الاثنين ٣١ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم عزت السيد أحمد

الكواكبي بين أعلام النهضة العربية

ثَمَّةَ اختلافٌ ليس خارجاً عن طبيعة مثل شأننا هنا في تأريخ النَّهضة العربيَّة، وخاصَّةً فيما يتَّصل بأمر بداية النَّهضة وخاتمة هذه المرحلة. ناهيك فوك ذلك عن كثيرٍ من نقاط الاختلاف في الحكم على التَّصنيف والتَّبويب والإنجازات وحَتَّى قيم ما قدَّمه هذا المفكِّر أَو ذاك من مفكِّري عصر النَّهضة العربيَّة.

هذا الاختلاف هو الطَّبيعيُّ ورُبَّمَا يكون غير ذلك هو غير الطَّبيعي، ولكن بعد التحَّفُّظ على ما قد يكون من تمادٍ في الاختلاف أَو التَّطرف في البعد عن المنطق في الفهم والتَّفسير. ولذلك لن نخوض هنا غمار فكفكة عقد هذا الاختلاف وحلحلتها لأنَّهَا لا تعنينا هنا من جهة، ومن جهةٍ ثانيةٍ فإنَّ بحثنا في مكانة الكواكبي بَيْنَ مفكري النَّهضة العربيَّة لن يتأثَّر كبير الأثر بهذه الاختلافات، ومن جهةٍ ثالثةٍٍ سيكون بحثنا هذا هو محاولة للوقوف عما قد يكون وجهاً من أوجه الخلاف والنَّظر، على الأقلِّ في التَّأسيس، من زاوية رُبَّمَا لم يسبق النَّظر منها.

سيرة وآثار

ـ ولد بحلب في 9 تموز 1855م/ 1272هـ.
ـ ظهر عليه ملامح النبوغ منذ نعومة أظفاره.
ـ أتقن اللغتين التركية والفارسية.
ـ تولى مبكراً العديد من الوظائف، أولها وظيفة محرر عربي ومترجم تركي لجريدة فرات الرسمية. وكان عمره/21/ سنة، ومنها رئاسة البلدية ورئاسة غرفة التجارة والزراعة والصنائع.
ـ في عام 1878م أصدر جريدة الشهباء، وهي أول جريدة تصدر في حلب وأسماها. وكان عمر حينها 23سنة.
ـ وفي عام 1879م أصدر جريدته الثَّانية وهي اعتدال. وقد استصدرها امتيازها باسم سعيد بن علي شريف لأن اسم الكواكبي كان كافياً لرفض أي امتياز بصحيفة يطلب إصدارها. ولكِنَّهَا على أيِّ حال لم تكن أسعد حظاً ولا أحسن حالاً مع السُّلطة العثمانيَّة، فقد عطَّلها جميل باشا لأنَّهَا سارت على النَّهج ذاته في التَّنديد بالفساد والظُّلم وانتقاد الأوضاع الاجتماعية.‏
ـ يبدو أنَّ السِّياسة كانت تجري في شرايينه وقد أدخلته مواقفه الفكريَّة وأنشطته السِّياسيَّة والاجتماعيَّة إلى السِّجن مراراً، وكانت آخر قضاياه القضيَّة الكبرى التي حُكِمَ عليه بسببها بالإعدام في عام 1309هـ/1887م، وهي التي القضية التي تأمر عليه بها أبو الهدى الصيادي.
ـ في عام 1311هـ/ 1899م سافر إلى مصر رُبَّمَا ليستقر هناك ورُبَّمَا لفترة ولكِنَّهُ لم يغادرها حيًّا إذ توفي فيها بعد ثلاث سنين.
ـ 1899م هاجر إلى مصر.
ـ في 13 حزيران 1902م توفي بالقاهرة ودفن فيها. توفي بعد أن احتسى فنجاناً من القهوة في مقهى يلدز بالقرب من حديقة الأزبكية، شعر بعدها بالآلام في أمعائه، وأخذ يتفوع وقبل أن يحضر الطَّبيب كان قد فارق الحياة. قيل إنَّ هذا السمَّ وضع له بأمر من السُّلطان عبد الحميد ذاته. رُبَّمَا يكون هذا الكلام صحيحاً، ورُبَّمَا يكون ثَمَّةَ غيره كان وراء هذا السُّمِّ.

ـ أمَّا آثاره الفكريَّة فأكثر ما اشتهر به من آثار هو كتابان من أهمِّ كتب عصر النَّهضة العربيَّة على الإطلاق هما أمُّ القرى، وطبائع الاستبداد. و له الكثير من المقالات والرَّسائل، وهناك بحث تجارة الرقيق وأحكامه في الإسلام، اكتشفه الشَّيخ محمد رشيد رضا ونشره في المنار عام 1905م. وثَمَّةَ إلى جانب ذلك العديد من الآثار التي ذكرها المؤرخون والمعاصرون له منهم خاصَّة، وهو ذاته أيضاً. ولكنَّ كلَّ هذه الآثار مفقودة ولا نعرف عنها أكثر من عناوينها. من هذه الكتب صحائف قريش الذي ذكره الكواكبي ذاته في مقدِّمة أم القرى ودعا إلى اقتنائه وقال عنه «سيكون له شأن إن شاء الله في النَّهضة الإسلامية العلمية والأخلاقية».‏ أمَّا الكتاب الثَّاني فهو العظمة لله، وقد ذكره محمد كرد علي وقال إنَّهُ رآه مخطوطاً في مصر. أمَّا الكتاب الثَّالث فهو ماذا أصابنا وكيف السَّلامة؟ وقد ذكره محمد رشيد رضا في المجلد الثامن من المنار، وقال: «فيه فوائد كثيرة سياسية واجتماعية».‏ ورُبَّمَا نجد غير ذلك من أخبار تشير إلى وجود كتب أخرى للكواكبي، ولكِنَّهَا يجمعها كلها أنَّهَا مفقودة.

في فترة إعدادنا هذا البحث أعلمنا الصَّديق جان داية أحد أبرز الباحثين المهتمين بالكواكبي، وأبرز المنقبين عن آثاره وأخباره، أَنَّهُ مؤخراً وبعد بحثٍ ومتابعةٍ طويلةٍ، اكتشف مجموعةً كبيرة من المقالات للكواكبي، أثبت صحَّة معظمها وقليل منها لم تثبت نسبته للرحالة كاف الذي هو الكواكبي. وزَّع المثبت منها على قسمين سيصدر أولهما تحت عنوان الجزء الثَّاني من طبائع الاستبداد. وثانيهما تحت عنوان الجزء الثَّاني من أمِّ القرى.

الكواكبي بَيْنَ مفكري النهضة

إذا نظرنا إلى أعلام عصر النَّهضة العربيَّة منذ بدايتها المتمثِّلة بجيل الإرهاصات أمثال محمد بن عبد الوهاب وحيدر الشهابي والشوكاني والسنوسي، أَو منذ جيل الروَّاد الذي يبدأ باليازجي والشِّدياق والآلوسي والطهطاوي والتونسي وعبد القادر الجزائري والبستاني ونوفل نعمة الطرابلسي... وجدنا العشرات من المفكِّرين الذين تفاوتت مستويات إنتاجهم الفكري وقيمة ما قدَّموه من أفكار.
لا شكَّ في أن بعض الحيف قد لحق بكثير من هؤلاء المفكرين بقلَّة الاهتمام بفكرهم، كما أنَّ بعض الظُّروف والمعطيات التَّاريخيَّة قد أدَّت إلى زيادة الاهتمام ببعض المفكرين دون غيرهم فأظهرتهم أكثر من غيرهم، ولذلك لا حيف في القول إنَّ أكثر المفكرين ظهوراً لدى الباحثين الذين تناولوا عصر النَّهضة العربيَّة ليسوا هم بالضَّرورة أكثرهم أهميَّة، من دون أن يقلل ذلك من قيمة أيٍّ منه أَو مكانته.
إذا استثنينا الأدباء ونقاد الأدب ومؤرِّخيه ومعهم بالضَّرورة الشُّعراء وجدنا في عصر النَّهضة العربيَّة ما لا يقلُّ عن خمسين علماً بارزاً من أعلام الفكر، وإذا نظرنا إليهم نظرة إحصائيَّة وجدناهم يفوقون الخمسين بمئة. وقد انقسم هؤلاء إلى أربعة أصناف:
ـ الأوَّل اتِّباعي للقديم العربي.
ـ الثَّاني مقلِّدٌ للغرب.
ـ الثَّالث ناقلٌ للفكر الغربيِّ.
ـ الرَّابع مبدعٌ أصيل.
تكاد الأصناف الثَّلاثة الأولى، مع تداخلها مع بعضها ومع الصنف الرابع أحياناً، تقتسم مفكِّري عصر النَّهضة العربيَّة قسمةً عادلةً ليبقى القسم الرَّابع ضامًّا الاستثناء الذي يكاد يكون بحكم النُّدرة.

عبد الرحمن الكواكبي الذي ينتسب إلى الجيل الثَّاني من أجيال النَّهضة العربيَّة ينتسب إلى الصِّنف الاستثنائي أي المبدع الأصيل. ولكن قيمة الكواكبي بَيْنَ مفكِّري عصر النَّهضة العربيَّة لا تنحصر بهذا التَّصنيف وحسب، ولا تظهر بما تستحقُّ من الأهميَّة من محض هذا التَّوصيف فقط، على الرَّغْمِ من أنَّهُ فيه وحده ما يكفيه مكانةً وقيمةً وأهميَّةً.

إذن نحن أمام مدخلين حَتَّى نعرف قيمة الكواكبي ومكانته بَيْنَ أقرانه وأسلافه وتابعيه من مفكِّري عصر النَّهضة العربيَّة. أوَّل هذين المدخلين هو التَّوصيف السَّابق لنتاج مفكِّري النَّهضة العربيَّة، وثانيهما مدخل جديد مستقلٍّ عن السَّابق بالمبدأ غير منفصلٍ عنه في الطَّبيعة وهو ما سنعرضه تحت عنوان الكواكبي وابن خلدون.
انقسم مفكِّرو النَّهضة العربيَّة من جهة الإنتاج الفكريِّ إلى أربعة أصناف كلُّها، إلاَّ ما نَدَرَ، تقوم على إعادة إنتاج فكر الآخر بطريقة أَو بأخرى. أمَّا القليل النَّادر فهو ما أدرجناه تحت باب الإبداع الأصيل. والإبداع الأصيل في ندرته ليس ذا سمة واحدةٍ وإنما هو على الأقلِّ على نمطين أَو نوعين أوَّلهما المفكرون الذي اتسم إبداعهم بمجمله بسمة الإبداع والأصالة وهو أقل القليل، وثانيهما ما يمكن أن نجده عند أيِّ مفكِّرٍ من شذرات أصيله في خضم إعادة إنتاج فكر الآخر.

أيُّ قارئ لهذا الحكم الذي نسقط فيه صفة الإبداع والأصالة عن معظم مفكِّري عصر النَّهضة العربيَّة سينتظر منَّا الإثبات أَو سيطالبنا به، ولا اعتراض على ذلك؛ فالانتظار متوقَّعٌ، والمطلب حقٌّ. ولكنَّ المرور بكلِّ المفكرين لإثبات هذا الحكم أمرٌ سيطول بنا كثيراً، والاكتفاء بنماذج ليس دليلاً مقنعاً ولا كافياً. ولذلك دعونا نلجأ إلى برهان الخلف ونقول: إنَّ معظم نتاج مفكِّري عصر النَّهضة العربيَّة ليس إلا إعادة إنتاجٍ يمكن القول إنَّهَا صريحة إمَّا للفكر الغربي أَو للتُّراث العربي، ومن ليس يقتنع فليأتنا بما هو خلاف ذلك.

الحقيقة أنَّ أيَّ دارس لمفكري عصر النَّهضة العربيَّة يدرك هذه الحقيقة ويقرُّنا فيما حكمنا به عليهم فليس منهم من تجاوز بكثيرٍ أبداً نقل الفكر الأوربي والتَّجربة الأوروبيَّة وعلَّق على ذلك بقليلٍ أَو كثيرٍ.
لا يُلام مفكرو النَّهضة في ذلك ولا يقلِّل ذلك شيئاً من قيمة فكرهم الذي كن وليد شروط فكرية وسياسيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة معينة فرضت عليهم الاستناد شبه الكلي على الحضارة الغربيَّة بل الأوروبيَّة التي كانت، ولم تزل، تسبق الأمَّة العربيَّة بأشواطٍ هائلةٍ من التَّقدُّم والتَّطوُّر في جميع الميادين والأنشطة. فكان لا بُدَّ، نفسيًّا، من الظَّنِّ أنَّ اقتفاء خطى الغرب هو المنجي والمنقذ الوحيد من براثن التَّخلُّف والجهل الذي تتخبَّط به أمَّتنا. ولذلك حاولوا كلُّهم نقل الفكر الأوروبيَّ الذي سبق الثَّورة السِّياسيَّة والعلميَّة بوصفه مفتاحاً لازماً للنَّهضة.
الكواكبي، ورُبَّمَا وحده من مفكِّري النَّهضة العربيَّة، هو الذي غرَّد خارج السَّرب وخرج من إسار قيود التَّقليد واختطَّ لنفسه خطًّا مستقًّلا ليس في إطار الفكر العربيِّ وحده وإنَّمَا من دون مبالغةٍ على الصَّعيد العالمي كلِّه. وهذا ما كانت نتيجته الطَّبيعيَّة أن يكون الكواكبي مفكِّراً عالميًّا بامتيازٍ وجدارةٍ.

للكواكبي العديد من الآثار حسبما أشار الدَّارسون ومنهم حفيده الدُّكتور عبد الرحمن الكواكبي، ولكِنَّهَا كلها حَتَّى الآن مفقودةٌ. وليس في فقدها قليل أثر في تقليل قيمة الكواكبي بل رُبَّمَا كان في ذلك ما زاد في إعلاء شأنه وقيمته من خلال أثريه الشَّهيرين الباقيين؛ أم القرى، وطبائع الاستبداد. أمُّ القرى الذي دار في إطار الخصوصيَّة العربيَّة والإسلاميَّة وطبائع الاستبداد الذي ارتقى فوق الخصوصيَّة إلى مستوى العالميَّة. ليكون للحديث في مشكلة الاستبداد شأنٌ آخر رُبَّما يكون مختلفاً تماماً عن كلِّ ما سبق وحَتَّى ما لحق، على الأقلِّ على المستوى العربي الذي عني بفكر الكواكبي، وعلى المستوى العالمي الذي لم يعط الكواكبي حقَّه من البحث والاهتمام لأنَّهُ عربيٌّ.

طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد هو الكتاب الوحيد، في العالم العربي حَتَّى وقت قريب على الأقل، المخصوص كلُّه لمشكلة الاستبداد، وما كان بعده كان الكواكبي إماماً له ومرجعاً ومستنداً. وعلى الرَّغْمِ من كثير ما كتب في الاستبداد في العالم حَتَّى عصر الكواكبي فإنَّ طبائع الاستبداد كان أبرز كتاب كتب في هذا الموضوع حَتَّى حينه، ويستحقُّ بجدارةٍ أن يكون واحداً من أبرز أدبيات الاستبداد العالميَّة. ورُبَّما لم يسبقه في إفراد كتابٍ للاستبداد إلا الإيطالي فيتوريو الفياري في كتابه ما هو الاستبداد، وقد أشار إليه الكواكبي في الفصل الأخير من الكتاب. ولذلك لا عجب أن يحظى هذا الكتاب بكثير بديع التَّقريظ وجليل الإعجاب والتَّقدير، حَتَّى يصعب الحصر فعلاً ويصعب الخيار، حسبنا أن نشير إلى ما قاله عباس محمود العقاد: «طبائع الاستبداد هو آية الكواكبي»، وتعليق الدكتور علي الدين هلال بقوله: «عبد الرحمن الكواكبي أعظم من هاجم الاستبداد»، وقول الدكتور أبو حاقة: «هو كتاب الحريَّة والثَّورة والإصلاح والتَّحرُّر».

على الرَّغْمِ من الأهميَّة الاستثنائيَّة رُبَّمَا منقطعة النَّظير لكتاب الكواكبي طبائع الاستبداد على الصَّعيدين التَّاريخي والمضموني فإنَّ ثَمَّةَ من يرى أنَّ الكتاب الأكثر أهميَّة للكواكبي هو أمُّ القرى وليس طبائع الاستبداد. ولا يبتعد هذا الحكم عن الصَّواب إذا ما نظرنا إلى التَّكامليَّة بَيْنَ القائمة الكتابين.
لو استقلَّ كلُّ كتابٍ بكاتبٍ لكانا على درجة من التَّكافؤ، وكان في المفاضلة بينهما أقوالٌ وأحكامٌ يقتسمها فرقاءٌ لهم في تأييدها حجج ومسوِّغات. ولكن أن يكون الكتابان معاً لكاتب واحدٍ فلهذا شأن آخر في الحكم.

بغضِّ النَّظر عن التَّفاوت الزَّمني في وضع الكتابين فإنَّهَا يصلحان معاً أن يكون أحدهما مقدمة وثانيهما خاتمة. أيٌّ منهما يمكن أن يكون الجزء الأول والآخر جزأه الثَّاني. فالكتابان وقوف على هموم الأمَّة ومشكلاتها من زاويتين متداخلتين.
هذا يعني فيما يعنينا هنا أنَّ هذين الأثرين للكواكبي اللذين أبدعهما قد تجاوزا نتاج مفكِّري عصر النَّهضة العربيَّة في مسألتين:

أولهما أنَّهُما كانا إبداعاً أصيلاً خلاف نتاج معظم مفكِّري النَّهضة العربيَّة الذي كان كما أشرنا نقلاً وتقليداً بمختلف معاني النَّقل والتَّقليد.
ثانيهما أنَّهُما لم يكونا عادين أبداً، لم يكونا فقط إنتاجاً فكريًّا خاصًّا بعيداً عن النَّقل والتَّقليد وحسب بل كان على درجة قصوى من الأهميَّة والقيمة الفكريَّة.
وفي هذا وحده ما يضع الكواكبي بجدارةٍ على رأس هرم أعلام عصر النَّهضة العربيَّة إن جاز لنا أن نصنفهم تصنيفاً هرميًّا، وليس ثَمَّةَ ما يمنع القيام بهذا التَّصنيف. وفي هذا ما يذكِّرنا بفيلسوف عربيٍّ آخر هو ابن خلدون.
قبل المقارنة بَيْنَ الكواكبي وابن خلدون نجد الضرورة تلحف علينا الإشارةَ إلى مسألة ليست الآن جديدة، وليست في الأمس منعدمة ولا غريبة، ألا وهي الطعن في أعلام الحضارة العربيَّة قديمهم وحديثهم.

الكواكبي بَيْنَ الأصالة والاقتباس

الباحثة الصهيونيَّة سيلفيا حاييم اتهمت الكواكبي بأنَّهُ سرق كتاب أمَّ القرى عن كتاب مستقبل الإسلام للباحث الإنجليزي بلنت، واتهمته أيضاً بأنَّهُ سرق كتاب طبائع الاستبداد عن الكاتب الإيطالي فيتوريو ألفييري. وليس ذلك فحسب بل إنَّهَا تتابع أن تتَّهم أعلام النَّهضة العربيَّة كلهم بأنَّهُم عاجزون عن التَّأليف، ولذلك قاموا بسرقة كتب الأوروبيين.
نحن هنا أمام ثلاثة اتِّهامات. نقلها بل اعتمد عليها ألبرت حوراني في كلامه على الكواكبي في كتابه الفكر العربي في عصر النَّهضة واعتمدها مثلما هي من دون أيِّ مناقشة أَو محاولة البحث في مدى صحَّتها، ولذلك جار في أحكامه على الكواكبي مثلما أرادت الصهيونيَّة سيلفيا حاييم. وعندما قام الدُّكتور جورج جبور بمساءلة حوراني عن سبب هذا التَّجني وعدم التَّمحيص في الاتِّهام أجاب الحوراني بأنه قرأ هذه الاتِّهامات في ثلاث مقالات ولم يجد من يرد عليها أَو يكذِّبها!!

العذر إن كان أقبح من ذنب. وحكمنا هذا أجلى من أن يبرهن بالحجَّة والدَّليل والاستدلال. أمَّا الاتِّهام ذاته فهو قبل النِّقاش مشبوهٌ متهافتٌ لأنَّ من أطلقته أطلقته من غير دليل في حين أنَّ إدانتها والغرب والصهيونيَّة بسرقة تراثنا وتاريخنا وعلومنا وحَتَّى شهداءنا أمرٌ لا شك فيه ولا لبس. وإن كان ولا بُدَّ فسنناقش ذلك باختصار من خلال النِّقاط التَّالية:

أولاً: أم القرى

إنَّ اتِّهام الكواكبي بأنَّهُ سرق كتاب أمَّ القرى عن كتاب مستقبل الإسلام للباحث الإنجليزي بلنت اتِّهام غريبٌ لأَنَّهُ على الأقلِّ يقيم تكافؤاً بَيْنَ مشاعر بلنت ومشاعر الكواكبي من انهيار الأمَّة الإسلاميَّة. لم نطلع على كتاب بلنت، ولكننا نعلم أنَّ الغربيين الذين أنصفوا الحضارة العربيَّة لم يظهروا في الغرب إلا مع مطالع القرن العشرين، ومن ثَمَّ فإنَّ ما قدَّمه بلنت لا يعدو أن يكون قراءة ما لواقع العرب لا تنطوي على أيِّ حال على محاولة تعريف العرب على كيفيَّة تجاوز حالهم المتردِّي. فإن كان الكواكبي قد اطلع على الكتاب فمن المحتمل أَنَّهُ اقتبس فكرته وليس هذا بالعيب على أيِّ حال. وإذا قرأنا كتاب أم القرى وجدنا بالبداهة أَنَّهُ ليس فيه ما يستدعي الاقتباس أَو السَّرقة، إنَّهُ يناقش ما هو ماثل أمام الأعين مناقشة تقطع دابر أيِّ شكٍّ في أصالته وخاصَّة من خلال توزيع المؤتمرين على العالم الإسلامي ونسب التمثيل تبعاً للضَّرورة والتَّوزُّع الإسلامي على قطاعات الممثلين.

ثانياً: طبائع الاستبداد

إن كانت طبيعة الكتاب ومادته تسقط تهمة سرقة أم القرى عن بلنت، فإن الكواكبي ذاته وكتابه طبائع الاستبداد يدحضان تهمة سرقته عن كتاب ما هو الاستبداد للكاتب الإيطالي فيتوريو ألفييري. فالكواكبي ذاته أشار في الفصل الأخير من كتابه إلى أن الكاتب الإيطالي قد سبقه إلى وضع كتاب في الاستبداد، وأشار في مقدمة الطبعة الأولى من الكتاب إلى هذا الكتاب وقال: «فمنه ما استفدنا منه ومنه ما اقتبسناه». وبذلك لم يعد هناك كبير مشكلةٍ في معرفة إن كان قد اطلع على الكتاب بالفرنسيَّة أم بالتُّركيَّة أم بالصِّينيَّة فهو يقرُّ بأنه اطلع عليه. والسُّؤال الآن: هل يعقل أن يسرق المرء كتاباً ويقدم هو ذاته الدَّليل على السَّرقة وفي الكتاب ذاته؟

قد يكون في هذا ما يكفي لدحض الاتِّهام ثَمَّةَ نقطتان لا بُدَّ من الإشارة إليهما. النُّقطة الأولى أنَّ الكواكبي بخصائص شخصيته العربيَّة ومبالغته في الأمانة قال: «اقتبسنا منه»، ويبدو أَنَّهُ وجد أن الاقتباس تعبير أكبر مما فعله ولذلك حذفت هذه العبارة من الطَّبعة الثَّانية. أما النقطة الثَّانية فهي أنَّ الكتابين معروفان مشتهران، وليس أيٌّ منهما مفقوداً ولا مخفيًّا، ولذلك لو كان الاتهام صحيحاً لوجدنا الكثير ممن يقيم المقارنات ومواضع السَّرقة ولا سيِّما الذين يعنيهم تقزيم العرب وأعلام العرب.

ثالثاً: أعلام النهضة

أما اتِّهام أعلام النَّهضة العربيَّة بأنَّهُم عاجزون عن التَّأليف، ولذلك قاموا بسرقة كتب الأوروبيين، فهو نكتة تضحك حَتَّى البكاء سنناقشها في البند التَّالي. أمَّا هنا فنقول: فرق هائل بَيْنَ السَّرقة من جهةٍ أولى والاقتباس والنَّقل والتَّقليد من جهةٍ ثانيةٍ، مع ما بَيْنَ عناصر الجهة الثانية من فروقات. وقد أشرنا إلى أنَّ كثيراً من مفكري عصر النَّهضة العربيَّة كانوا من الناقلين للفكر الغربي أَو المقلدين له، بل حَتَّى الراجعين إلى التُّراث العربي تأثَّروا على نحو أو آخر بالفكر الغربي. هذه حقيقة لم ننكرها، ولم ينكرها غيرنا، لأنَّ أعلام النهضة ذاتهم، ورُبَّمَا من دون استثناء، كانوا في غاية الأمانة في عرضهم ونقلهم وتقليديهم. وإذا ما نظرنا إلى الوضعيَّة التَّاريخيَّة لمرحلة النَّهضة العربيَّة وجدنا أنَّ الأمر الطبيعي هو أن يتأثروا بالغرب الذي سبق أمتهم أشواطاً كبيرة، مثلما حدث مع كلِّ الشعوب والأمم في المراحل المماثلة. ولكنَّ العرب دائماً كانوا هم الأكثر أمانةً من غيرهم في النقل والاقتباس والأدلة أكثر من أن تحصى.

رابعاً: تاريخ يتكرر

قلنا قبل قليل إنَّ اتِّهام أعلام النَّهضة العربيَّة بسرقة كتب الأوروبيين نكتةٌ تضحك حَتَّى البكاء. نكتةٌ تضحك حَتَّى البكاء، بل رُبَّمَا تبعث على الغثيان. ذلك أنَّ أعلام النَّهضة العربيَّة نقلوا بأمانةٍ عن الفكر الغربي، وكتاباتهم شواهد على ذلك، وكلُّها تقريباً منشورةٌ مشهورةٌ. وكذلك كان شأن أعلام الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة من دون استثناء. وفي المقابل من ذلك وجدنا أعلام الحضارة الإغريقية ثُمَّ اليونانيَّة قد سرقوا تراث الشرق القديم ونسبوه لأنفسهم من دون أدنى أمانة. ومثل ذلك تماماً فعل أسلافهم؛ بدءاً من رواد النَّهضة الأوروبيَّة حَتَّى أواخر القرن الثَّامن عشر على الأقل، عندما سرقوا التُّراث الفكري والعلمي للحضارة العربيَّة الإسلاميَّة. وفي المرَّتين ادعوا أنَّ حضارتهم لم تشبها شائبة من أي حضارة أخرى، وادَّعوا منتهى النَّزاهة والأمانة، وهذا خلاف الحقيقة تماماً كما أثبت المنصفون من الحضارة الغربيَّة ذاتها قبل العرب.

النُّكتة التي تبعث على الغثيان هي أنَّ الغربيين، على الرَّغْمِ من وضوح الحقائق وضوحاً يفقأ عين الجاحد، اتَّهموا أسلافنا العرب بسرقة التُّراث اليوناني، واتَّهموا أعلام النَّهضة العربيَّة بسرقة الفكر الغربي.
خلاصة القول في اتِّهام الكواكبي بالسَّرقة أَنَّهُ غير قائمٍ على دليلٍ أبداً، بل كلٌّ القرائن تثبت عكس ذلك. ورُبَّمَا اختير الكواكبي دون سواه في تحديد الاسم والاتِّهام بالسَّرقة لأَنَّهُ من القليل النادر الذي أبدع فكره إبداعاً مستقلاً عن النَّقل والتَّقليد التَّام كما فعل الكثيرون. وكلُّ ذلك يقودنا إلى النَّتيجة التي أسلفناها وهي أنَّ الكواكبي يستحقُّ الوقوف بجدارةٍ على رأس هرم أعلام عصر النَّهضة العربيَّة من جهة أصالة الإبداع، وحَتَّى من جهة الأثر الذي تركه في الأجيال المعاصرة واللاحقة. وفي هذا ما يذكِّرنا، كما أشرنا، بفيلسوف عربيٍّ آخر هو ابن خلدون إذ شابهه في كثيرٍ من الأمور.

الكواكبي وابن خلدون

قيمة الكواكبي ومكانته لا تتحدَّد بهذين المؤشِّرين فَقَطْ، لأنَّ المؤشِّرين السَّابقين يحدِّدان قيمته ومكانته بَيْنَ مفكِّري عصر النَّهضة العربيَّة وحسب. وعلى الرَّغْمِ من أنَّ فيهما ما يفي الكواكبي حقَّه وينصفه إلى حدٍّ كبيرٍ، إلاَّ أنَّهُما لا ينصفانه تمام الإنصاف. وحَتَّى ننصف الكواكبي قيمةً ومكانةً لا بُدَّ من وضع نتاجه الفكري المشار إليه في سياقه التَّاريخي والموضوعي. وحَتَّى نستطيع ذلك سنستحضر نظيراً له في ذلك في المبدأ، إنه ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون.

ابن خلدون علم عالميٍّ بامتياز وجدارة منقطعة النَّظير. وضع ابن خلدون كتاباً في الحساب، وعلِّق للسُّلطان تقييداً مفيداً في المنطق، وشرح البردة شرحاً بديعاً، ولخص بعضاً من تآليف ابن عربي، ولخص كثيراً من كتب ابن رشد... وهذه كلُّها من مفقوده. وبقي لنا مما وضعه تلخيصه لباب المحصل للرازي بعنوان لباب المحصل، وكتابه شفاء السَّائل لتهذيب المسائل، وتاريخه الكبير المؤلف من المقدمة والتَّاريخ والخاتمة التي هي كتاب التَّعريف بابن خلدون.

المقدِّمة وحدها من بَيْنَ كلِّ ما وضعه ابن خلدون هي التي عرفتنا به، وقدَّمت عبقريَّته، لأنَّهَا كانت واحدةً من أعاجيب الدَّهر حقًّا في الكتابة. وكيف لا وقد ألهمت آلاف الباحثين الذي وضعوا عنها من الكتب ما ينوف عن الألفين، ومن الأبحاث رُبَّمَا عشرات الآلاف، ومع ذلك ما زالت ملهمةً للباحثين والكتاب والمؤلفين ليستخرجوا منها ما يصل إليه سابقوهم، وليجدوا فيها لم يجده غيرهم.
يكاد يكون طبائع الاستبداد هو الكتاب الثَّاني في الأهميَّة والقيمة والاهتمام بعد مقدِّمة ابن خلدون، ورُبَّمَا على الصَّعيد العالمي كلِّه، وإن لم يصل بعد إلى ما وصلت إليه المقدمة. ورُبَّمَا لن يصل إلى ما وصلت إليه المقدِّمة تماماً لسعة موضوعات المقدِّمة وتنوعها وانحسار موضوع الطبائع في بؤرة واحدة تنداح حولها الدَّوائر اتساعاً لها في طبيعتها، وهي الاستبداد بأحواله وطبائعه وآثاره ومنعكساته...
مثلما كان شأن ابن خلدون في المقدمة كان شأن الكواكبي في طبائع الاستبداد، وليس أم القرى إلاَّ جزءاً مكملاً له يصح أن يكون الأول ويصح أن يكون الثَّاني. فمضامين المقدِّمة ليس كلها خلقاً غير مسبوقٍ وإنما هي مضامين وجدنا نظائرها وأمثالها عند آخرين، ولكِنَّهُ وحده وأوَّل واحدٍ يقدِّمها بقوالب غير مسبوقةٍ ويضيف إليها من مخيلته ما لم يسبق إليه، فكانت ما كانت عليه من قيمة تاريخيَّة أغلب الظنِّ أنَّهَا غير مسبوقة ولا ملحوقة حَتَّى الآن. والأمر ذاته تقريباً يصدق على كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبي منفصلاً عن أم القرى أَو متلازماً معه. فالحديث في مشكلة الاستبداد وجد عند كلِّ مفكري النَّهضة تقريباً، وعند كثيرٍ من المفكرين والفلاسفة الأوروبيين، ولكِنَّهُ استغرق عند معظمهم قليل العرض والمناقشة، أمَّا الكواكبي فهو أوَّل من جعل للاستبداد سفراً كاملاً هو آية من آيات الأدبيَّات السِّياسيَّة عبر تاريخ الفكري البشري؛ بل آية جمالية وأدبية وفكريَّة ونفسيَّة واجتماعيَّة.

ولذلك إن كان الباحثون والدَّارسون قد اكتفوا ببعض الأبحاث لمناقشة ما جاء به السَّابقون على ابن خلدون في الموضوعات المشابه لما أثاره فإنَّ الآلاف الكثيرة لم تكف بعد لاستكناه ما تنطوي عليه المقدِّمة من عبقريَّة وإلهام. وكذلك الأمر فإنَّهُ إن كان الحديث على ما كتبه المفكرون السَّابقون على الكواكبي في الاستبداد قد استحقَّ بضع أبحاثٍ رما كفتها أَو أشبعتها بحثاً ودراسةً، فإنَّ الأبحاث الكثيرة والكثيرة جدًّا لم تكف بعد ما قدَّمه الكواكبي، وسيظلُّ طبائع الاستبداد ملهماً للكثير من الدِّارسين والباحثين.

عشرات الكتب وُضِعَتْ حَتَّى الآن في طبائع الاستبداد للكواكبي وفي الكواكبي بسبب طبائع الاستبداد، ناهيك عمَّا يتعذَّر حصره من كثير مئات الأبحاث التي نشرت في الكتب والمجلات والصُّحف حَتَّى الآن. وإن كان من الصَّعب أن نذكر كلَّ الكتب فمن السَّهل ذكر بعضها، ومنها ما لا بُدَّ من ذكره. ففي عام 1954م نشر نوربيير تابييرو كتابه: الكواكبي المفكر الثائر. وفي عام 1958م نشر محمد شاهين حمزة كتابه: عبد الرحمن الكواكبي؛ العبقرية الثائرة. وفي عام 1959م نشر عباس محمود العقاد كتابه: الرحالة كاف؛ عبد الرحمن الكواكبي. وفي عام 1963م نشر قدري قلعجي كتابه: عبد الرحمن الكواكبي. وفي عام 1964م نشر جان داية كتابه: الإمام الكواكبي؛ فصل الدين عن الدَّولة. وفي العام ذاته نشر سامي الدهان كتابه: عبد الرحمن الكواكبي. وفي عام 1970م ناقشت نور ليلى عدنان رسالة ماجستير في كلية الآداب بجامعة القاهرة بعنوان: الكواكبي مصلحاً وأديباً. وفي عام 1972م نشر محمد عبد الرحمن برج كتابه : عبد الرحمن الكواكبي. وفي عام 1984م نشر محمد عمارة كتابه: الكواكبي شهيد الحريَّة ومجدد الإسلام. وفي عام 1987م جورج كتورة كتابه: طبائع الكواكبي في طبائع الاستبداد. وفي عام 1988م يعود جان داية ثانية لينشر كتابة: صحافة الكواكبي. وفي عام 1992م نشر محمد جمال الطحان كتابه: الاستبداد وبدائه في فكر الكواكبي. وفي عام 1998م نشر سعد زغلول الكواكبي كتابه: عبد الرحمن الكواكبي؛ السيرة الذاتية. وفي عام 2000م نشر حسن سعيد كتاباً عن جدلية الاستبداد والدين عند الكواكبي. وفي عام 2001م نشرت ماجدة حمود كتابها: عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضة والأدب. وفي عام 2003م نشر سهيل العروسي كتاباً عن عبد الرحمن الكواكبي بوصفه أنموذجاً إشكاليَّة الثُّنائيات في الثَّقافة العربيَّة. وإذا أردنا أن نتابع في سرد ما نشر من كتب عن الكواكبي، وهي كلها تنصبُّ على طبائع الاستبداد إما ذاته أَو مع ملازمه أم القرى، فإنَّنا سيطول بنا السَّرد والعرض وسنجد أنفسنا أمام سلسلة مشابهةٍ في المبدأ لآلاف الكتب التي كتبت عن مقدِّمة ابن خلدون. وإذا أضفنا إلى ذلك الأبحاث والدِّارسات المنشورة في الصُّحف والمجلات والدَّوريَّات فسنكون أمام سلسلة أطول بكثير من المؤكَّد أَنَّهُ من الصَّعب جدًّا أن نحصيها.

هذا يدلُّ على أنَّ الكتاب الذي ألهم الباحثين والكُتَّاب كلَّ هذه الكتب والأبحاث والمقالات ليس كتاباً عاديًّا على الإطلاق، وإن كان هذا حكمنا على الكتاب فهو إنَّما ينصبُّ على صاحبه لا عليه ذاته. إنه مؤشِّر واضحٌ على مدى غنى فكر الكواكبي، كما كان مؤشِّراً صريحاً على مدى غنى فكر ابن خلدون واتساع آفاقه. وحسبنا أيضاً دليلاً على ذلك أن مؤتمرات كثيرة وندوات متعددة عقدت لبحث فكر الكواكبي وفي كلِّ مرَّة نكون أمام آفاق جديدة لم يسبق الوقوف عندها. وأن يدعى ثلاثون مفكِّراً وباحثاً لتناول فكر الكواكبي في ندوة فيأتون بثلاثين بحثاً متباينة العناوين والدلالات والمضامين على الرَّغْمِ من أنَّهَا كلها تنهل من معين كتب واحد أَو اثنين على الأكثر فهذا يعني أنَّنا أمام مفكِّرٍ عبقريٍّ قدَّم أثراً عبقريًّا يظلُّ مفتوح الآفاق أمام تنوُّع الرؤى وتعدُّدها ورُبَّمَا تباينها.

يبدأ الكتاب؛ طبائع الاستبداد، بفاتحةٍ يبيِّن فيها قصَّة تأليف الكتاب، ثُمَّ مقدِّمةٍ قصيرةٍ يستعرض فيها مفهوم علم السِّياسة ونشأته والكتابات التي كتبت فيه بدءاً من الحضارة اليونانيَّة مروراً بالحضارة العربيَّة الإسلاميَّة والأوروبية الوسيطة فالحديثة. وفي أثناء المقدِّمة ينعطف إلى الاستبداد بوصفه جزءاً من المباحث السَّياسيَّة، ويعرفه بداية بأَنَّهُ «التَّصرُّف في الشُّؤون المشتركة بمقتضى الهوى». ويتابع على الفور باستعراض ما يقدِّمه في الكتاب قائلاً: «أرى أنَّ المتكلِّم في الاستبداد عليه أن يلاحظ تشخيص ما هو الاستبداد؟ ما سببه؟ ما أعراضه؟ ما سيره؟ ما إنذاره؟ ما دواؤه؟ وكلُّ موضوع من ذلك يتحمَّل تفصيلاتٍ كثيرةً، وينطوي على مباحث شتَّى من أمَّهاتها: ما طبائع الاستبداد؟ لماذا يكون المستبد شديد الخوف؟ لماذا يستولي الجبن على رعيَّة لمستبد؟ ما تأثير الاستبداد في الدِّين؟ في العلم؟ في المجد؟ في المال؟ في الأخلاق؟ في التَّرقِّي؟ في التَّربية؟ في العمران؟ من هم أعوان المستبِّد؟ هل يتحمَّل الاستبداد؟ كيف يكون التَّخلُّص من الاستبداد؟ بماذا ينبغي استبدال الاستبداد؟

كان الجواب على هذه الأسئلة في تسعة فصول هي مفهوم الاستبداد، الاستبداد والدِّين، الاستبداد والعلم، الاستبداد والمجد، الاستبداد والمال، الاستبداد والأخلاق، الاستبداد والتَّربية، الاستبداد والتَّرقِّي، التَّخلص من الاستبداد. ويبدو من عناوين هذه الفصول والأسئلة التي مهَّد بها أنَّه كان يعدُّ لتغطية مشكلة الاستبداد من كلِّ الجوانب المتعلِّقة بها والممكنة، على الرَّغْمِ من أنَّ الكتاب في أصله مقالات متتالية نشرت في كبريات الجرائد المصريَّة قبل أن تجمع في الكتاب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى