الجمعة ٨ آذار (مارس) ٢٠١٣
بقلم رينا ميني

المشرّدون...إلى متى؟

استوقفني يوماً أحد الأطفال المتسولين، لا يميّزه عن أي طفلٍ أخر، سوى جسده النحيل
وثيابه الرثّة، ووجهه المتّسخ لا من غبار الطريق ولا من قلّة ما لمست المياه جسده بل من
أوساخ الناس ااتي تحجّرت قلوبها، فهكذا منظر لم يعد يراعي انتباهها ولا يرّق سمعها لتلك
التوسّلات. راح الصبيّ يردّد كلّ ما تعلّمه من أدعية، وكان يلقيها على مسامعي لا حبّاً بي ولا
بالمارّة، ولا طمعاً بالمال، بل رحمةً لعزيز قومٍ ذلّ، علّه يتفادى قصاصاً مريعاً حينما يعود إلى
مأواه رامياً تحت قدميّ سيّده الظالم كل ما جناه طوال النهار في أيّام البرد القارص والحرّ
الشديد. وما أن هممت أعطيه ما فيه من النصيب، حتى علت صرخة تقصدتنا الفتى وأنا، لتطرد
الفتى من المكان وكأن الطريق العام باتت ملكاً للمتكبرين، ولتؤنب رحمةً سكنت قلبي. ولكنّ
كلانا لم يجفل ولم يعبء لا بالصرخة ولا بمصدرها، هو تمسمر مكانه متيقناً من أمل لن يخيب
وانا اقف كالمحارب يجول نظري بين الفتى وأي فعل قد يحولني عن مقصدي.

أخذ المسكين المال ولم تكلّ شفتاه عن الدعاء، بيد أنّ هذه المرّة كان شكراً حاراً رأيته في
هايتين العينين الصغيريتين. وتابعت مسيري في حزنٍ وصمتٍ، تدور في رأسي ألاف الأفكار، هل
أصبت بعملي أم أخطأت؟ وما تراه الحل لأولئك الذين نقول عنهم بناة المجتمع؟ ومن هو
المسؤول عن تلك الجريمة المتكررة يومياً؟ أين أهلهم وأين الدولة؟ وأين الشفقة والرحمة في
قلوب البشر؟ كل تلك الأسئلة كانت تؤلم رأسي وتثقل فؤادي، وتزيدني اقتناعاً بصواب عملي،
فما بين أهل ناكرون للجميل يرمون أطفالهم ويهملونهم كأي شيء لا قيمة له، لا بدّ إمّا
التخلّص منه أو الإستفادة من عبء وجوده، وما بين دولة مجحفة لا تراعي مواطنيها ولا تحفظ
كرامتهم وإنسانيتهم، لا بل بدلاً من معاقبة مَن علّمهم صنعة التسوّل فهي تحاسبهم بتهمة
التشرّد وتلقي بهم في سجون الأحداث علّها تستريح من مناظرهم ومن ضجيج أصحاب
الضمير، وما بين مجتمعٍ غائب يزيد على قسوة الزمان قسوةً، وما بين نظرة خاطفة على حاضر
أولئك المساكين، بين ظلم الأهل والناس وحرقة القلوب أمام مناظر الأطفال الأخرى بثيابها
الجميلة وألعابها الكثيرة والمحاطة بعطف ورعاية ذويها، وعلى مستقبلٍ بائس لا يحمل إلاّ مزيداً
من التسوّل أو حياة مليئةً بالإنحراف وسوء السلوك؛ كان قراري تخفيف ألم ذاك الصبيّ ولو
بالقليل القليل، فحينما يعجز الإنسان عن الحلول الجذرية لا بدّ له من القيام بأي عملٍ ولو كان
صغيراً كي يساعد به الأخرين، فالمهمّ لا حجم الأعمال التي يقوم بها بل العمل بحدّ ذاته وكما
سمعت مرّة مقولة معبّرة:" إن لم تستطع أن تقيد شمعةً فلا تشعل الحريق وإن لم تستطع
مواساة دمعةٍ فلا تظلم البريء".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى