الاثنين ٢ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم أحمد بابانا العلوي

اللجاجة في الفكر والدين والسياسة

كنت أود أن اكتب مقالا نقديا حول بعض مقولات المفكر التونسي محمد الطالبي مؤلف كتاب «ليطمئن قلبي»

وكنت أريد أن أناقش رأيه حول قضية إبطال الشريعة وإلغائها، وربط ذلك بإرساء قواعد الدولة العلمانية التي تلغي تأثيرا الدين في تدبير الشأن المدني العام.

وكذالك بعض القضايا والطروحات التي تناولها والتي يتداخل فيها الايديولوجي بالسياسي.. إلا أنني لاحظت أن الأستاذ الطالبي قد نحى منحى جدالي سفسطائي وابتعد عن دائرة النقاش العلمي المنهجي الرصين..

وقد أدى هذا الابتعاد عن النقاش والحوار القائم على التفكير العقلاني المستنير ضمن منهج علمي بصير يتوخى البحث عن الحقيقة التي تنفع الناس في صلاح أمورهم الروحية والمادية..

لقد أدى هذا الخروج عن المنهجية العلمية إلى الانزلاق في أتون المماحكة الإيدولوجية
والسياسية ومن ثم اختلط الحابل بالنابل وترتب عن ذلك الانجراف إلى صراع جدلي سفسطائي يضر ولا ينفع ويؤدي في الغالب إلى اللجاجة التي لا تتحقق معها منفعة لا بالجدل ولا بغيره..

ولعل اسلم المواقف في هذه الحالة عند ذوي البصر بالدين والرؤية الثاقبة والفكر المستقيم إذا احتدم الخصام وشاع المراء والاتهام أن يتجنب الخصومة أو يتجنب فيها كل قول مريب..

لهذا سأقتصر على بعض الملاحظات مؤجلا البحث في مسألة العقيدة والشريعة لأن البحث فيها يتطلب دراسة تحيط بفصولها وتكشف أسرارها ومعانيها باعتبار أن العلم بحقائقها زاد لا يستغني عنه فليست المسألة كما يتوهمها البعض خلاف بين دين ودين أو بين مذهب ومذهب أو بين فلسفة وفلسفة، وإنما الخلاف في جوهره يتمحور حول معنى الحياة الإنسانية..

فما من شيء يجعل للدين أو العقيدة أو الشرع معنى إذا لم تكن النفس الإنسانية ذات معنى وذات قيمة..

وإنما تصدق الأسماء حيث تصدق على الصفات والأعمال.

فالباحث عن ظواهر الاجتماع، وحقائق بعض الأشياء، عليه أن يقاربها وفقا لقواعد المنهج العلمي القويم لكي ينفذ إلى معانيها، ويدرك مقاصدها..، أما إذا سلك طريقا معوجا فسوف ينتهي به الأمر إلى إطلاق الأحكام، من غير تعمق ولا تدبر، لأن وسائل التعمق والتدبر تحتاج على تفكير، وإستقصاء، وروية وتعقل يمنع الجدل العقام.

فليس هناك خطب أفدح – على قوم – من اشتغالهم بالجدل وتركهم العمل، كما قال الإمام الأوزاغي..

ومن نافل القول أن صناعة الجدل ليست في شيء من المنطق القويم المطلوب للبحث عن الحقيقة وإنما هي صناعة يتعلمها طالبها، وهو ينشد الغلبة على خصومه، في المناقشة بالحق أو بالباطل: (فينساق إلى طبيعة الجدل وشهوة المغالبة فيؤثر المغالطة على المصارحة ويصر على المكابرة...).

وما من أمة فتح فيها باب الجدل وغلبت فيها شهواته سلمت مما تخلقه اللجاجة و التمادي في الملاحاة والبغضاء..، وقد ضرب المثل بالجدل البيزنطي في سوء العاقبة وقلة الجدوى لطلاب الحقيقة و الصلاح...

ويرى الأستاذ العقاد في كتابه التفكير فريضة إسلامية بأن الجدل كان آفة على أبناء القرون الوسطى من المشتغلين بالفلسفة و التفسيرات الدينية و المهاترات المذهبية أشد عليهم من آفة الجهل و الجمود على التقاليد...

ويضيف بأن أغراض الجدل الوبيلة ثلاثة:

إغراء الناس بالمماحكة بالقشور دون جوهرها، واللباب من حقائق الأمور، وإثارة البغضاء و الشحناء على غير طائل ولعا بالغلبة و الاستعلاء بدعوى العلم و الصواب و إشاعة الخلاف بين الآراء جماعة بعد جماعة، على غير نهاية يقف عندها ذلك الخلاف. (ص29).

إن الجدل ومصطلحاته الكلامية انتقلت إلى المسلمين على يد المترجمين الدخلاء فتسربت إلى الأذهان شبهات كثيرة كما فشت فيهم الأغراض السالفة ولمس أضرارها العامة و الخاصة في بيئات العلم و الدين و السياسية...

إن هذا الجدل السفسطائي يصرف العقل عن الفهم الصحيح وقد تصدى الأئمة المجتهدون لهذه المسألة فناقشوها مناقشة تصحيح وتنقيح، يقول الإمام الغزالي بأن من شروط العالم المجتهد غير المقلد أن يحيط بعلم النظر ويحسن إراد البرهان وإجراء القياس، وإن رد المذهب قبل فهمه و الاضطلاع على كنهه رمي في عماية.

ويقول أيضا في كتابه الميزان، الشكوك هي الموصلة للحق فمن لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر يبقى في العمى و الضلال...

فالعقل عند الغزالي هو العقل في شرعة الإسلام عقل يبتغي الحقيقة حيث كانت ولا يحجم عن المعرفة، حيث أصابها ولا يقيم فوقه أو بين يديه بابا مغلقا دون قبس من نور يريه ما لم يكن يراه أو يزيده بصيرة بما رآه.( ن.م ص35).

لا ريب إذن فإن النافي عليه الدليل كالمثبت و القضية إذا لم تكن بديهية، لا بد لها من دليل كما يقضي بذلك المنطق السليم.

لقد كان القصد من تصحيح المنطق هو تحرير العقل من قيود المصطلحات التي تعوقه عن النظر السليم لأن المنطق مقيد بالعقل وليس العقل مقيد بالمنطق كما جعله أصحاب اللجاجة بالمصطلحات الموضوعة...

فالمنطق علم بجميع الأصول والقواعد التي يستعان بها على تصحيح النظر و التمييز الصحيح وبحث عن الحقيقة من طريق النظر المستقيم، أما الجدل أو الخطاب الاقناعي
( la Rhétorique) هو بحث عن الغلبة و الإقناع بالحجة وقد يرمي إلي كسب أو الدفاع عن مصلحة مطلوبة...

ويعود اسم السفسطة الى الحكيم الإغريقي بروتاغوراس Protagoras) (الذي أطلق على نفسه (سوفسيت sophiste) بمعنى الحكماء البلغاء (معلمي البيان الخطابي).

وزعم انه ملك الحكمة وأستوفاها، وقد غلبت السفسطة على كل من يدعي هذه الدعوى ويتخذها في المناقشات حول المنازعات القضائية أو السياسية..، فجادلوا بأن هناك خير وشر، وحق وباطل، وعدل وظلم، وأذاعوا الشك في الدين، فسخروا من شعائره واختلقوا على آلهته الأقاويل كما مجدوا القوة و الغلبة..

ومن هذا المنطلق أصبح المفهوم المتفاهم عليه أن المنطق بحث عن الحقيقة وأن الجدل بحث عن المصلحة أو الرغبة المتنازع عليها...، وتأسيسا على ذلك فإن الحجة هي حجة خطابية أي أنها تقنع ولا يشترط فيها أن تدل على الحقيقة.

أما فريضة التفكير في القرآن الكريم فإنها تشمل العقل الإنساني بكل ما إحتواه من وظائف بجميع خصائصها فهو يخاطب العقل الوازع و العقل المدرك و العقل الحكيم و العقل الرشيد..، أي انه يخاطب العقل الذي يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويميز بين الأمور ويوازن بين الأضداد ويتبصر ويتدبر ويحسن الإدكار...

الإسلام لا يعرف الكهانة..، ولا توسط فيه بين المخلوق و الخالق ولا شفاعة من ولي أو صاحب قداسة..

دين بلا هياكل و لا كهانة، يتجه الخطاب فيه إلى الإنسان العاقل صاحب العقل المدرك و الفهم القويم و التفكير السليم..

أما الأزمة التي يشهدها العالم الإسلامي فهي نتيجة الانفصام بين الفكر و الواقع..، فهناك خلط كبير، بين العقيدة و الفكر وبين الغايات و الوسائل وبين الدين و التاريخ..

وقد ذهب فريق إلى أنها أزمة عقائد وقيم ومقومات حضارية..، بحيث تغبشت الرؤية مما أدى إلى وقوع النخبة في شرك الغربة الفكرية و الجهل المعرفي..

وللخروج من هذا الانسداد أصبح من الضروري تغيير منهج التفكير وتصحيح منطلقاته لكي يصبح قادرا على النظر النقدي، و الرؤية النافذة و القدرة على إبداع البدائل..

وإن إلمامة سريعة بقيم الإسلام وغاياته تقطع بالمنهج الصحيح بعيدا عن الفهم السفسطائي السقيم.

وصفوة القول أن دارس الفكر إذا لم يكن بصيرا به، حسن التصرف في جليله ودقيقه جيد الفهم لغوامضه ومبهماته فهو حري أن يشوه الصورة عند تركيبها تشويها شنيعا.. وعند ما تتشوه الصورة ويضيع المعنى ولم يعد هناك ما يحسن ومايقبح وما يرضي ما يسئ.. ومن ثم فان ما نحسبه واقعا في تصوراتنا واذها ننا ما هو بواقع الا في اذهاننا.. وقد تتعارض المدركات البصرية مع المدركات الذهنية فيتغلب بعضها على بعض ويؤثر ذلك على زاوية النظر او الرؤية والافكار الدائرة في الاذهان.. والحقيقة ان نظم الحياة كلها ذات تاثير في صياغة الواقع وقد تحول فقه الواقع الى علم يبحث في الشؤن الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية وعليه يتوقف الفهم الدقيق لاي تنظيم او تشريع او بناء او تاويل ولا يمكن الخوض فيه دون تقعيد لعلم وتاصيل لمنهج حتى لا تضطرب الامور وتتداخل وتتعطل الملكات عن ادراك القوانين الناظمة للعمران البشري..

ان الاهتمام بفقه الواقع في سائر المجالات ومناحي الحياة ضرورة تمليها طبيعة العلاقةبين التطور المتسارع والدين وكذلك على ضوء التحولات الطارئةعلى مفاهيم القوة والسلطة والنفوذ في العالم.. واثر ذلك على حريات الانسان وحقوقه الطبيعية والمدنية..
فلا بد للانسان ان يوازن بين متطلبات الجسد المادية و متطلبات الروح التي قوامها العقل والاخلاق والحكمة وحسن التدبير..

اما السؤال الذي يفرض نفسه بعيدا عن اللجاجة والسفسطة الفارغة فهو كيف يحافظ الانسان على انسانيتة اذا انقاد انقيادا اعمى لشهواته المادية بلا وازع ولا رادع يردانه الى قيم الاخلاق والعقل والنقل..؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى