

الكاتب والسجّان
لم أحمل البُندقية يومًا، ولم أرمِ بالحجارة على دبابات العدو كما يفعل الأطفال عادةً، ذلك لأنني كنت منذ الصِغر ضعيفا هزيل الجسم، لا أقوَ على أي جُهد بدني، وكان شعور الخزي ينهشني وأنا أسمع أخبار اعتقال من هم في سنّي، ومقتل من هم حتى أصغر منّي، دفاعا عن قضية التحرير. فكنت أقضي وقتي في البحث عن المؤونة من طعام وشراب إذا كنّا في حالة حربٍ، أو في قراءة ما كتبه الثائرون على الصُحف والمجلّات، إذا ما كان الوضع سِلما كما حسِبناه.
لكن شعور الخذلان لم يُفارقني وقد بلغ أشُدّه وأنا ابن العشرين، وكنت حينذاك قد قرأت ما يكفي لأقلام الثُوار والأحرار حتى أُصبح واحدا منهم.
أدركت أن للمُقاومة أشكالًا عدّة، وعليها تتنوّع أسلحتها، فهذا المقلاع لقذف الحِجارة، وهذه البُندقية لطلق النار، وذاك القلم، أقواهم في الميدان، وأشدهم قوّة في ضرب العدو.فلم أتردّد في حمل هذا السلاح وتوجيهه لمُقاومة المُحتل، وكيف لا وهو آخر ما أمكنني حمله، وأقلّ ما أمكنني تقديمه خدمةً للقضية.
كنت أكتب كل ما سنحت لي الفُرصة لذلك، فألّفت القصص القصيرة والقصائد، حتى أزرع فيها أملًا في قلوب أولئك الذين فقدوه، وكتبت المقالات والخطابات، حتى أغرس نزعة ثورية في أولئك الذين تخاذلوا. طُبعت أعمالي بين صفحات مجلّات عدّة، ووسط أسماء مُقاومين ممّن حملوا القلم واتّخذوه سلاحًا مثلي، ومثلما كان لقلمي وقعٌ وصدى بين الأحرار، كان له الأثر الأكبر على المُحتل، والذي عمِل على اغتيال الأدباء أو اعتقالهم، وقد كُنت أنا أحدهم.
ها أنا الآن في زنزانة مُظلمة لا يدخلها نور إلا من نافذة صغيرة عشّشت فيها حمامة أبيضٌ ريشُها، ساكنة لا تسمع فيها إلا صرخات المُعتقلين وهم يُضربون عسى أن ينطقوا بمعلومات قد تنفع المُحتل. على الجدار المقابل للسرير وُضعت طاولة من حديد صدِئ وكُرسي مُتهالك يُصدر صريرا إذا ما حرّكته، وقد كنت أحدّق في تلك الطاولة مُثبّتا عينيّ عليها، لا أرفعهما إلا إذا أحضر السجّان الطعام أو دخل ليتفقدّ الغُرفة.
مرت الأسابيع ولم يتغيّر الحال، نافذة وعُش حمامة، وطاولة وكرسي مُتهالك، ولا شيء يغزو تفكيري سوى حال عائلتي الذي لم أدرِ عنه شيئا، ورغبتي المُلحّة في حمل القلم والخط على الورق.
تساءلت في إحدى الأمسيات وأنا أسمع صوت ضربٍ ممزوجا بصرخات ألمٍ تأتي من بعيد: "لما لم ألقَ نصيبي من ضربٍ مُبرح مثل البقية؟ أم أنهم يُعاملون حملة القلم بطريقة مُختلفة؟".
وبينما أنا أهيم في أفكاري مُحدّقا في الطاولة، دخل السجّان وقد احترت لأمره، فماذا يفعل هنا وقد أحضر الطعام وتفقّد الزنزانة كالعادة قبل حوالي نصف الساعة؟
"لا بُد أنهم قد قرّروا أخيرا إبراحي ضربًا" قُلت في نفسي وأنا أراقب بحرص كفيّ السجّان الفارغتين، فتقدّم ببطء نحو الطاولة، ثم سحب من باطن سُترته العسكرية ورقة بيضاء ووضعها على الطاولة الصّدِئة.
تقدمّت نحو الطاولة بعدما غادر السجّان الزنزانة المُظلمة، فتفقدّت الورقة حتى شعرت أنها تُناديني لأكتب عليها، فتضاربت الأفكار داخل رأسي وهي تحاول إيجاد مكان لها لِتُكتب على تلك الورقة، لكن سُرعان ما انهالت علي الأسئلة من كل جانب والشكّ يملؤُني، فتردّدت وتركت الورقة لحالها.
وبعد ليلة تصارعت فيها مع ذاتي، قرّرت الكتابة ولم أكترث لعواقب الأمر، فجلست مُحدّقا في النافذة الصغيرة بينما أفكر في وسيلة مُمكنة للكتابة، حتى حطّت الحمامة البيضاء في عُشّها تزامنا مع شروق الشمس، فاتّسعت عيناي لفكرةٍ خطرت لي لتوّها.
وقفت على أطراف أصابع قدمّي مُسندا جسدي على الحائط، ثم مددت يديّ ببطء نحو الحمامة، وأحكمت عليها قبضتي، وبحرص شديد مرّرت يديّ من بين القضبان الصدِئة، ثم اقتلعت ريشة من جناح الحمامة ومسحت على رأسها مُعتذرًا، ثم أعدتها لعُشّها في النافذة.
تفقدّت الزنزانة باحثا عن أية أداة حادّة أجرح بها مرفقي، وذلك حتى أصنع من الدم حِبرا أكتب به، لكنني لم أجد، فأخفيت الريشة تحت قميصي البالي، ثم صرخت بأعلى صوتي وأنا أركل باب الزنزانة المعدني بعنف، حتّى سمعت وقع أقدام مُضطربة وهي تقترب نحوي، ثم فُتح الباب ودخل منه السجان مُهددا بهراوته وهو يُلوح بها في الهواء وقال: "اخرس أيها الجُرذ وإلا حطّمت جُمجمتك".
سادت فترة صمت حدّق فيها السجّان في عينيّ وأسنانه تحتكّ من شدّة الغضب، حتى صرخت ثانية مُتجاهلًا تهديده، فانهال علي ضربا بالهراوة وكان كُلما وجّه ضربة نحو رأسي أو بطني أسبقها بسبّ ولعنٍ، ولم أدرِِ إن كان جسمي الضعيف قد يحتمل كل هذا الضرب أم أنني سأموت هنا غرقا في دمائي. وبينما كنت أحاول التقاط أنفاسي، علَا هديل الحمامة خلف قُضبان النافذة وكأنها تستنجد أحدهم ليُخلّصني من قبضة السجّان.
استلقيت على الأرض حوالي نصف الساعة والدم يتدفق كسيل من أنفي وفمي، لكنني استجمعت ما تبقىّ من قواي وحملت جسدي نحو الطاولة، فسحبت ريشتي وغطّست طرفها في قطرات الدم التي تساقطت على الطاولة، فشرعت الكتابة وأنا أسابق الزمن قبل أن يجفّ الدم ويتوقّف النزيف.
كانت الأفكار تتدفّق كسيل مثل قطرات الدم، فكتبت قصيدة ملأت بها الورقة من كِلتا الجِهتين، وقبل أن أشرع في قراءتها مُعلنا نصري، دخل السجان بأنفاس لاهثة، إلا أنه لم يحمل معه هذه المرة هراوته أو أي أداة لضربي، بل مدّ يده للقصيدة ومزّقها بأيدٍ مُرتعشة، ثم غادر الزنزانة وفي يديه ما تبقّى من قصيدتي.
احترت لأمره، فلِما وضع الورقة على الطاولة من الأساس؟ ولما مزّقها بعد أن كتبت ما يجول في خاطري؟
مضى من الوقت ما يُقارب الساعة، وأنا أحدق في الفراغ وأفكر عساني أجد إجابة لهذه المُعضلة، حتى قطع هدوء المكان وقع أقدام السجّان وهو يقترب، فدخل الزنزانة ثم وضع ورقة بيضاء فارغة نفس مكان سابقتها ومضى في طريقه.
شرعت في الكتابة مرة أخرى مُتجاهلا أمر السجّان وقبل أن يتوقف نزيفي، أنهيت قصيدتي الثانية، ثم أخذت أحدّق في باب الزنزانة المعدني مُترقّبا قدُوم السجّان، والذي دخل بعد لحظات قليلة وفعل ما فعله سابقًا، فحاولت منعه، إلا أن الغلبة كانت له ولهراوته.
أدركت ما يُحاولون فعله، فهُم يريدون كسر عزيمتي وصرفي عن الكتابة، فهكذا يُعاقبون الكُتاب، لكن هذا لن يزيدني إلا إصرار ورغبة في مواصلة الكِفاح.
استمرت الأمور على الحال نفسه، أصرخ بأعلى صوتي حتى يُبرحني السجان ضربا بهراوته، ثم أغطّس ريشتي في برك دمائي، وأكتب ما تشكوه نفسي من ألم، وما تصرخ به نزعة الحرية بداخلي، فكتبت قصائد وقصصا كان مصيرها كفُتاتٍ بين كفيّ السجان وهو يُمزّقها مثل كل يومٍ. أما تلك الحمامة البيضاء التي كانت تمُدّني بريشها الأبيض كل هذه الأيام، فكنت أشاركها بعضًا من فُتات الخبز كمردودٍ لمعروفها ومُساندتها لي في مِحنتي.
حاولت إخفاء ما أكتبه قبل قُدوم السجان، تارة تحت قميصي وتارة أخرى في عُش الحمامة، إلا أنه دائما ما كان يكشف مكان القصائد والقصص، فيُمزقها ثم ينهال علي ضربًا. ضاق بي الحال، وخشيت أن يُفلح العدو في قهر إرادتي، لكنني قرّرت تحدّي السجّان غير مُكترث للعواقب، فبعدما أنهيت اليوم كتابة قصيدة أصِف فيها جمال أغصان الزيتون في أرضي، دخل الزنزانة لأداء مهمّته المُعتادة، لكنني مددت يدي قبله ووجّهت الورقة نحو فمي، ثم مضغتها بأسنان غارقة في الدماء بينما كان يُحاول منعي، إلا أنه فشل وانتصرت أنا.
أخذت جزائي من ضربٍ وشتمٍ بأسوأ الألفاظ، إلا أن ذلك لم يزِدني إلا ثباتا وحزما على مواصلة الكفاح، فتضاعف إنتاجي الأدبي وتنوّع، وأصبحت الكتابة والدّماء وريش الحمام ما يُشغلني ويُخدّر ألم السجن، وكنت كلما أنهي ما أكتبه، أحفظه عن ظهر قلب وبِسُرعة قبل قدوم السجّان، ثم أبيت الليل أردّده كوَرَد يومي من القرآن حتى لا أنساه.