الجمعة ٣١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم حسن لمين

المشروع النقدي عند سعيد يقطين

المشروع النقدي عند سعيد يقطين: من السرديات البنيوية إلى آفاق النقد الرقمي

في زمنٍ تتكاثر فيه القراءات السطحية للأدب، وتضيع فيه الحدود بين الانطباع والنقد، يبرز اسم سعيد يقطين كأحد أبرز الأصوات التي سعت إلى تأسيس مشروع نقدي عربي متماسك، يزاوج بين صرامة التحليل البنيوي وانفتاح الرؤية على التحولات الرقمية والثقافية. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، ظلّ يقطين وفيًّا لرهانه الأكبر: بناء علمٍ للسرد العربي قادرٍ على قراءة النصوص من الداخل لا من خارجها، وإعادة وصل النقد العربي بواقعه المعرفي والثقافي.

هذا المقال يحاول تتبّع ملامح المشروع النقدي ليقطين، من جذوره البنيوية إلى آفاقه الرقمية، بوصفه تجربة فكرية تسائل النص والواقع معًا، وتضع القارئ أمام سؤالٍ جوهري: هل يمكن للنقد العربي أن يؤسس لنفسه نظرية من داخل لغته وثقافته؟

اختار سعيد يقطين السرد مجالاً مركزياً لاشتغاله النقدي، إذ رأى فيه المدخل الأوسع لفهم الخطابات الإنسانية كافة. فالسرد، في تصوره،يعتبر منظومة فكرية وثقافية تعبّر عن كيفية رؤية الإنسان للعالم وتمثيله له. ومن هذا المنطلق، سعى إلى نقل النقد العربي من الاهتمام بالمضمون إلى تحليل الخطاب السردي نفسه، أي كيفية تشكّل النص ومعماريته وديناميته الداخلية. وقد مثّلت كتبه تحليل الخطاب الروائي وانفتاح النص الروائي علامات فارقة في تأسيس هذا المسار.

إن انفتاح يقطين على البنيوية باعتبارها منهجا غربيا، يشكل توظيفا واعٍيا لها في سياق ثقافي عربي. فقد استند إلى مقاربات جيرار جينيت ورولان بارت وتودوروف، لكنه أعاد قراءتها في ضوء النص العربي. لقد كانت البنيوية بالنسبة إليه مرحلة تأسيس ضرورية لفهم البنية السردية، غير أنّه لم يتوقف عندها، بل تجاوزها نحو منهج تكاملي يجمع بين التحليل النصي والقراءة الثقافية. ففي كتاب انفتاح النص الروائي، دعا إلى فهم الرواية العربية ضمن شبكتها الاجتماعية والتاريخية، دون التخلي عن أدوات التحليل البنيوي. بذلك أسّس لما يمكن تسميته بـ“السوسيوسرديات”، أي النقد الذي يوازن بين البنية والدلالة والسياق.

حدد يقطين ثلاثة مكونات كبرى لتحليل الخطاب السردي: الزمن، الصيغة، والرؤية السردية. فالزمن، في نظره، هو بناء دلالي يكشف عن رؤية النص للواقع. أما الصيغة، فهي الأسلوب الذي تُقدَّم به المادة الحكائية، في حين تعبّر الرؤية عن موقع الراوي من الأحداث ومدى معرفته بها. من خلال هذه المكونات، سعى يقطين إلى تأسيس مقاربة نقدية قادرة على تفكيك البنية الداخلية للنصوص، مع الحفاظ على مرونة تسمح بتطبيقها على أجناس متعددة. غير أن بعض النقاد رأوا أن تركيزه على هذه العناصر الثلاثة قد حدّ من شمولية التحليل، إذ همّش عناصر أخرى كالشخصية والفضاء والحبكة. ومع ذلك، يبقى هذا الاختيار المنهجي أحد أبرز ما ميّز تجربته النقدية من حيث الدقة والصرامة.

مع بدايات الألفية الثالثة، اتجه سعيد يقطين إلى تجديد مشروعه النقدي بالانفتاح على التحولات الرقمية. ففي كتابيه من النص إلى النص المترابط وجماليات الإبداع التفاعلي، طرح مفهوم “النص المترابط” باعتباره شكلاً جديداً من أشكال الكتابة والقراءة في العصر الرقمي. هذا التحول لم يكن قطيعة مع الماضي، بل امتداداً طبيعيّاً لمنهجه البنيوي، لأن النص المترابط يظل بنية، لكنه بنية مفتوحة تتشكل في فضاء إلكتروني متعدد الطبقات. وهكذا، انتقل يقطين من نقد الورق إلى نقد الشاشة، محاولاً إعادة تعريف فعل القراءة ذاته في ظل الوسائط الجديدة. ويُعدّ هذا المنعطف الرقمي من أكثر ما يميز فكره النقدي المعاصر، إذ جعله من أوائل النقاد العرب الذين استشرفوا مآلات السرد في زمن التكنولوجيا.

لم يكن التراث عند يقطين موضوعاً للتقديس أو الإحياء الشكلي، بل موضوعاً للنقد والمساءلة. ففي كتاب الرواية والتراث السردي، دعا إلى إعادة قراءة التراث العربي السردي باعتباره نصاً منتجاً للمعنى، فهو يرى أن المقاربة التراثية يجب أن تنفتح على الأسئلة الحديثة دون أن تفقد خصوصيتها، لأن التراث، في نظره، يعتبرطاقة رمزية يمكن تفعيلها في الراهن. وبهذا المعنى، يتجاوز يقطين الموقفين التقليديين: التمجيد أو الرفض، نحو رؤية نقدية تُدخل التراث في حوارٍ مع الحاضر.

على الرغم من غنى مشروع يقطين، إلا أنه يواجه بعض الإشكالات المنهجية والمعرفية، منها تغليب الجانب النظري أحياناً على التحليل التطبيقي، محدودية العناصر الثلاثة في الإحاطة بكل مكونات السرد، صعوبة ضبط حدود النقد التفاعلي في ظل الانفتاح اللامتناهي للفضاء الرقمي. ومع ذلك، تبقى هذه التحديات جزءاً من طبيعة أي مشروع فكري طموح. فقد منح سعيد يقطين النقد العربي خريطة معرفية جديدة، وساهم في ترسيخ الوعي بضرورة المنهج والدقة والمساءلة العلمية في دراسة النصوص.

يمثل المشروع النقدي لسعيد يقطين إحدى التجارب العربية الأكثر تماسكاً وعمقاً في مقاربة النصوص السردية. فهو مشروع بدأ من البنيوية، لكنه لم يتجمد فيها، بل تحوّل إلى رؤية دينامية تستجيب للتحولات الثقافية والتقنية. لقد قدّم يقطين نموذجاً للناقد الذي لا يكتفي بالقراءة، بل يصوغ نظرية من داخل ثقافته، ويجعل من النقد فعلاً معرفياً لا تابعاً. ومن هنا، يمكن القول إن مسار سعيد يقطين لا ينتمي فقط إلى تاريخ النقد العربي، بل إلى مستقبله أيضاً، لأنه يفتح الباب أمام أجيال جديدة من النقاد لتأسيس نقدٍ عربيٍّ معاصرٍ يستوعب الماضي، ويقرأ الحاضر، ويستشرف الآتي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى