابن خلدون أن تعاملني بطريقة تختلف عن تلك التي تعامل بها أبناءها. فهذا الشعور بأني غريب بين أهلي انضاف إليه الشعور بغياب الأمّ وبثقل وجاهة اسم العائلة قد شكّل ضغطا عليّ إلى حدّ وضعت فيه كل أشكال المقدّس الميتافيزيقي والاجتماعي موضع تساؤل ولم أتخلّص حتى هذه اللحظة من ثقل اللحظة الطفولية، فترى إذن أن مدينة قفصة هي مدينة عجائبية لا وسطيّة لدى أهلها إمّا أن يكونوا متمرّدين على كل أشكال السلط أو أنّهم انتهازيون وانبطاحيون إلى أبعد الحدود لذلك لم تقم لهذه المدينة من قائمة منذ الاقتحام الموحّدي.

مدينة يسكنها الملاك والشيطان ويتحالفان أحيانا ويدفعان ببعضهما البعض، وثمّة مثل سائر يهجو أهل قفصة ومؤدّاه “صُحبَتُك في قفصي كِماكلْتك في تبْسي” (صداقتك لقفصي مثل أكلك في تبسي) والتبسي آنية فخارية قابلة للانكسار في أي لحظة لذلك تنتشر العقلية التمرّدية كما العقلية التبريرية الانبطاحيّة.
 إذا كانت الفلسفة بحثا في ما الإنسان ؟ فهل انحسارها اليوم دليل على أن الإنسان لم يعد يحتاج إلى معرفة نفسه ؟ أم أنّه فقد الحاجة إلى السؤال لأنّه فقد إنسانيته أصلا ؟!
 كان “كانط” نبّهنا فعلا إلى أنّ الأسئلة في الفلسفة والتي هي ماذا يمكنني أن أعرف ؟ ماذا يجب عليّ أن أفعل ؟ وما الذي يجوز لي أن آمل ؟ بإمكاننا اختزالها في سؤال رئيس وحاسم : ما الإنسان ؟ وكما ترون هذه الأسئلة منها ما يفتح على السجلّ الابستيمولوجي – المعرفي – العلم والمعرفة، كما يتعلّق بالشأن الأخلاقي وايتيقا السلوك وبالرجاء والأمل، وسؤال الأسئلة إنما هو الإجابة الكليّة عن مركز الاهتمام الرئيس وهو الإنسان.

ويعنيني اللحظة أن نتدبّر أمر الاستنتاج الممكن فيما يتعلّق بهذا الموقف الكانطي الذي حدّد خارطة التفلسف، الإنسان كائن معرفة وكائن ممارسة وكائن أمل وكائن تساؤل، أمّا من جهة كونه كائن معرفة فإنّ الخطر الكانطي، والخطورة بمعنى الأهميّة، إنما تكمن في أول جملة قد صاغها في كتابه “نقد العقل المحض” إذ أقر بأنّ : » ثمّة قدر فريد للعقل البشري وهو أنّه يطرح أسئلة تتعلق بجانب من معارفه ليس باستطاعته تلافيها البتّة «. ما هو هذا السؤال الذي لا يمكن تلافيه، إنه سؤال الميتافيزيقا – الماورائيات. بهذا المعنى الإنسان حيوان ميتافيزيقي، بلغة أكثر وضوحا حيوان ديني، ومهمة الفلسفة كانطيا تتمثّل في ما يمسّى الوعي بالحدود، حدود مستطاع العقل وحدود لا مستطاعه، أكثر من ذلك قد شبّه كانط الفيلسوف بالشرطي إذ أنّ الفيلسوف النقدي عليه أن يمتحن بدءا مقدرة العقل على تخطّي أو عدم تخطّي مُستطاعه بذلك تتمثّل ما يسمّى بالثورة الكوبارنيكية التي أنجزها كانط في وضع حدود للعقل الدوغمائي، ذلك الذي عاش أكثر من ألفي سنة على وهم معرفة الله والنفس وبدايات العالم كما تُعرف قوانين الفيزياء ومسائل العقل العلمي.

باختصار، لقد دعا كانط للاقتصاد في إينيرجيتيقا العقل لئلاّ يبدّدها في مجال الميتافيزيقا. وتسمّى هذه ثورة استثنائية في الفلسفة، أمّا حين يزاولها فلاسفة آخرون في فضاء ثقافي مختلف مثلما هو الشأن في الثقافة العربية الإسلامية يعتبر ذلك تحطيما وتهديما للفلسفة وجناية فاحشة ضدّها وتجريما لمن قاموا بذلك دون تمييز بين السجلاّت أصلا كما حدث ويحدث مع الغزالي مثلا وابن خلدون مثلا وابن تيميّة أيضا، إذ يعتبر كثير من “الخلق” الجامعي الذين درَسْتُ عليهم أن ابن خلدون أبطل الفلسفة وشنّع بمنتحليها وقد ورث ذلك عن الغزالي، إلى غير ذلك من الأكاذيب والأعاجيب الأكاديمية دون تنبيه إلى أنّ المجال الذي تمّ فيه نقد الفلسفة والعمل على إبطالها أصلا إنما هو مجال الميتافيزيقا ليس مجال تدبير السياسات المدنية أو سائر النشاطات الإنسانية، فكيف لدكاترة كبار أن يصابوا بالعمه النظري ولا يعملون على أن يكونوا وسطاء صادقين وموضوعيين بين الفلاسفة الكبار وبين الطلبة، فالمطلوب إذن، إنما هو الوعي بالأخطاء الأكاديمية والأوهام الإيديولوجية ذلك أننا نصرّ على أن نقرأ لدى الفارابي أو ابن سينا أو الغزالي أو ابن باجة… إلخ، إلاّ ما نرغب في قراءته، وأذكر عبارة للمفكّر المغربي “محمد عابد الجابري” موحية في هذا المجال حينما ينبّهنا إلى خطر القراءة المتذكّرة في حين أنّ المطلوب هو القراءة المفكّرة. ذلك أننا غالبا ما نقرأ المتون متذكّرين مجموع آرائنا المسبّقة فنصرّ على أن نجد في هذا النصّ أو ذاك ما نرغب في وجوده ونصاب بالعمى عن الجديد لديهم أو عن تردّداتهم وحدوساتهم وتلمّساتهم الليليّة إذ وحده الفكر الدوغمائي يصرّ على أن يجد مسبّقا ما يجب أن يجده في المتن المقروء، من ذلك هذا الوهم المعاصر الحديث عن “موت الفلسفة” وهو ما يتطلّب وقفة متأنّية، فما الذي يبرّر هذه الوقفة المتأنّية؟

إنّ العصر الذي نعيش لو نكتفي بمجرّد تصفّح لعناوينه الإعلامية والإعلانية دون إعمال عميق للعقل النقدي لتبيّنا أنه عصر قيامي ومأتمي وجنائزي، ذلك أنّ التحدّث بصيغ مختلفة ومتعددة عن الموت “موت الكاتب”، “موت المؤلف”، “موت العمل”، “موت المدرسة”، “موت الدولة”، “موت الأمّة”، “موت العائلة”، “موت الله” وآخر الميتات ربّما إنما هي “موت الإنسان” و”موت الرواية”
وكلّ موت إنما هو يتمّ لصالح حياة وكل اختفاء يتمّ لصالح ظهور، من ذلك أنّ ما يسمّى بـ”موت الله” في الفكر الغربي كأنّما هو الشرط الرئيس لولادة الإنسان، ليس أيّ إنسان وإنما إنسان التنوير ضدّ إنسان اللاهوت والميتافيزيقا والتزوير تماما كما موت الإعلام إنّما يتمّ لصالح الإعلان والإشهار إلى حدّ غدا معه الإعلام مجرّد فعل إشهار أو “تشهير” كما “موت الرواية” إنما يتم لصالح ما يسمّى بالتحقيق الصحفي و”موت الأمة” إنما يتمّ لصالح العولمة و”موت التاريخ” يتمّ لصالح تفتيت الجغرافيا. كما أنّ “موت العقل” يتمّ لصالح مديح العقوليات. ما يمكن ملاحظته أنّ الفلسفة ذاتها، وهي موضوع حديثنا، يتمّ قتلها يوميّا لصالح الميديولوجيا، فنرى كيف أنّ الإيديولوجيا تذيب الفاعلية النقدية للفكر الحرّ في “الحامض الفسفوري”، وفق عبارة سارتر، في الميديولوجيا، وبذلك تظهر الإيديولوجيا في شكل أرقى نتاجات التكنولوجيا تخفّيا.

 أصبحت عبارة “تفلسف” تترادف في متداولنا اليومي مع مفهوم الثرثرة والكذب والخبل واللغو… ما الذي حلّ بالفلسفة لكي تتدهور أحوالها ؟ كيف تحوّت تلك الشجرة الوارفة الظليلة إلى فزّاعة خاوية ؟!!
 إنّ السخرية من الأسئلة الحاسمة أمام أشكال الدوغمائيات والدكتاتوريات، إذ لا أحد يجرؤ أن يقول كلّ ما يفكّر فيه حقّا وحقيقة، تظلّ دائما ثمّة مناطق وحالات وأوضاع مسكوت عنها بفعل استحضار الوعي الانضباطي والتدابير الانضباطية ضدّ حريّة التفكير والتعبير لذلك وحدها زلاّت اللسان كما زلاّت القلم بالمعنى الفرويدي تقول ما لا ينقال وإن كان قد قيل تورية أو مجازا أو كناية أو صمتا، ذلك أنّ الصمت منذ ثورة التحليل النفسي لم يعد مجرد انقطاع عن الكلام بالرغم من المقدرة عليه. وإنّما أصبح الصمت “ترجمان أشواق” مغدور بها، مقموعة ومغيّبة إلى أكثر المناطق ظلمة وسديميّة وكبتا، غير أنّ للمكبوت ثارات من ذلك مثلا أن الانحراف اللساني والتوعّك الشفاهي حينما ننطق كلمة “فلسفة” غالبا ما ينحرف لسان العامة والخاصة أيضا كما العوام فيستبدل مواقع الأحرف فتصبح الفلسفة “فلفسة”، وأذكر أوّل مرّة سؤال أمّي البدوية : » آش اِنْ هي الفلفسة التي تريد أن تردسها في الجامعة ؟ « لقد استوقفني توعّكها اللفظي فقلت لها : » أنا لا أدرس “الفلفسة”« فأجابتني بعفويتها : » من أين لي أن أعرف الفلفسة أو فلفسة أمّك ؟ «. وأصرّ لسانها على التوعّك، وهذا الانحراف الحرفي ليس بريئا ذلك أنه يمكن قراءته على أنه انتصار للأفلاطونية لدى العامة ضد نمط آخر من الأداء الفلسفي المتمثّل في تشويه معلّمي البيان – السفسطائيين – ذلك أنه يقترن في أذهاننا فعل الفلسفة “بالفساد” و”الإفساد” و”التزوير” و”الكذب” فكثير التكذاب نطلق عليه “السفسوف” المقترن بالضحالة والتفاهة وترويج الأراجيف وإفساد الجماعة ونشر الشرّ. فترى أنّ الفلسفة سيئة الذكر حتى إنه لتحتاط أكثر من عائلة، كما حدث معي، أن تزوّجك ابنتها باعتبار أنّك، إلى جانب أنك “كافر” و”ملحد” و”كذاب” أنت “مزوّر” ولا يؤتمن لك جانب. من هنا ندرك، ربّما، احتياط النص القرآني بأن لم يذكر كلمة الفلسفة ولو مرّة واحدة وتدبّر أمره باستعمال كلمة “الحكماء” وكل ما يشير إلى “الحكمة”.

إنّ غياب كلمة الفلسفة من النصوص المقدّسة يدعو إلى التفكير فما الذي يبرّر هذا الغياب ؟ كيف يمكن لنا أن نستنطق هذا الغائب وإن كان حاضرا بالممارسة وغائبا بالتسمية ؟ ألم يتمّ الانتقال من حضارة “الميتوس” إلى “اللوقوس” بفضل نمط من التعقّل الجديد للإرث القديم فكان المرور من الميتوس إلى اللوقوس لدى اليونان كما تمّ لدينا المرور من “حضارة الشعر” إلى “حضارة الشريعة” ؟
ألم يقترن الشعر في الذهنية العربية الإسلامية “بالزيف” و”الكذب” و”الجنون” و”الغواية” ولم يسلم الأنبياء أنفسهم من التهمة عينها إذ نسبو “للكهانة” و”السحر” “التنجيم” ؟

إنّ للكلمات غوايتها وحيلها، ألا نستعمل في متداولنا اللساني اليومي التونسي عبارة “أنجّمُ” بمعنى “أستطيع” وعبارة “أنا لا أنجّم” بمعنى إني لعاجز عن القيام بهذا الفعل ؟ ومجرّد التفكير في تسلّل هذه العبارة إلى وعينا اللغوي اللساني يبيّن لنا أن الإنسان المعاصر يمكن أن يعيش في زمن الحداثة بإرث لساني موغل في القدامة. أليست وراثة الكلمات في جانب من جوانبها تعني وراثة المواقف والأحكام ؟ من ذلك نستنتج ببساطة مطلقة أنّ الفلسفة إنما هي سيّئة الذكر في منتظمنا الحضاري بفعل “المقدّس” و”المقدّس المزيّف” وهو ما يبرّر إعادة النظر في ما معنى الفلسفة أصلا في حضارة تستند إلى الوعظ والإرشاد ؟ ماذا لو نفكّر في أمر الوعظ أصلا ونجترح تعريفا للفلسفة على قياس الوعظ ؟ فما الوعظ ؟ إنّه “تليين القلب”، فإذا كان الأمر كذلك بإمكاننا أن نعرّف الفلسفة بأنها “تليين للعقل”.
 هل يمكن الإنسان أن يحافظ على وجوده، باعتباره إنسانا، في هذا الرّكام من الأشياء والنفايات ؟
 الإنسان بدءا إنّما هو كائن الثقب والنفايات، لم يكن قيصورمون Goysorman مخطئا عندما عنون واحدا من كتبه بعنوان دال « Le monde poubelle »، “عالم النفايات”، بأكثر دقة “عالم القمامة” وأكثر من ذلك، لقد أصبح ثمّة نشاطات كثيرة وموارد رزق ومواطن شغل إنّما تتمثّل في صناعة النفايات، وما يسمّى بالرسكلة لا يزيد عن كونه فعلا إعادة التصريف والتصرّف في البقايا، والمثال الأكثر إرباكا إنما هو المتاجرة بالأعضاء، إذ ما معنى أن يبرم المحتضر عقدا على بيع أعضائه لبنوك الأعضاء كما يبيّن بحذق استثنائي “دافيد لوبروطون” في كتابه “انتروبولوجيا الجسد والحداثة” حيث نبّهنا إلى أننا مررنا من الأمومة البيولوجية الرحميّة إلى الأمومة الأنبوبيّة، ومررنا من استثمار البذور النباتية إلى البذور المنويّة. كما المرور من اكتراء الشقق والعمارات إلى بيع البويضات واكتراء الرحم. لقد تمّ تفكيك المتناهي في القداسة، الأمومة الرحمية، إلى تداول الأمومة الأنبوبية. لقد كتب مفكّر فرنسي مؤلفا موحيا بمجرّد عنوانه “الأجساد المحوّلة ومكننة الكائن” وهو ميشال طيبون كورينيو، ذلك أننا مررنا حضاريا من النظرة السحرية، الشعرية، والجمالية، والإلغازية للمغلق الجسدي إلى النظرة الآلية، الأداتية، الميكانيكية للكائن الذي استحال إلى مجرّد جسد، لا بل مجرّد جسم. فإذا كانت النجاة في ما مضى تنسب إلى الروح فإنّ النجاة الآن في حضارة الصورة أصبحت تنسب إلى الجسد كما بيّن ذلك بدقة فائقة صاحب كتاب “التبادل الرمزي والموت” وكتاب “مجتمع الاستهلاك” جون بودريار ومن هنا ندرك بأكثر عمق أهميّة الانقلاب الحضاري الذي نعيش نحن العرب المسلمون، ذلك أننا مررنا بالرغم عنّا من حضارة السورة والآية إلى حضارة الصورة والآلة. فالآية لم تعد تتعلّق بالمغلق، مغلق العالم، مغلق الجسد، وإنما أصبحت تتعلّق بالمفتوح، مفتوح العوالم ومفتوح الخلوي ومفتوح السلالة ومفتوح الثقافة تماما كما تمّ المرور من المغلق الماهوي العقلي إلى مفتوح المعقوليات والمرور من العالم إلى العوالم ومن “المستبدّ” إلى “الديمقراطي”، وعبارة “استبدّ” تستدعي وفقا لميراثنا اللغوي تأمّلا نقديا من جهة الاستعمال اللغوي ذلك أن فعل “استبدّ” يحيلنا مباشرة على الربوبية والألوهيّة : “استبدّ” جعل من نفسه بُدّا بمعنى ربًّا ومن هنا ندرك لماذا عنون ابن سبعين المرسي الأندلسي كتابه بعبارة “بُدُّ العارف” والذي أغرب ما في الأمر أنه انتحر بمكّة وهو الذي وسم الفلاسفة وشناهم بـ”المموّهين” و”الممخرقين” معنى ذلك أنه سعى إلى مصادرة الفلاسفة انتصارا للدين، فكيف نفسّر انتحاره ؟

هل انتحر حقا أم “نُحِر” ؟! ذلك ما يتطلّب تدقيقا وتحقيقا. مرّة أخرى إن الفلسفة سيّئة الذكر، وأنباء حرق الكتب معروفة في تراثنا العربي، وإن كانت ليست ميزة عربية، ولقد أصدرت دار الجمل بألمانيا كتابا مهمّا “يُأرشِفُ” للمحارق ولما يشبه “محاكم التفتيش” ويكفي فقط أن نتصفّح الفصل ما قبل الأخير من “حي ابن يقظان” لابن طفيل الأندلسي وكتاب “مداواة النفوس” لابن حزم الأندلسي وهو آخر ما كتب في حياته لندرك أنّ وضع الفلسفة ليس على أحسن حال، لقد تم حرق كتابي الأول “ما الفلسفـة ؟ ما الثقافة ؟” في الثمانينات من قبل أكثر من جهة لأمر بسيط وهو أنّي أوردتُ فيه نصّا في إدانة الفلاسفة كان قد أصدره المنصور ابن أبي عامر لمّا سُجن ابن رشد في مدينة سيّئة الذكر أندلسيّة.

لماذا نذهب بعيدا ؟ لما أصدرت كتابي “الجراحات والمدارات” تم الاعتداء عليّ شخصيا وأحمل آثار هذا الاعتداء كشرخ حاضر عند رأسي وفي صلعتي تحديدا إذ تمّ تعنيفي من جهات لا أعرفها والتهمة هي التفكير خارج ما أسماه محمد أركون “الأسيجة الدغمائية”.

 ألا ترى معي أنّ سؤال الفلسفة والعلم أصبح أكثر إلحاحا اليوم، نحن نعيش زمن العلم بامتياز ولكن شوارعنا مزدحمة مثل صحفنا بلافتات المشعوذين وبياعي السخف. هل نحن بحاجة إلى فلسفـة أم علم ؟
 من أهمّ مهمّات الفلسفة بيداغوجيا العمل على تحديد المفاهيم وهو ما يبرّر استنطاقي لسؤالك، ما الذي تعنيه بـ”العلم” و”الشعوذة” ؟ إنّ من أبسط تعريفات “العلم” وأكثرها إجرائية المعرفة العقلانية بالقوانين وذلك يفترض أن الظواهر التي تحدث إن على مستوى الطبيعة أو على مستوى المجتمع لا تحدث صدفة وإنما لها منظومة من الأسباب تقود إلى إنتاج ظواهر محددة سواء تعلّق الأمر بما يسمّى بالعلوم الدقيقة أو الإنسانيات فلا بدّ لنا إذن من التمييز بين تعريف العلم وموضوع العلم ومنهج العلم والحقيقة العلميّة حتى نتبيّن ما إذا كنا علميين في نظرتنا لما يدور حولنا وإلى ما نحن خاضعين له كذوات فردية وجماعيّة. إن العلم بمعناه الوضعي من جهة الموضوع إنما يدرس كل ما هو قابل للزيادة والنقصان، يعني كل ما هو مقيس يخضع للإحصاء ويخضع لسببيّة موضوعيّة تتخطّى الإرادات الذاتية والمزاجيّة وكل ما يحيل على الغواية والإشتهاء الذاتي بهذا المعنى ربّما ندرك التأكيد الخلدوني على ضرورة التمييز بين “ميزان الذهب وميزان الحطب والحجر والخشب” فمجال الطبيعة يُقاس بميزان الكثيف في حين أنّ مجال العواطف والأهواء والذوق يُقاس بميزان اللطيف. تتمثّل الثورة العلميّة في المجتمعات التي شهدت أكثر من ثورة كوبارنيكية في الإيمان بأنّ ما يحدث لا يحدث هكذا صدفة وإنما يخضع إلى أسباب محددة مسبّقا وإلى فواعل لاحقة لذلك ربّما ندرك أهمية الثورة الخلدونية في كتابة التأريخ، إذ كان قبل الثورة الابستيمولوجية الخلدونية لا يزيد عن كونه سلسلة من الأحداث والحكايات المرتبطة رأسا برغبات الملوك والسلاطين والأمراء ومن يسميهم أصحاب “الجاه والتجلّة” وهذا المنزلق النظري إنما هو الذي وقع فيه المسعودي والبلاذري وحتّى من أسماهم ابن خلدون “فطاحلة المؤرّخين”. أمّا وإن تمّ التعمّق في تفسير الظواهر خلدونيا فإنّه لا بدّ أن ندرك أن للظواهر الاجتماعية تعليلا بمعنى تحديدا، للأسباب والمسبّبات من ذلك أن الدولة من جهة تكوينها الجنيني وعمرها لم تعد خاضعة لمجرّد الصدفة ولا إرادة أو رغبة هذا السلطان أو ذاك الأمير أو هذا الحاكم أو ذاك وإنما أصبح للدول أعمار “كالتي للبشر : جيل للتعب وجيل للذهب وجيل للحطب”. بقطع النظر عن المرجعيّة التفسيرية والتأويلية للخطاب الخلدوني فإنه يكفيه شرف “إرادة المعرفة” من تحويل كتابة التاريخ وفق المرغوب فيه أميريا وسلطانيا إلى تاريخ يخضع لمنطق الصرامة والضرورة ومن هنا ندرك أهميّة التوقّع وإن كان الأداء الخلدوني يخضع بدوره إلى ما يشبه القدر، استحضر عبارته الموجعة وهو يتحدّث عن العرب زمن انكسارهم واندحارهم حينما يعلن بمرارة من ولد في “تربية الباي” التونسية » كأنما لسان الكون ناداهم أن أدبروا فاستجابوا له «.

وغالبا ما نعلن بشراهة نرجسيّة أن ابن خلدون قد سبق أوقيست كونت في تأسيس علم الاجتماع وفي هذا البلاغ الادّعائي اعتداء مزدوج : اعتداء على ابن خلدون واعتداء على أوقيست كونت، فكيف ذلك ؟ إن ابن خلدون إنما هو مُدشّن “علم العمران” و”علم العمران” يمثّل منظومة الحالات والتحوّلات التي تمس مجموع فسح المجتمع ويكفي فقط تصفّح فهرست المقدمة لندرك إسهامه الانتروبولوجي السياسي والاجتماعي وما يسمّى اليوم سيميولوجيات الحياة اليومية ومن ذلك مثلا رصد “نحلة المعاش” لدى أصحاب شظف العيش وأصحاب التنوّق في الحياة فالنعت الوحيد الذي يجب أن يبقى في كل لغات العالم للاختراع الخلدوني هو “علم العمران البشري”. لماذا هذا التأكيد ؟ لأنّ علم العمران أشمل من السوسيولوجيا لدى أوقيست كونت ذلك أنّ الاكتشاف الخلدوني إنما هو اكتشاف انتشاري بإمكان أحفاده أن يحملوه إلى مداه فتتوفّر لديهم مجموعة من العلوم الذريّة أو القطاعية من ذلك مثلا “آداب السفرة” و”آداب المآكلة” و”آداب الاحتفالات الجنائزية” إلى غير ذلك من سائر الحقول التي أشار إليها دون أن يتبسّط فيها، في حين أن أوقيست كونت يؤرّخ سوسيولوجيا للتقدّم وأراد أن يجعل الانتصار العلمي مقام الانتصار اللاهوتي فكأنما العلم كونيا يقوم مقام المفعول اللاّهوتي. إنّ الخلدونية، وفقا لمقولة التسويق الكونية، لماذا ؟ لأنّ ابن خلدون ترك مجالات “للمخيال، وترك للأخطاء” و”للأوهام” و”للتردّدات” فُسحها بينما أوقيست كونت طالب بصرامة استثنائية أملاها عليه الشرط الوضعي وإن كان قد دعا إلى فيلسوف جديد “مختصّ في عدم الاختصاص” وظيفته الأساسية التأليف والتوليف بين جميع جُمَّاع المنجز العلمي إذ لا ننسى أنّ القرن الثامن عشر إنّما هو العصر الوريث لأفكار كلّها تؤمن بـ”التقدم” و”التغيير” و”الدوران” و”الثورة”. فزمن أوقست كونت إنّما هو زمن أفقي وزمن ابن خلدون إنما هو زمن دائري إلى حدّ أنّه يمكن أن نطرح معه مسألة الوجه الهندسي للأفكار إذ ثمّة أفكار يمكن نعتها بالدائرية وثمة أفكار أفقيّة من ذلك عبارتنا المتداولة عاميا “ما يعْجبكْ في الدهر كان طوله”. هذه الفكرة تبدو ظاهريّا فكرة أفقيّة في حين أننا لو تدبّرنا أمرها جيّدا لأدركنا أنها فكرة دائريّة ودائرية بامتياز، هذه العبارة تفتح على فكرة الشعوذة ودائريّة الزمان تحديدا.

 إذن، ما الشعوذة ؟
 ما الشعوذة ؟ وما السّحر ؟ وما الطلسمات ؟
إنّها جميعا تحيل على إيمان ما. إيمان بماذا ؟ الإيمان بأهميّة اللغة، اللسان، البيان، القادر على تحويل الطبائع والعناصر، ذلك أنّ السحر كما الطلسمات إنما هو الاعتقاد في سلطة اللغة سواء أكان سحرا أسود أو أبيض ومعادلته السيميائية هو التفريق والمباعدة كما المباعدة بين الزوج وزوجه والمباعدة بين الابن وأبيه، من هنا نفهم لماذا تمّ اتّهام الأنبياء والرسل بتغيير “علاقات الطين”/العصبية بـ”علاقات الدين” ذلك أن الكثير من الأبناء قد مارسوا ضربا من العقوق تجاه الآباء كما مارست الزوجات المضطهدات العقوق تجاه الأزواج المضطهدين كما مارس العبيد ضروب الأبوق والتمرّد ضدّ الأسياد بمعنى أن كلّ الثورات سواء تمّت باسم السحر أو الدين أو الطلسمات أو أيّ ضرب من ضروب الوعي الثوري العقلاني إنّما هي تفجير لمنظوم علاقات القرابة القديمة واستبدالها بعلاقات قرابة جديدة فالفاعل الرئيس في حقل الشعوذة هو الإيمان بإمكانية تحويل الطبع إلى طبائع وتحويل المكروه إلى محبوب والمنبوذ إلى مقبول والمجروح إلى سليم والفقير إلى غنيّ والمرؤوس إلى رئيس، إلى غير ذلك من متواليات المفارقات. أمّا وأن تنتصر العقلية الشعوذيّة في المجتمعات الأكثر علمانية وعلمنة فذلك يعود إلى ما يمكن تسميته بالتسريع الاغتصابي للتاريخ. فما معنـى هذا ؟

ذلك يعني أنّ للجغرافيات كما للشعوب خصائص تمييزية واختلافية لابدّ من الانتباه إليها على أقلّ تقدير من أفق حكم الانثروبولوجيا الثقافية، فإذا قلنا أنّ الشعب الفرنسي كما نبّه إلى ذلك جورج بولينتزير – المغتال نازيا – من أخصّ خصوصياته : “الدفاع عن الحرية” وإذا قلنا أنّ الشعب الانقليزي من أخصّ خصوصياته رفض الإفراط الإيمائي خلافا لما عليه الشعب الإيطالي والشعوب المتوسطية عموما، وإذا ما قلنا أن الشعب الجزائري شعبا قُصْوَويًّا إذ ينخرط في مطلق المحبّة والالتزام تماما كما يفرط في مطلق الانفلات والتمرّد والعصيان وهو ما نستشرفه من أدبه (واسيني الأعرج، أحلام مستغانمي، الطاهر وطّار،…) فإنّما ندرك أن عقلية الشعوذة أو ما يسمّى “الشَّعْبَذَة” ثابتا بنيويًّا في كل الحضارات وأكثر من ذلك أنها لأكثر حضورا في المجتمعات الأكثر علمنة وادّعاء للعقلانية.

لقد استحضر رئيس فرنسي سابق “مدام سولاي” وهو يجيب عن واحد من الأسئلة المحرجة، وأن يستعير رئيس بلد التنوير في مقام الراحل “ميتران” “مدام سولاي” وحده دال على مدى تغلغل الذهنية الخرافية والأسطورية والشعوذية. وأكثر من ذلك إنّي لأعرف عرّافين على مستوى عالمي يطلب منهم كثير من الخلق المتنفّذ في السلطة السياسية قراءة أكفّهم ومستقبلهم السياسي والعاطفي أيضا وفقا لإيمان منهم بتوفّرهم على طاقة لقراءة كتب الغيب. نعم هكذا يتصرّف اللذين يزعمون أنّهم يمسكون بدواليب رقابنا ورواتبنا الشهرية أيضا.
لقد نبّه “مارسيا إلياد” الروماني في آخر حوار أجري معه قبل وفاته إلى ضرورة التمييز بين بنية الفكر الديني ومسوخ بنية الديني مستحضرا مثالا إجرائيا وهو مثال الزواج، فكيف ذلك ؟

إذا كان المسيحي أو السنّي عند تدشين لحظة الزواج يهرع إلى الجامع أو إلى الكنيسة فإن الثوري الماركسي وفقا للصياغة الأرتودكسيّة يهرع إلى الساحة الحمراء. في هذا الفعل الطقوسي الذي أرادته السلط الاستبدادية فعلا مباركا إنما يتوفّر على احتياطي من الاستبداد على الذوق الشخصي. الثابت الرئيس في هذه الممارسة وتلك إنّما يكمن في غياب ما يُسمّى بـ”العقل النقدي”، فالمباركة في صيغتها اللاهوتية الدينية كما في صيغتها العلمانية الثورية بقيت أسيرة الزمن التكراري وذلك هو الثابت البنيوي في الفكر الديني والأسطوري كما حلله صاحب ديوان “أغاني مهيار الدمشقي” في كتابه “الثابت والمتحوّل” أدونيس، فترى معي أن التمييز المطلق بين الأداء العلمي والأداء الخرافي الأسطوري والشعوذي ليس دائما واضحا ومتميّزا كما ندّعي. ألم يتحدّث “رولان بارط” في كتابه المدوّن منذ الخمسينات عن الميثيولوجيات، أليس غريبا أن يستحيل “البيفتاك” أو “الستاك” أمرا للتأمل السيميولوجي ؟! أليس دالا أن يكتب أحدهم على باب منزله أنّ “صاحب البيت واعر” دون إشارة إلى الكلب بمعنى أن الكلب أقل شراسة من صاحبه ؟ أليس غريبا أن يتمّ مديح الكلاب ضد الكثير من واضعي الثياب في الحضارة العربية ؟ استنتاج مفاجئ. إن كل الحضارات وفق أي صيغة كانت إنما هي : سعي إلى الاقتصاد في تبذير اللذات والآلام. فالشعوذة أو “الشعبذة” كما الكذب أو التكذاب إنما هي صمّام أمان ضدّ كل ما يمكن أن يحتقن في الجسد الفردي أو الاجتماعي، بهذا المعنى تعتبر الكتابة فعلا اقتصاديا في الإجرام ذلك أن المشعوذ كما العرّاف يقوم بوظائف اجتماعية تعويضيّة عن مقام التجّار والمحتكرين والشعراء اللاّسلطويين والروائيين الذين يؤرّخون لرذيلة السائد، ومن هنا نفهم الاحتفاء الرسمي في كل صحافة الوطن العربي والإعلامي بالمخنّث الشعري على حساب الشاعر، وسقراط الموظّف على حساب سقراط النقدي وبالمحقق الصحفي على حساب الروائي، إن لكل علم أو شبه علم شروط إمكان من ذلك مثلا أن العرب منعت الكذب على سائر الخلق إذا لم تتوفّر لديهم شروط الكذابة، وقد تمّت صياغة هذا المبدأ الابستيمولوجي المعرفي وفق الأداء التالي : “إذا كنت كذوبا فكن ذكورا”، معنى ذلك أنّه ليس بإمكان أي كان أن يكون كاذبا، لابدّ أن تتوفّر لديك ذاكرة فيل كما يقول الفرنسيون أو حقد الجمال كما يقول العرب.

أمّا وقد انتقلنا من المطلق والإيمان بالمطلق الديني والحضاري والذاتي فإننا نعيش زمن المخنّث، مخنّث الذاكرة كما صاغه “سورين كيرغارد” وفق ما سمّاه “كوجيتو الندم” : » تزوّج فإنك ستندم، ولا تتزوّج فإنك ستندم، وأحب فإنّك ستندم، ولا تحبّ فإنّك ستندم، كن مقداما وستندم، لتكن جبانا وستندم«. هذا الكوجيتو إنّما هو ضدّ كوجيتو الصلابة الديكارتي الذي كان قد فتّته أوّل من فتّته، ليس فيلسوفا ولا مؤرّخا ولا روائيا إنما هو شاعر : رامبو صاحب “فصول في الجحيم” حينما أعلن كوجيتو مضادا » إنّ الأنا آخر « : » ملعون أنا الآن ومرتعب من الوطن «.
ألا ترى معي أنّ الشعوذة آتية من الإدّعاء، إدّعاء أنه بالإمكان القبض على الإنسان بتواريخه وجغرافياته وفق منطق واحد وحيد أوحد كما تفعل الآن وهنا أمريكا التي تريد لنا أن نعيشها كميتافيزيقا.

 هل يمكن أن نفلسف اليومي ؟
 إنّ عبارة “اليومي” سيّئة الذكر على أقل تقدير من منظور الفيلسوف الألماني “هيجل” ذلك أنه قد أدان جبروت اليومي والحاجات اليومية وما تستلزمه مزاولة الوجود اليومي من تصريف طاقات ذهنيّة في المسائل الساذجة والسطحية كما يسمّيها وطلب في زمنه تحيّة العصر الذي عاد فيه الفكر إلى ذاته بعد تشرّده الطويل سواء في الطبيعة أو في مسائل الحياة اليومية لأن زمن هيجل قد أعاد الفكر إلى ذاته فعلا. غير أن الملاحظة الهيجلية لا تنفي اهتمام الفلسفات المختلفة بصيغة مباشرة أو بطريقة سريّة بالمعنى اليومي، يكفي فقط أن نتذكّر النقد الذي وجّهه نيتشه مثلا إلى خصائص حياة الألمان أو حياة الإنقليز لندرك أن اليومي بتفاصيله يمكن أن يكون مادة غزيرة لفعل التفلسف إذا ما حدّدنا التفلسف على أنه فعل “تعقل” و”تصريف طاقات ذهنية” لاكتشاف “الجوهري” وراء “العرضي”، بهذا المعنى سواء أكان الفيلسوف “غروبي” الظهور والولادة كما لدى هيجل الذي يعتبر أن الفيلسوف يأتي دائما متأخّرا وشبّهه بالطائر الليلي إذ يخاطب طلبته في واحدة من أشهر محاضراته وفق الصياغة التالية : » … عندما تنهار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والحضارية يظهر الفيلسوف مدققا النظر باحثا في الأسباب التي جعلت الأوضاع تؤول إلى ما آلت إليه «.

غير أن هذه الفلسفة التي تأتي دائما متأخّرة يمكن لها أن تكون فجريّة الولادة كما لدى نيتشه وأكثر من ذلك أنها تسبق عصرها بزمن ويمكن أن يكون هذا الزمن عشرون سنة أو نصف قرن أو حتى قرنا بأكمله. ألم يؤكّد نيتشه (توفي سنة 1900) على أنه “دينامية العصور” وإنّه إنّما يكتب لقارئ لم يولد بعد ويكفي أن نقرأ أخبار وأنباء الإهمال التي عرفتها الكثير من الكتب من قبل معاصريها كما شأن كتاب “ما وراء الخير والشرّ” الذي طبعه نيتشه على نفقته وأخذ يتوسل بعض معاصريه طالبا منهم مجرّد قراءته وهو ما لم يتمّ إلى حدّ أنه استعاد نرجسيته وجمع أمره معلنا أنه لا يكتب لمجايليه متسائلا بطريقة ساخرة مغرقة وجعا وفرحـا » لما أنا أكتب كتبا جميلة ؟ « فكأنّ قبح المعاملة إنما هو الذي جعله يدرك فعلا سرّ تلك الشعرية العالية والرهافة الاستثنائية والجمال الفاحش أيضا الذي يكتب به صاحب كتاب “هكذا تكلّم زرادشت”.

صحيح أن اليومي لم يكن مركز اهتمام رئيس في المتداول الفلسفي غير أنه باطنيا لم يكن الأمر كذلك، لنأخذ مثالا عربيا : ابن رشد، عندما كتب “فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من اتصال”، ألم يكن مغرقا في اليومي ذلك أن مسألة الكفر والإيمان البتّ فيها يمكن أن يذهب بالرأس، فقضايا الفقه الديني أو العقل والشريعة لم تكن ترفا فكريا وفائضا ثقافيا. والملاحظ في الفلسفة المعاصرة أنها قد تغذت من ضروب علوم الاجتماع والميديولوجيا فأصبحت أكثر إصغاء لها يعتمل في الشوارع والحجرات الخلفيّة للمجتمعات الإنسانية وقد يعود الفضل في ذلك إلى الفلسفة الماركسيّة لما أعلنت انخراطها الفعلي باعتبارها أداة للثورة والتنوير ومحاربة الوعي المزيّف.

قد يكون “نقد الفكر اليومي” لمهدي عامل من أكثر المحاولات إصغاء لما يعتمل في الحياة اليوميّة.
 رأى القديس أوغسطين أن القبح في الوجود هو الاستثناء هل توافقه هذا الرأي ؟ كيف يرى سليم دولة العالم ؟ هل تعيش الحبّ والجمال ؟!
 إنّ الحديث عن الحبّ تماما كما الحديث عن الحرب والصداقة والغيريّة والأنانية إنما هو حديث يتنزّل فعلا في المشاغل الفعلية للفلاسفة وعلماء الاجتماع وقرّاء الكف كما الاعتناء بالموت وتجربة المحو، “فأنْ تحب وتفعل ما شئت” وفقا للبلاغ الذي أكّده “سانت أوغسطين” يدعونا إلى أن نتخلّص فعلا ولو إلى حين من طوفان اليومي ذلك الذي يمنعنا من رسم مسافة نقدية بيننا وبين تضاعيف وطيات حياتنا ذلك أنّ كل ما يحيط بنا يدعونا فعلا وبشكل اغتصابي بألا نفكّر بأنفسنا إذ كل الأصوات تدعوك إلى ألاّ تفكّر لأنه دائما ثمّة من يكفّر لك وعوضا عنك. فالتفكير بالنيابة إنما هو السائد خاصة في حضارة الصورة وفائض الإعلام وفائض الإعلان وغوايات و”دونجوانيات” البضاعة. غير أنّ التأمل النقدي بين لنا أن كل المنعطفات الحضارية الكبرى كالتي نعيش إنما قد طرقت فيها خمس قضايا لا أكثر : قضية الحبّ وقضيّة الحرب وقضية الموت وقضيّة الصداقة وقضية الحرية. ويكفي فقط أن نستحضر اللحظة اليونانية لندرك أنّ الفلاسفة الكبار كما أفلاطون مثلا قد طرح مسألة الحبّ في “محاورة المأدبة” وقضية السلطة والعدالة وتدبير الشأن السياسي في “الجمهورية” مثلا. أما إذا انتقلنا إلى الحضارة العربية يكفي فقط أن نستحضر مدونات مثل “تزيين الأسواق بأخبار مصارع العشاق” للسرّاج وكل المدونات التي تناسلت منه. أليس دالا أن يركز التوحيدي على معضلة “الصداقة والصديق” ؟ ألم يكتب ابن حزم آخر كتاب موسوم بعنوان دال “الأخلاق والسير أو مداواة النفوس”. فكلّ منعطف حضاري يستلزم إذن تصفية الحسابات على جميع مستويات الحضارة اعتصارا “لتجارب الأمم” سعيا منها لتحويل رأسمالها الرّمزي والمتمثل في العبر للأجيال اللاحقة، فالحب في أبسط تعريفاته وإن كان : “حالة من حالات الموت” عند العرب فيكفي أن نطلع على شهادة ستندال الفرنسي في كتابه “فن الهوى” لندرك مدى تقريض سنتدال للعرب وللشعراء الصعاليك وإدانته الصارخة ضد ما أطلق عليه “بربريّة العالم الغربي” دفاعا عن حاضن التاريخ البشري وهو الشرق. فبإمكاننا تعريف الحب كما الصداقة وفق الصياغة التالية : إنما هو تقاسم لجميع أشكال اللذات والآلام ؛ في حين أن كل فائض حديث عن الحب كما كل فائض حديث عن العدل والديمقراطية إلى غير ذلك من حقوق إنما هو تكتّم على جميع أشكال الكراهيّة والظلم ؛ والذي يعني وضع الشيء في غير موضعه والانحدار بالإنسانية إلى ما دون المرتبة الحيوانية، فالمطالبة بحق “الشجرة” و”الحيوان” و”الإنسان” كما ورد في كتاب الفرنسي لوك فيري فإنّه يعني أساسا المطالبة بالحقوق الحيوانية للكائن الإنساني قبل التبجّح بالحديث عن حقوق الإنسان. إن أمر الحب لا يستقيم والحديث عنه يظلّ كلاما رومانسيا إذا لم تتوفّر شروط إمكان الحب فقد قـال أوفيد : » إن الفقر لا يملك ما به يغذي الحبّ «. كما يقول متداولنا اليومي : » اللي ما عندوش فلوس لا يعنّق ولا يبوس «.
فترى أشكال القبح إنما تتمثل في أن يضطرّ الواحد أو الواحدة منا إلى بيع الحميمي منه سواء ذهنه – عقله – أو جسده أو وطنه أو أمّته أو المتاجرة بتاريخه.
 تمضي أعمالك دائما بـ”الكاتب الحر” هل تشعر فعلا أنّك حرّ أم تفعل هذا قبيل التمنّي ؟!
 إنّي مصرّ، منذ زمان، على أن أمضي باسم “الكاتب الحرّ” ليس فيما أكتب فقط في الصحافة وإنما في تبادل رسائل بيني وبين بعض الكتاب العرب وكلمة الحرية في العربية تحيل على سجلّ الحميمية والحرارة. وقبل العمل على تأسيس ما أسميناه “رابطة الكتّاب الأحرار” كنت دائما مصرّا على أن يكون للكاتب أو الشاعر أو الروائي… أو السينمائي أو الصحفي، مسافة نقدية بينه وبين الثقافة السائدة التي تريد أن تبرّر بها السلطة وجودها كائنة ما كانت سواء ثورية أو رجعيّة فإنه يتوجّب من جهة “ايتيقا الكتابة” أن يعبّر الكاتب أو الشاعر، ليس بالضرورة عن مناطق القوّة والازدهار في مجتمعه وثقافته لأن تلك مهنة مهرّجي السلطان منذ زمان لذلك ربّما نفهم لماذا ورد في الأثر » أحثوا التراب في وجوه المدّاحين « فالكاتب أو الشاعر أو الروائي، في ذهني على أقل تقدير، هو من يعبّر بجمالية عالية عن أكثر المواطن رهافة وأكثر اللحظات هشاشة لديه لذلك غالبا ما يتمّ اكتشاف الكتاب الحقيقيين والشعراء الحقيقيّين بعد فوات الأوان، ونموذج المتنبّي لا يجب أن يحجب عنّا الأمثلة المتعدّدة، وفعلا المتنبّي استثناء لأنه كتب “المطلق الذاتي” وتماهت لديه تجربة الذات الفردية بـ”المطلق الحضاري” فإن مدح فإنه لم يمدح سواه وإن هجا فإنه لم يهج سواه فكافورا أو “كويفير” إنما هو جزء من ذاته وإن رثى أمّه فهو في الحقيقة يرثي أمّته، لذا ترى أن في المتنبّي يحضر الشاعر والفيلسوف والمؤرّخ وحتى مهرّج السلطان أحيانا. إنّي لأستغرب كيف يسخر بعض الكتاب الرسميين تحديدا من مجرّد تسمية “الكتّاب الأحرار” دون أن يحتجّوا على ما يسمّى بـ”المعاهد الحرّة” و”الجامعات الحرّة” و”الاقتصاد الحرّ” و”التزييف الحرّ للانتخابات”… إلى غير ذلك من متواليات القبح المعمّم، من سوء حظّهم أنّي من مجايليهم وأعرف ماضيهم كما حاضرهم تماما، أكثرهم أصيبوا بـ”العجز المدرسي” وسقطوا في أول امتحان نقدي على المستوى الثقافي إذ هم عينهم، أنفسهم، إيّاهم، الذين كانوا سببا حقيقيا في تدهور الأوضاع الثقافية والسياسة. إذ كانوا شهود زور من ذلك أنّهم يكتبون عن “تونس الحب” و”تونس الياسمين” في لحظة كانت تونس فيها تسير نحو المجهول، مطلق المجهول، ولما يسقط هذا الوزير أو ذاك والذي كان سندهم السرّي ينصرفون هارعين إلى الله بأدعية غالبا ما لا تُجاب. ثمّ لما تختلّ الموازين لغير صالحهم يلبدون ممارسين كل ضروب التقيّة من أجل تغيير جلودهم ليظهروا على “الخلق” بـ”استراتيجيات” و”تنميقات” تتعلّق بالخطاب الرسمي لرأس السلطة، هكذا، نعم هكذا، يفعل بعض الخلق الشعري، إن أكبر تشبيه لهم وإن كانوا سينسبون إلى الشعراء إنما هم من سلالة الذين اضطهدوا الشابي “وأتحدّى أي صحيفة تونسية” أن تنشر بيت الشابي كاملا والذي يندّد فيه بالتعسّف والظلم وهو التالي :

لا عدل إلاّ إذا تعادلت القوى *** وتصادم الإرهاب بالإرهاب

وإنّهم سلالة الذين شرّدوا بن خلدون ليهرب لاجئا إلى الجزائر وهم سلالة من اضطهد الطاهر الحداد وامتنع حتى عن السير في جنازته، وهنا أصل المفارقة، امتداد الفكر الخلدوني وامتداد الفكر التنويري وامتداد الخيال الشعري فيقع تطويعهم من قبل أعداء فكر التحرير التنوير. فأن تكون كاتبا حرّا يعني ألا تبيع قلمك لأيّ كائن من كان : حزبا أو منتظما مهنيّا أو جماعة في مقام القطيع البشري وأن تكون حرّا هو أن تتوفّر على احتياطي من الشجاعة لتعترف حتّى لخصمك بفضائله، وبالمناسبة فإنّي أدعو إلى تكوين منتظم للكتّاب العرب الأحرار وأقصد اللاحكوميين ليتدبّروا أمر الدفاع عن حقوقهم في التعبير عن ذواتهم وعن آمال وآلام أمتهم بعيدا عن تدابير أصحاب “الجاه والتجلّة”.

 هل يمكن الحديث عن عبوديّة حديثة ؟!
 إذ كانت العبودية إنما هي النقيض الموضوعي لكل ضروب الحريّة واستدعاء لأنماط البربرية بأكثر بشاعة وقبحا، فإننا نعيش في الراهن الحضاري أكثر أشكال الاغتراب والبربريات عنفا إلى حدّ أنه ثمّة من يتحدّث عن “القدر التكنولوجي”. فإذا كان الاستعباد فيما مضى إنما يتمّ باسم مطلق ما من المطلقات كما الأمر بالنسبة للتنوير والتقدّم والثورة فقد أنتجت كلّها ظلالا تسعى إلى مقاومتها واقتحامها، ألم يتمّ الاستعمار في صيغته التقليدية باسم التنوير ؟!

أليس كل استعمار يتقدم بأقنعة إيديولوجية يسمّيها “المهمة التحضّرية” وتتمثل هذه المهمّة في الارتقاء وفقا “للعقل الغزوي الاستعماري الاستعبادي” الارتقاء بالكائنات الأقرب ما تكون إلى حالة الطبيعة إلى مستوى ما سمّته بالحضاري، والاستعباد الجديد إنما يتمّ بأرقى ما أنتج العقل السياسي من قيم وهي الديمقراطية والحقوق والتسامح والحق في الاختلاف، فسواء كانت الفلسفة بحثا جينيالوجيا كما لدى نيتشه أو حفرا أركيولوجيا كما لدى فوكو أو فعلا تفكيكيا كما لدى داريدا فإنّها في أعمق أعماقها محاولة لتشخيص مقام الإنسان بما هو كائن مفارقات ينتج السلطة والسلطة المضادّة ويطلب النظام وإن كان يستنبت الفوضى وينشد الديمقراطية والحريّة بأكثر الأشكال مطابقة للعبوديّة، أليس تدبير التاريخ والتلاعب بالجغرافيات ومراقبة الانفجارات الديمغرافية أكثر العناوين تسمية للعبودية والعبودية المقنّعة فأن تكون عبدا أو في مقام العبد هو أن تكون عاجزا عن قول “أنا” أو “نحن” دون أن تشعر بتشقق داخل “أناكَ” العميق كما ينبّهنا إلى ذلك فوكو بعد فيلسوف القشعريرة والألم والندم : سورين كيرغارد.
 أين المرأة منك ؟!
 أنا “عاشق سيء الحظّ”، يمكن لقلبك أن يحبّ، بمعنى ينبسط لكائن أنثوي جميل غير أن شروط إمكان الحب إنّما هي التي تعوزك، ولا أظنّ أنه يوجد كاتب أو شاعر سعيد الحظ لدينا نحن العرب، ألم نقل إنّ الحبّ هو حالة من حالات الموت. حتى المرأة التي أحببتها وأنا أطوف في عمر النبوّة قد أفسد عليّ الأمريكان وحلفاؤهم الأنقليز محبّتها، إنّها في بغداد ولا أعلم عنها شيئا. لذا ترى أنّي لست على أحسن حال، فعلا إنّي لست متماسكا، وأنا دائما أرفع معنوياتي فأجيب عند “الوشحلة” (آش حالك ؟) بأنّي متماسك. وعليك أن تفهم نقيض ذلك تماما لأنّي في حالة شتات روحي. هل ثمّة كاتب ليس بكّاء آخر الليل وغالبا ما يقتصد في دموعه ليصرفها مع كتاباته الليليّة ويكفيه فقط أن يقرأ لشاعر عربي موجوع من هذا البلد أو ذاك ليقول لنفسه : » لا عليك، لست في الميدان وحدك «. يقول الإنقليزي ميلتون : » وطننا أن نكون في أحسن حال «. وأنا على كل حال ومن أعرف من الكتّاب والقرّاء والمبدعين الأحرار ليسوا على كل حال في أحسن حال.
 يعرّف شبنهاور الإنسان بالحيوان الميتافيزيقي، وتحدّثت سابقا عن كوننا نعيش أمريكا كميتافيزيقا، ألا تقودنا هذه المعادلة إلى كوننا نعيش عصر الإنسان كائنا أمريكيا باعتباره الكائن الوحيد الـذي يمارس إنسانيته وربّما حتى حيوانيّته ؟!!
 سبق لـ”اندري مالرو” أن نبّهنا بحذق استثنائي أن القرن الواحد والعشرين لن يكون غير “قرن ديني”. هل كان مالرو يقصد بأن القرن 21 سيشهد ما يسمّى “عودة المكبوت” اللاهوتي والديني والسحري والأسطوري والخرافي بفعل انتصار العقل الأدواتي وانكسار العقل النقدي بمطلب النجاعة والعلمنة ؟ هل كان يقصد ببساطة مطلقة ثأر العقل الإيماني ضدّ ورثة العقل التنويري العقلاني ؟ ما يعنيني من هذه الملاحظة أن الزمن الذي نعيش حقا، إنما هو زمن عودة المكبوت المركّب والمرعب، عودة الاستعمار بأقنعة مختلفة وعودة النزوع الإيماني والأسطوري والخرافي بصيغ متعددة وهو ما يستلزم تشخيصا حقيقيا كان نيتشه قد نبّهنا إليه، إذ يجب أن تضاف إلى الإنسان المعاصر عين أخرى وأذن أخرى ومقدرة على التلمّس تكون قادرة على رؤية ما نشاهده ولا نقدر “على معرفته” وذلك لافتقار بصرنا للبصيرة والإصغاء لما يعتمل في شوارع ومنعطفات مدننا، وحتى في غياهب صحارينا إذ أنّ أذننا لم تعد قادرة على التمييز بين أصوات الغواية وأصوات الاستصراخ. لم نعد ندرك من حضارة “وا حرّ قلباه” غير ما نؤثّث به ذواتنا “الآن وهنا”، فمررنا فعلا من حضارة السورة والآية إلى حضارة الصورة والآلة والعلامة الرقمية فحلّ المصرفي محلّ الواعظ الديني وحلّ الكوني محلّ الجهوي إذ تمّ العبور من إدانة السوق والحضارة السوقيّة إلى مدح الهويّات البنكية وكل ما يستلزم ذلك من تراجع قيمة الذات الإنسانية وعلاقات القرابة إلى منظومة المصالح البنكية والمردودية ؛ فالديانات جميعها إنما هي ضروب احتجاج ضد الطاغي المالي. إن مارسيا إلياد الباحث والروائي الروماني الاستثنائي كان قد أكّد في آخر حوار أجري معه على ضرورة التمييز بين المضمون والبنية – كما بيّنا سابقا – مضمون الفكر الديني وبنية الفكر الديني، ذلك أن مضمون الفكر الديني يمكن أن يتراجع وأن يختفي بينما بنية الفكر الديني تظلّ حاضرة في أكثر المنتجات التقنية والتكنولوجية والعلمية تطوّرا وفي مؤسسات الحداثة. فعندما أقول إننا نعيش “أمريكا كميتافيزيقا” يعني أننا نعيشها بطريقة سحرية كما لو أنّها إلاها جديدا نطلب منه العون والبركة ونتلافى بطشه ذلك أنّ كل ديانة تستلزم رسالة وقساوسة وكهّانا وعالما معمورا ومخروبا، أبيض أو أسود، ليس مهمّا، إنما المهمّ هو بُعد القداسة وشطر العالم إلى “مؤمنين” و”كافرين” إلى “مسيحيين” و”مسيحيين دجّالين” وإلى “حزب أشرار” و”حزب أخيار” فترى أن أمريكا إنما هي حاضنة كل أشكال اللّقاطة ضدّ العراقة.
 في ذات الوقت الذي عرفت فيه بعض مؤلفاتك سطوا فنشرت عدة مرّات دون إذنٍ منك تعاني مؤلفاتك الأخرى من عمليات إسكات ومطاردة. أيّهما أخطر السطو أم الرقابة ؟!
 إنّ الرقابة أكثر خطرا علينا والأخطر من ذلك الرقابة الذاتية التي هي نتيجة استبطان لمنغّصات لا تمارسها السلطة السياسية فقط وإنما يمارسها الأصدقاء والعائلة والطلبة أيضا، فترى أنّ عدد المؤلفات الجريئة قليلة جدّا، وإن كان من السهل أن تحوز شهرة عالمية بمجرّد كتيّب أو نصّ روائي سخيف أو تقرير بوليسي في التجسّس على وطنك وتصوغه وفق “ريبورتاج” حول هذه الأقليات أو تلك وتكتبه بلسان غير عربي حتى تفتح “بقرن واحد” قلعة العالم. أمّا أن تمارس النقد المزدوج وأن تصرّ على الكتابة بالعربية فتغضب هذه السلطة أو تلك فانتظر أن يكون حليفك الوحيد هو التناسي والتجاهل والإقصاء المنظّم سعيا إلى ما كنت أشرتُ إليه في كتابي “الجراحات والمدارات…”، استتباب الأمن الفكري، بإمكانك أن تصدّقني عندما أقول لك أنّي لا أخاف وزارة الداخلية والمنتسبين إلى الشرطة الرسميين بقدر ما أخاف من “المثقّفين المزيّفين” غير أنه تستحضرني عبارة لشوبنهاور وهو يتحدّث عن الموت والفقدان : » إنّي على يقين عند موتي سيفتقدني الكثير من الأعداء قبل الأصدقاء «. لماذا ؟ لأنّي أنا الشهادة الفعلية على انبطاحاتهم اليومية والتي يستمدّون منها احتياطي الولاء الذي يتقرّبون به إلى الماسكين بدواليب الشأن الثقافي.
 تحدّثت عن بعض الأسماء التي تعرّضت لـ”كرباج” السلطة نتيجة اختياراتهم الفكرية فصودرت كتبهم واعتقلوا… ألم يتحوّل عدد كبير منهم إلى مثقّفي البلاط، بمعنى أن الكراسي الهزّازة لذّتها لا تقاوم ؟!
 غالبا ما أردّد هذه العبارة “إنّ الكراسي تُصبعُ العقول” بمعنى تُفقدها مناعتها النقدية المكتسبة.
 هل هناك أخطر من المثقّف المرتدّ ؟
 ليس ثمّة أخطر منه : ابن خلدون البلاط، ذلك الذي يجمّل الواقع ويرتق ثوب الحقيقة، ما أجملنا عراة على قارعة التواريخ الحضارية !
 هل تشعر أن هناك حاجة إلى الانتماء : الانتماء لأب أو عائلة، لأمة أو عالم، لفكر أو مؤسسة أو ايديولوجيا ؟ أليس في اللقاطة كل المعنى ؟!
 هو سؤال يتعلّق بالرحم، وإن كان كل فعل انفصال كما نبّهنا إلى ذلك أوتو رانك يحدث رجّة ووجعا يظل مدوّنا كلي الحضور في ساعاتنا البيولوجية النفسيّة من صدمة الولادة حين الخروج من رحم الأم : المكان الرحماني بامتياز، إلى ثاني الصدمات صدمة الخروج من البيت للالتحاق بالمدرسة والمحضن إلى صدمة الخروج من الإعداديات والثانويات إلى الجامعات، إلى آخر الصدمات التي نسعى عادة إلى إرجائها إلى أطول زمن ممكن وأقصد الموت فترى أنّ الاحتماء بمطلق ما إنما تمليه الحاجة إلى الانتماء.

والإنسانية مدينة بتقدّمها وتقهقرها، أيضا، إلى هذه الجدلية فلمّا تمّ المرور من حضارة الشعر إلى حضارة الشريعة – كما سبق أن ذكرنا - هذا الفعل لم يحدث بهذه البساطة. من أجل تغيير مقام حرف واحد -شعر/شريعة- سالت الدماء، ذلك أن المرور من الانتماء القبلي إلى الإنماء العقدي/الديني كان قد أحدث ارتباكا وفراغا في الإطار الإسناد العاطفي لدى العرب وليس من السهل أن يتمّ تغيير علاقات القرابة القديمة (الطين، العصبية، الدم، اللحم…) واستبدالها بعلاقات أرحب وغير مضمونة المردودية (الدين، الشريعة…) فالشعور باليتم إنما هو المرافق الأبدي لكل المبدعين والفاعلين من أخيار وأشرار في الحضارة البشرية ذلك أن اليتيم إنّما يضطرّ إلى أن يجترح لنفسه ما به يحافظ على وجوده لا أسئلة جاهزة كما لا أجوبة جاهزة وهو ما نتبيّنه من هذا الشعور الطاغي بالتصاغر أمام المحيطات الاجتماعية والقوميّة أصلا. وما تمجيد اللقاطة على الطريقة الأمريكية ومديح الزائل والعابر والأدوات أحادية الاستعمال والتجرّؤ على قتل التاريخ ووسم أوروبا بـ”القارة العجوز” ومحاولة محو آثار العراقة من العراق والاعتداء على الذاكرة الجماعية للمنتظم الإنسي إلا محاولة لتدشين مطلق حضاري آخر عاجز على أن يرى وجهه اللقيط في المرآة/الحضارة أمّ قد أضاعته وأب قد تنكّر له/التاريخ.
 أقدم على الانتحار فلاسفة وكتاب وشعراء… ماذا يعني أن ينتحر إنسان ؟ هل هو عصيان للحياة أم للموت ؟ ماذا بين الانتحار والاختيار ؟!
 ثمّة علوم مختلفة تقارب مسألة الانتحار نفسيا واجتماعيا وحضاريا (دوركايم مثلا) كان ألبار كامو A. Camus قد نبّه إلى أن سؤال الأسئلة في الفلسفة إنّما هو “سؤال الانتحار” الذي يفتح على مؤسسة المعنى ذلك أنّ الإنسان وحده الكائن الذي يكدح من أجل أن يفضي على وجوده معنى، وهنا تكمن قوّة الاعتقاد الديني باعتراف أكثر الفلاسفة وسما للدين بأنه منوّمات ومخدّرات كما يقول فرويد في كتابه “مستقبل الوهم” أو أنه “نسق من الفضاعات” كما يقول نيتشه أو أنه “كحول” كما يقول لينين أو أنّه “أفيون” كما يقول ماركس، بقطع النظر عن القداسة أو اللاّقداسة يظلّ الدين المستجيب للإجابة عن أكثر الأسئلة حرقة وإيلاما، إنّها الأسئلة الميتافيزيقية/الماورائية. تلك التي تقترن تلازما بالأوضاع الاجتماعية من ذلك مثلا أن حالة من حالات الفقر أو الإخفاق العاطفي أو الشعور بالظلم الاجتماعي من شأنها أن تستحيل إلى سؤال وجودي، ثمّة في الانتحار ما هو علامة على اليأس والمتمثّل في انكسار كل العقود الاجتماعية بما توفّره من إشباع عاطفي (العائلة، الأصدقاء، المنتظم المهني، الحب، اللغات) أعتبر أنّ الانتحار مسألة لغة بمعنى تتفيه المقدّس الجماعي والاجتماعي، لذا نميّز، على أقل تقدير، بين ثلاثة أنماط من الانتحار : الانتحار اليأسي والانتحار الانتصاري والانتحار الإداني، إذا كان فعل الانتحار يحيلنا فعلا على فعل “نَحَرَ” بإمكاننا الحديث عن الانتحار القرباني أي ذلك الذي يحوّل جسده بفعل إرادي مفكرّا فيه ومدبّرا إلى بَدَنٍ، بمعنى أنّه يجعل من ذاته مقام البُدُنِ (النوق المسمّنة) للتقرّب بها بفعل نحرها إلى الآلهة. وهنا يأخذ الانتحار طابع الشهادة والاستشهاد، ليس على خلوّ الوجود من المعنى بل هو تكثيف للمعنى فإذا كان السطحي يقرن المعنى بالمرئي، بـ”الكثيف”، الآن وهنا، فإنّ القرباني يؤمن بجاذبيّة “اللطيف” وبأزليته ومدنيّته ضدّ الزائل ومقام الزوائل.
 تقول في “الجراحات…” : “الكتابة احتجاج ضد الشرط : الوضع، الإقامة في العالم والوجود” (ص26) وتقول “يستلزم الإبداع نبذ الاتباع، العصيان والرفض” (ص25). هل تعتبر نفسك رافضا ومتمرّدا بالشكل الكافي ؟
 فعلا لقد قلت هذا الكلام وهو يلزمني والأمر يتطلّب توضيحا بسيطا ومنهجيّا : عندما نريد أن نحكم على ظاهرة أو لحظة تاريخيّة أو حزب سياسي أو أثر جماليّ، لا بدّ لنا من معيار هو في مقام المماسّ يمكّننا من إنتاج حكم ما من الأحكام. كل ما خرجت به من قراءة المتون التراثيّة في النقد الأدبـي يتمثّل في العبارة التالية تقول العرب : » إنّ أردأ الأدب ما كان وسطا « فاستنتجت دون ذكاء أنّ أجمل الأدب بمعنى أنّ أكثر الأدب أدبيّة إنّما هو ذلك الذي يذهب إلى التخوم، إلى القصيّ الأقصى. وكل حكم يراد له أن يسلّط على الأدب باسم أيّ فائض أخلاقي أو سياسي، سيظلّ في نهاية التحليل حكما سياسيّا أو أخلاقيا على هذا الأثر الجمالي أو ذاك. تماما كما نبّهنا أنطونيو غرامشي إلى أنّه مهما كانت قيمة الحكم السياسي على الأثر الجمالي سيظلّ هذا الحكم حكما سياسيّا وليس حكما جماليّا. الأمر نفسه يجعلنا نقْرنُ الأدب بالتمرّد والعصيان والخروج على الوعي الانضباطي والممارسات الانضباطيّة الجارحة وهذا المبدأ يجب فلاحته في كل الوطن العربي الإسلامي باعتباره معيارا لتخليص الوعي الكتابي والأداء الإبداعي عموما من بطش الدستور الاتباعي، لقد عرّف ابن كمّونة الإبداع في كتابه “الجديد في الحكمة” بأنّه “الخروج على الدستور”.
 تحدّثت في “الجراحات…” وفي فصل “المهول في أخبار الإنسان الآكل والإنسان المأكول” تحديدا عن ظاهرة تساقط المقدّس أمام الحاجة بعد أن عرضت أخبارا غريبة عمّا سمّيته بـ”اللحدميّة” هل كف الإنسان، فعلا، عن ممارستها ؟
 عندما تهرم الكلمات وذلك بفعل الخلط أو الفائض الاستعمالي لهذه الكلمة أو تلك فإننا نعيش الفوضى القاطبة، لذلك كانت الثورات الكبرى ولا تزال في جميع المجالات والحضارات إنما هي أساسا مسألة لغة، حتى الثورة الإعلامية والرقمية التي نعيش إنما هي في بنيتها ثورة لغوية، لسانية، سيميولوجية. وليس من سبيل الصدفة الخالصة أن يصف الفيلسوف الفرنسي الراحل لويس ألتوسير الكلمات في الفلسفة مشبّها إياها بالمتفجّرات متسائلا وفق صياغة موحية : » لماذا يتصارع الفلاسفة حول الكلمات ؟ « لأنه بإمكان كلمة ما أن تكوّن إطار الإسناد الرئيس لهذه الرؤية للعالم أو تلك أو الخلفية المعرفية الحاضنة لهذا المشروع الفكري أو ذاك فبإمكاننا أن نعتمد مثالا إجرائيا لضرورة بيداغوجية لا غير، من ذلك كلمة “العصبيّة” أو صراع الطبقات أو “صراع الأجناس” أو “صراع الحضارات” أو “صراع الهمجيات” فعندما نطلب من المؤرّخ الخلدوني أن يتنازل لنا طواعية عن مفهوم العصبية يعني أننا نطلب من ابن خلدون أن يتنازل عن رؤيته للتاريخ وللتأريخ والتمدّن والتوحّش والدولة إذ من المستحيل وقد تنازل لنا صاحب المقدمة عن مفهوم العصبيّة أن يبقى من المعقول تحديد “عمر للدول” فإذا كان ابن خلدون يعتبر أن للدول أعمارا كالتي للبشر فذلك يعني أن مفهوم “الحتمية” يسقط وبذلك تنهار شروط الممارسة النظرية، الأمر نفسه عندما نطلب من الفيلسوف ماركس أن يتنازل عن مفهوم صراع الطبقات. يعني أننا نطلب منه التخلّي عن شرط إمكان “الوعي الثوري” وعندما نطلب من فوكو أن يتنازل عن علاقة التلازم بين المعرفة والسلطة، يعني أننا نطلب منه التخلّي عن تصوّره للفلسفة باعتبارها فعلا أركيولوجيّا وحفريا تماما كما الأمر بالنسبة لتأكيدي الخاص على أهميّة الحاجة، مطلق الحاجة، ومجرّد تأمّل كلمة الحاجة وفق لنسابتها الاشتقاقية ندرك اقترانها بالألم والشوك والإحساس بالحزن والقرف، إذ تقول العرب، كما ورد في كتاب “الملاحن” مثلا لابن دريد الأزدي : » والله ما سألت فلانا حاجة قط والحاجة ضرب من شجر له شوك والجمع حاج « فعندما يبلغك أحدهم بأنه في حاجة إليك يعني ببساطة أن مقامه مقام الواقف على الشوك وهو ما تقوله اللغة الفرنسية اللاتينية إذ نتحدّث وفق اللسان الفرنسي “الحاجة بما هي أمر شائك” مع العلم أنّ الإنسان أكثر الكائنات حاجات والحضارات ليست مجرّد تلبية آلية ميكانيكية للحاجات المادية التي تفرضها تركيبتنا البيوفيزيولوجية إنما تنضاف إلى حاجاته ما يسمّي بالحاجات النفسيّة أو ما يمكن تسميتها بالحاجات الاعتبارية (الاعتراف بنا).

الحضارات تخلق أيضا متوالية من الحاجات الجديدة التي لم تعرفها الحضارات القديمة. لكن يبقى المحرك الرئيس لكل المجتمعات كما الحضارات إنما هو تلبية منظومة الحاجات المعقّدة وإن كان ثمّة في الأزمنة المعاصرة هيمنة مطلقة لما أسماه هربارت ماركوز “الحاجات المزيّفة”. لقد نبّهنا كلود لفي شتراوس صاحب “من العسل إلى الرماد” و”المدارات الحزينة” إلى ما أطلق عليه “مبدأ التباعد” وخلق المفارقة، من ذلك مثلا أن كلّ الطبقات أو الشرائح الفقيرة أو المعوزة يحفزها في سلوكها مبدأ التماهي بالطبقات الأكثر ثراء ووجاهة فإن هذه الطبقات كلّما أحسّت باقتراب الشرائح الهامشيّة منها إلا وأخذت ترسم لها مسافات بينها وبين سواها من الشرائح لتحدّد هويّتها الخصوصية لذلك ندرك خطر علوم السيميولوجيا في فهم الصراعات الباردة والساخنة بين المنتظمات الاجتماعية وبين الحضارات. أمام الحاجة، بما هي عنوان افتقار وشعور بالخواء والفراغ الذي هو رمز التيه، كما تلازم الفقر بالقرف، لا شيء من المقدّس يصمد أمام الحاجة، سواء تعلّق الأمر بالوطن أو تعلّق الأمر بميتافيزيقا الاعتقاد. إذ كم توالت أخبار الذين كفروا باسم إلاههم ليعبروا إلى ميتافيزيقا اعتقاد جديد عملا بمبدإ “المغلوب مولع دائما بالاقتداء بالغالب”.

لقد مارس العرب كما سواهم ما أطلقت عليه “اللحدميّة” (أكل لحم البشر) أو الأنتروبوفاجيا Anthropophagie كما مارسوا الطيوفاجيا (أكل الإنسان للإله) وأغرب ما في الأمر أن ذلك تم في أحيان كثيرة في الشهر المقدّس (رمضان) المهمّ إني اعتمدت وثائقا وكتبا متداولة، غير أنه لم يقع الانتباه إليها من ذلك كتاب “الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة” للفيلسوف والطبيب عبد اللطيف البغدادي الذي يقول :
» …وكثير ما يدعي الآكل أنّ المأكول ولده أو زوجه (…) ورئي مع عجوز صغير تأكله فاعتذرت بأن قالت : إنما هو ولد ابنتي وليس أجنبي (…) ولئن آكله أنا خير من أن يأكلـه غيري «.

ودون أن نكون أذكياء، نتبيّن أنّ زمن الأزمات غالبا ما ترتبك فيها منظومة العلاقات في هذا الاتجاه أو في ذلك الاتجاه المضادّ : علاقات القرابة مع الوطن، مع الله، مع الأمة، مع العالم… » إغاثة الأمة بكشف الغمّة «. وهو من أخطر الوثائق التي تؤرّخ للرذائل بالمعنى النيتشوي للكلمة وأذكر أنه اتصل بي أكثر من قارئ لأنّي أفسدت عليه طعامه لأيام عديدة لما ورد في فصل : “المهول في أخبار الإنسان الآكل والإنسان المأكول” فأي نصّ أكثر وجعا من هذا البلاغ المقريزي : » وانعدم القوت حتى أكل الناس صغار بني آدم من الجوع فكان الأب يأكل لحم ابنه مشويا ومطبوخا والمرأة تأكل ولدها فكان يوجد بين ثياب الرجل أو المرأة كتف صغير أو فخذه أو شيء من لحمه ويدخل بعضهم إلى جاره فيجد القدر على النار (…) فإذا هي لحم طفل وأكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت «.

فترى أنّ أكل اللحم الآدمي وخاصة الأطفال لم يتم من قبل الفقراء فقط وإنما تم في أكابر البيوت وأكثر من ذلك أنهم يعدّونه بالتوابل الجيّدة كما ورد في الأثر واستنتجت عندها أننا فعلا قد خرجنا من مرجعيّة مفعمة بالقداسة “الأقربون أولى بالمعروف” إلى مرجعية يحكمها منطق التعاسة فأن يأكل الأب ابنه مشويا أو مطبوخا وأن يصطاد أكابر البيوت أولاد أفقر البيوت فذلك يعني أن كل الأقنعة قابلة للسقوط في أي مجتمع كان، فتلك “الملائكية” الروسوية – نسبة إلى روسو – أو ما أطلقت عليه بالنظرة السبحانية للعالم، زمن الأزمات، إنّما تتكشّف الإنسانية خلالها على أكثر أبعادها شراسة وجحيمية ويكفي فقط أن نستحضر صورة الإنسان المبنيّة على مفارقات غير قابلة للفهم أصلا سواء في الفلسفات أو الديانات لندرك أنه لو لم يكن في أعماقه “كائن كسل” لما نسب نفسه إلى الفلاحة والعمل، ولو لم يكن حيوانا دوغمائيا لما عرّف نفسه بالانتساب إلى التفلسف والحكمة ونشدان المعرفة كضالّة ولو لم يكن كائن حرب ونزوع دموي لما كان كائن انتساب إلى السلم والتسامح فهو الكائن الوحيد المقبل على التبذير الذاتي بأدواته. من ذلك أنه عوض أن يكون المقدس حاضنا وحافزا لصيانة الذات من التبذير الاعتباطي إن ديمغرافيا أو بيئيا نجده في غفلة عن الوعي النقدي يستحيل إلى عنصر تفتيتي.
إنّ أشكال الانتروبوفاجيا (أكل الإنسان للإنسان) وأشكال الطيوفاجيا (أكل الإنسان للآلهة) لم تختف من الأفق الحضاري إلا لتظهر بأشكال مقنّعة متلازمة مع ضروب أخرى من “الأكل” و”القضم” و”الشدخ” و”التعذيب”. أليس غريبا أن نتحدّث اليوم عن أكل العقل البشري (اللوغوفاجيا) والكوسموفاجيا (أكل الكون بتمامه وكماله) لذلك نفهم ربّما لماذا أصدرت “بيان بغداد السقراطي” موسوما بعنوان فرعي ضدّ “الكوسموفاجيا الأمريكية” على اعتبار أن أمريكا ليست فضاء جغرافيا أو منتظما حضاريا أو لقاحا لفائض من الأجناس وإنما هي ظاهرة حضارية ونمط عيش و”نحلة معاش” فأن تكون انتروبوفاجي السلوك فلا يعني بالضرورة انتماؤك إلى القارة الشابة أو العجوز أو إلى هذه الحضارة العانس أو تلك.
غير أن ما نخافه حقيقة أن تستحيل أمريكا مثلا كميتافيزيقا اعتقاد، كديانة جديدة تستلزم إما الإيمان المطلق بها أو الكفران المطلق بها فنعيش حقا أمريكا كرهاب وخزّان حقيقي للإرهاب التكنولوجي وهو ما تمارسه فعلا، والإرهاب الغذائي وترهيب التاريخي بالإعلان عن نهاية التاريخ وانتحار الجغرافيا وضرورة تدبير شأن الديمغرافيا، المطلوب هو تفكيك أمريكا كميتافيزيقا اعتقاد جديد.
 وصول الفلسفة إلى الحكم في بعض الأقطار العربية (تونس في العهد البورقيبي مثلا) لم يحوّل هذه الدول إلى جمهوريات أفلاطون أو مدن الفارابي الفاضلة، ما الذي حدث ؟ هل خانت الفلسفة تنظيراتها أثناء الممارسة ؟
 إذا كان أفلاطون قد خطط لجمهورية فاضلة يتوجّب فيها على الملوك أن يكونوا فلاسفة أو على الفلاسفة أن يكونوا ملوكا فذلك لا يعني إطلاقا امتلاك شهادة أزلية على أن يصلح الفيلسوف للحكم. وأكثر من ذلك، غالبا ما يقع التفاوت الغريب بين “المحلوم به” نظريا في مجال السياسة من قبل الفلاسفة و”المقدور عليه” فعليا على مستوى الممارسة.
ولنا مثال إجرائي قبل التغيير النوفمبري في تونس كنت أتعمّد تدريس نص لأستاذ الفلسفة الوزير لأعتمده كمثال إجرائي على التفاوت الذي يكاد يكون مربكا بين التنظير والعمل فأن تكتب نصّا ثوريا يطلب من الفرد أن يكون مواطنا بمعنى أن يكون مسؤولا إنّما هو الذي يُسأل من قبل المواطنين وأن يحثّهم على أن يكونوا فاعلين في الأمر العمومي فهذا أمر يمكن أن يكون ممتعا ورائعا وجميلا لأن المسألة مسألة ممارسة نظرية، في حين أن هذا الفيلسوف، الذي يمكن نعته بالديمقراطي إنما يستحيل عدوّا شرسا للديمقراطية الحقيقية إذ يسمح لنفسه بوصف الأساتذة والمعلّمين بأبشع النعوت زمن الأزمات لما كان يمسك بدواليب السياسة، وأكثر من ذلك، لما وصل إلى السلطة عرّف الانفتاح تعريفا ساذجا ينمّ عن صدوره عن بنية ذهنية لا يمكن أن تكون ديمقراطية أصلا. إذ يقول : “الانفتاح هو انفتاح الحزب على ذاته” فكيف يمكن لبنية ذهنية مثل هذه أن تقبل فكرة المعارضة والاختلاف أصلا ؟ تستحضرني عبارة شوبنهاور وهو يتحدّث عن حاجة الواحد منّا إلى الانفتاح على الآخر معتمدا مثال الطبيب، ذلك أن الطبيب يكون قادرا على تشخيص المرض لدى سواه أمّا وإن تعلّق الأمر به هو فإنّه غالبا ما يعرض نفسه على الطبيب، ألم يشبّه نيتشه الفلاسفة بـ”أطبّاء الحضارة”.
 سليم دولة، ترافقك الدولة كالقدر منذ اسمك إلى اسم والدتك. ما هي دولة سليم دولة ؟ هل تحلم بجمهورية يسوسها الفلاسفة أم دولة يسوسها “الملاعين” كما تسمّي بعض الشعراء ؟
 ليس أخطر عليّ من لقبي وقد ترجمت هذا الإحساس في نصّ نثري متسائلا عمّا إذا كان ثمّة من قانون يمنعني من أن أمدح أو أن أتمدّح باسمي وأن أمحو لقبي، إذ أن كلمة “الدولة” اسم مرّة من القوة والزوال ويحيلنا على مرجعيّة التغيّر وهذا خلافا لكل لغات العالم، غير أنه لدينا نحن العرب تقترن بثقل الظل وبالقدامة إذ ثمّة احتقار ضمني متبادل بين الشوارع وبين الماسكين بدواليب السياسة والرئاسة. إذ إن من تعريف الدولة في مخيالنا العربي الإسلامي “الانبساط بالقوّة” مع تلازم الصلابة المكثّفة بقليل من اللين. إذ كما ورد في كتاب “تسهيل النظر وتعجيل الضفر” للماوردي في شكل نصيحة أسداها أصحاب التزوير ومثقفي البلاطات : » لينوا لهم طورا ببسط كرامة وطورا خلّوهم وقوفا على رجل «. فالغائب هو مفهوم الحق والعدل، أغرب ما في الأمر أننا نتحدّث عن التنوير وعن تكريم الإنسان في حين أننا في تعاملنا السياسي لم نخرج عن مرجعيّة الانتظام الحيواني ولغتنا تفضحنا إذ ما معنى الحديث عن الراعي والرعيّة، إن عقلنا السياسي لا يزال مرتهنا زولوجيا Zoologique يعني حيوانيا. إذ بقينا “سقيفيين” على مستوى انتظامنا السياسي تسكننا عقلية الردّة والمنامات أكثر من عقلية الثورات.
 أن نتفلسف هو أن نتدرّب على الموت، هل تدرّبت جيّدا ؟!
 تنسب هذه العبارة إلى أفلاطون ومونتانيو وكارل ياسبارس، لا يجب أن نفهم من الموت حدّه المادي الانتحاري، إن هذه العبارة تُقرن بحكمة مرافقة لها دائما، وغالبا ما سكت عنها وهي تلازم “العقل السليم في الجسم السليم” إن الفيلسوف الجدير بالانتماء إلى “شجرة الحكمة” إنما يجب أن يكون رياضيا جيّدا ومحاربا جيّدا وحتى سكّيرا جيّدا فسقراط لم ير ذات يوم شمولا يترنّح في شوارع أثينا لأنه كان فعلا يشرب الخمرة بحكمة ولم يكن يسمح للخمرة أن تشربه، فترى بهذا المعنى أنّ الفلسفة إنما هي حكمة تساعد على الحياة، ليس مجرّد استعداد للموت، فعلا لقد جعل سبينوزا وبعده فريديريك نيتشه الفلسفة تقنية ومرانا على مزاولة الوجود، وما يعنينا هو أن نميّز بين الفلسفة كممارسة نظرية، ربما تريد أن تغير العالم وبين الفلسفات العملية سليلة الحضارات الشرقية والمتوسطيّة عموما تلك التي تريد من الإنسان أن يكون سيد انفعالاته ومخاوفه وطموحاته ومرتجياته، بهذا المعنى يصبح تغيير الذات الفردية قبل الجماعية هو الشرط الرئيس للثورات وإحداث الانقلابات الحضارية التي تجعل الإنسان جديرا حقا وحقيقة باكتساب أهلية الانتساب إلى الإنسانية الحقّة.
 قلت في كتابك “ما الفلسفة ؟” : » إن ما يدعو المثقف العربي إلى التفلسف أكثر من غيره هو أنه لمّا يشرع في التفلسف بَعْدُ، ذلك أن الفلسفة لا تزال، في ثقافتنا العربية قولا مكبوتا «. ما الذي جعل منها قولا مكبوتا ؟! الدين أم السياسة ؟ أم تكوين العقل العربي ذاته الذي لم يبلغ سنّ الرشد بعدُ حتّى يشتغل ؟! هل مازال العقل العربي عقلا شاعرا ؟!
 غالبا ما نسعى إلى اختزال الأسباب المركّبة في سبب واحد يمطمئن عقلنا المستريح أصلا من مشقّة التفكير والتفكير النقدي، لقد عرّفنا، في سياق سابق، التفلسف بأنه فاعلية نقدية وتصريف ذهني حرّ لتعقل مقام الإنسان الأهلي أو الكوني وأن التفلسف يستلزم ضمان الشرط الرئيس للتفكير وللتخلّص من ضروب الدغمائية والبحث عن مطلب الحقيقة بمعزل عن سلطة هذا المقدس أو ذاك، بينما حياتنا العربية الإسلامية كلّها “مسيّجة” بالذهنيات الاستعبادية والاستبدادية مضافا إليها خزّان النفاق الذي نمارسه بفضل ذهنيات “التقيّة” و”استرماستر الله” و”إذا عصيتم فاستتروا” فغدت حياتنا الثقافية، العاطفية والذهنية بمثابة متوالية من ضروب التّقيّة واغتيال المحسوس به والمرغوب فيه فازدهرت أشكال التراجعات والانكسارات والسبب فعلا إنما هو جاهزية مكتسبة بفضل قرون من الاستقالة العقلية، فنرى أن مقام الفلسفة، مقام المغضوب عليه من قبل هذه السلطة السياسية أو تلك وإن كان ثمّة جامعات وجمعيات فلسفيّة وندوات دوريّة فهي لا تزيد عن كونها عناوين وجاهة تقوم مقام الواجهة الحضارية لا غير، هذا لا ينفي وجود الآحاد من المفكّرين الذين بايعوا العلم والمعرفة، بحياتهم خارج أطر المقدّس السلطوي أو الديني وبعيدا عن الوجاهات الاجتماعية، فأن تكون فيلسوفا في فضائنا الحضاري هو أن تنسب في نهاية التحليل إلى الكفر والتزوير والزندقة، إلى غير ذلك من ضروب “التكريم المضادّ”، فما ينتشر حاليّا في أكثر الجامعات العربية الإسلامية إنما هي صورة “فيلسوف الزور والبهرج” وفق لغة الفارابي، أولئك الذين يتكلّمون حيث لا يجب الكلام ويصمتون حين يتوجّب الكلام. لذلك هم “فلاسفة تزوير وتبرير” فلاسفة تمشهدٍ وخونة سقراط الحقيقي يدسّون رؤوسهم في زمن المحن الذي يمرّ به الوطن أو الأمة، يدسّون رؤوسهم في “الأشياء في ذاتها” وفق عبارة كانط، أو يراقصون “الوثبة الحيويّة” وفق عبارة برغسون للحصول على وجاهة جامعيّة تجعلهم أكثر أمية وخطرا من أي شكل من أشكال الآفات الاجتماعية، إذ لا يكتفون فقط لتبرير استقالتهم بتعلّة تعالي المزيّف الفلسفي على الشارع، إنهم فعلا أحفاد أفلاطون الذي سيظلّ مدينا دائما للعسكري أكاداميكوس الذي أهداه فضاء يليق بسجن الفيلسوف.

كم نحن في حاجة إلى “سقرطة” الفلسفة من جديد كما يسعى أحفاد ديكارت ورامبو ومونتسكيو إلى ممارستها في فرنسا بفتح المغلق الأكاديمي على الساحات العامة مجال التداول الفلسفي الحقيقي، أليس بإمكاننا أن نجعل من الفضائيات تقوم مقام “الأكورا” كما لدى اليونان القديم ؟!
 قدّمت بعض المجاميع الشعرية، هل تعتبر تلك المقدمات نقدا أدبيا أم قراءات فلسفية ؟
 لا هذا ولا تلك، ذلك أنّ مثل هذا السؤال يقودنا إلى مسألة الفصل بين الشعر والفلسفة، تماما كما الفصل بين السرد والشعر أو بين العقل والجنون، لم أقدّم كثيرا من الدواوين، وهذا اختيار منّي رغم ما يسببه ذلك لي من حرج وتوعّك عاطفي أحيانا. إنّ ما قمت به مع “مدوّنة الملاعين الطيّبين” أو مع “سنوات بلا سبب” للعراقي علي حبش او مع ديوان “أشياء ضدّ بياض الحرف” لجمال الدين حشاد… إلخ إنّ ما قمت به يمكن اعتباره تواطؤا حبريّا لا غير، يقوم مقام العقْدِ بيني وبين من يعنيني أمرهم في الساحة الثقافية وإن كان هذا التواطؤ الحبري ليس بريئا، من ذلك مثلا عندما زرت بغداد أول مرة (99/2000) وتعرّفت على علي حبش، أصررت على أن يكون أول ديوان له يتمّ نشره في تونس، سعيا مني إلى فكّ الحصار الثقافي عن مثل هذا الشاعر وكان في هذا الفعل رسالة، أيضا، إلى بعض “الخلق الثقافي” الذي كان يزور بغداد طوال سنوات دون أن يفكّروا في نشر ولو ديوان واحد لشعراء غير رسميين وعاجزين عن إيصال نصوصهم فكان أن قمت بنشر هذا الديوان رغم الألم والتعب، تكثيفا لعلاقة محبّة صادقة بيننا بعيدة كل البعد عن المجاملات الساذجة والتحالفات المؤقّتة، لقد أحببت ولازلت أحبّ قصائد علي حبش وإن كان لابدّ أن أفعلها ثانية فقد فعلتها فعلا مع نصوص استثنائية للشاعر الكبير سلمان داود تحمل عنوانا مغرقا في السخرية “ازدهارات المفعول به”.
 تسلّل كثير من المهتمين بالفلسفة إلى الجنس الروائي، نذكر منهم : بن سالم حميش وعبد الله العروي.. بينما اتجهت أنت إلى الشعر، هذا الجنس الذي اعتبره بعضهم يعدّ أنفاسه الأخيرة، هل هذا شكل من أشكال التحدّي أم الانتحار ؟ أم هي الصحراء بلعنتها ؟!!
 إن الزمن الحضاري الذي نعيش إنما هو “زمن المخنّث” وهلامي الجنس والهويّة لذلك ليس ثمة أخطر على الفكر العميق والحر وعلى ضروب الأداء الفني والجمالي من الديمقراطية المزيّفة وعلى الطريقة العربية الإسلامية تحديدا والملقّحة أمريكيّا. هذا الأمر لا يعنيني، إذ أصبحت أحسّ بفائض من القرف من الحديث عن الأجناس الأدبية وفعل التجنيس، بإمكاني اعتبار الرواية الفضاء الحاضن لجميع ضروب الأداء الكتابي الأخرى على الإطلاق، فهي قادرة على تحويل الشخوص المرئية والمعروفة اجتماعيّا إلى شخصيات تماما كما يمكن اعتبارها إطار الإسناد الأساس الذي يمكن له أن يمكّن الذات الكاتبة من الدفاع عن حماقاتها وأخطائها وأن تؤرّخ لانتصاراتها وانكساراتها ورذائلها لذلك نفهم ربّما سرّ جاذبية الرواية وإن كانت نصّا بليدا أحاديّ الصوت ومرتبك العبارة غير أنه على أقل تقدير من زاوية علم الاجتماع الأدبي يظل النص الروائي فعل احتجاج ضد جميع إشكال الاغتصاب فحتى ذلك الذي يريد أن يغتصب الجنس الروائي بجهله المطلق لأبسط قواعد الأداء الكتابي النثري تبقى رغبة الكتابة في حدّ ذاتها موضوع تأمّل من زاوية علم الاجتماع الأدبي، فكيف تتحدّث عن موت الشعر ؟ فهذا خبر آخر من الأخبار الجنائزية، من يمكن أن يكون قد أعلن هذا النبأ ؟ أي إله مخفي بعث بهذه الرسالة لنبي مجهول ؟ ينضاف هذا الخبر الجنائزي حول موت الشعر إلى خبر آخر لا يقل جنائزيّة هو “موت الرواية” فإذا تمّ الإعلان عن موت الشعر لصالح الرواية فقد تمّ الإعلان عن موت الرواية لصالح التحقيق الصحفي – كما سبق أن بيّنا – إذ المسألة مغلوطة من الأساس، ذلك أن الإنسان سيظلّ “حيوانا سرديا”، وأن تنظم الشعر ليس بالضرورة أن تتخلّى عن الأداء النثري إذ أنّ هذه أكذوبة “نهارية” أخرى، الشاعر الكبير هو سارد كبير، وتواريخ الملاحم والفتن وامتصاص البنى الأساسية للأساطير والأزمان الكبرى والوصايا النادرة التي يتركها بعض الآحاد من البشر إنما هو الحافز على كتابة نص شعري جدير بالانتماء إلى الأفق الإبداعي. اعطني شاعرا واحدا جديرا بالاحترام الأدبي ليس سرديا كبيرا، أدونيس، درويش، عز الدين المناصرة، وملحمته الجميلة الموسومة بـ”حيزيّة”. وشعر الشذرة في حدّ ذاته، وإن كان يقوم بالأساس على اختزال المكان والزمان والنفس والمعرفة، فإنّه يظلّ واقعة سردية.

ألا تتوفّر كتابات سالم حميش مثلا : “مجنون الحكم”، “محن الفتى زين شامة” و”سماسرة السراب” و”العلاّمة” على شعريّة عالية كما تختزن ذاكرة سرديّة بمتوالية من التّقنيات الروائية الأكثر غنى معرفيّا ومحاورة للمكبوت الحضاري المركّب والمرعب ؟! وقد تكون النصوص الروائية التي يجترحها الفلاسفة الذين ضلّوا طريقهم إلى الرّواية عن قصد أكثر النصوص غرابة وإمتاعا وسرديّة عالية إذ كلّهم بصيغ متنوّعة أحفاد “زوربا” حفيد “نيتشه” ومثال “كازنتزاكي” دالّ على ذلك.
 بماذا تختم هذا الحوار ؟
 سلامي إلى الملسوعين جميعا في الوطن الممتدّ جرحا من الوريد إلى اللغة، يعنيني أن أدوّن بالمداد الدامي على بوّابات العواصم العربيّة ما ورد في الأوراق القديمة، في “أمّ القرى” للكواكبي : “…وهكذا طول الألفة (…) قلب في فكرهم الحقائق، وجعل عندهم المخازي مفاخر ؛ فصاروا يسمون التصاغر أدبا، والتذلل لطفا، والتملّق فصاحة، واللّكنة رزانة، وترك الحقوق سماحة، وقبول الإهانة تواضعا، والرّضاء بالظلم طاعة. كما يسمّون دعوى الاستحقاق غرورا، والخروج عن الشأن الذاتي فضولا، ومدّ النظر إلى الغد أملا، والإقدام تهوّرا، والحمية حماقة، والشّهامة شراسة، وحريّة القول وقاحة، وحبّ الوطن جنونا”.


مشاركة منتدى

  • (أعطني شاعرا واحدا جديرا بالاحترام الأدبي ليس (سرديا كبيرا )... أدونيس - محمود درويش- عزالدين المناصرة وملحمته الجميلة الموسومة ب حيزية )... التوقيع: الفيلسوف التونسي سليم دولة.
     خلاصة هذا القول السليم لسليم دولة تؤكد أهمية ( الشعر والسرد ) اذا اجتمعا.. والأهم هو ذلك الانشاد العبقري المنصوري ( الطريقة الاحتفالية الطقوسية ) التي أنشد بها الشاعر الفلسطيني المناصرة قصيدته ( حيزية: عاشقة من رذاذ الواحات) التي أعجب بها (سليم دولة) حين سمعها في تونس العاصمة في ديسمبر 1990 أثناء ( مهرجان الشعر العربي).

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى