النابغة وثالوث السعادة
السعادة بين الشعر والشاعر: إن السعادة في الشعر هي نبت تلك الظروف التي أحاطت بتكوين الشاعر، حين غمرت كينونته البراءة فارتوت أحاسيسه بالحب والرضا والانشراح والتصالح، فإذا اختلط ذلك الرِّي بمغذيات فكرية إيجابية عن الحياة والوجود والإنسان والذات، فإن ذلك سيتحول في الصورة الشعرية إلى عمل إبداعي مفعم بالسعادة، متأثر في عزو مصادرها وتحليل أسبابها بما جري ويجري عليه وحَوْله من أحداث، وما تأثر به من ثقافات ومعارف، وما سارت عليه ظروفه وعلاقاته. فما ثَمَّ بَعْدُ حين يبث مشاعره وينحت صوره، إلا نفسه الفياضة، وملكاته الغنية، وقدراته اللغوية، وموهبته في السبك؛ أي إنَّ ما يمر به الشعراء هو الذي يترك في نفوس بعضهم ذلك الأثر الذي يظهر في موضوعات أشعارهم، وكلمات أبياتها، فإمَّا بؤساً تراه ظاهراً في جُل أشعارهم، أو سعادة تراها ظاهرة متفتحة كزهور المشمش في آخر شهر مارس، قليلة المكث، كضوء الفجر الخاطف، فمهما كان الشاعر متصالحاً مع ذاته، وأقداره، فإن ما يظهر في أشعاره من آثار السعادة ودلائلها لا ينبئ عن حالة مستقرة ودائمة في حياته، ومن ذا الذي تحت أديم السماء كذلك؟!، إنما هي الأقدار نتقلب فيها كتقلب قطع اللحم في المقلاة، فوق لهب يُنْضِجُ ما فوق المركز بالمباشرة، وينضج ما في الأطراف بالتقليب والتبادل، فليست حالة السعادة في شعر الشعراء مهما بدت في الظاهر ممتدة سوى حالة عابرة، نادرة، لأن أسبابها بالأساس وفق سنن الخلق كذلك، فلا عطاء يدوم ولا ظَفر يبقى، ولا شيء من ذلك ولا ضده إلا ويتعاقب بنقيضه، أو يأتي مختلطاً به!، على نحو قد لا يقبله المنطق النظري في الغالب، لندرك أن السعادة بحكم طبيعة الأشياء والحياة والخلق، شعور متداخل، متشابك، قلما يسلم من نواقضه، ومهما نبتت نفس صاحبها في بيئة إيجابية، وحفته المسرَّات التي هي في ظننا كذلك من كل جانب، فإن السعادة البشرية تظل على طبيعتها، قليلة المكث، ضعيفة الصمود، تنقضي ثمارها سراعاً، فتسقط أوراقها وتذبل أغصانها، ولكن تبقى جذورها ممتدة في العمق، مشحونة بأمل في موسم تزهر فيه من جديد.
ولقد وثق الشعراء لتلك السعادة الدائرة في رحى الكون، بأنامل الإبداع في لحظتها بأسباب ومظاهر، وذلك عندي من سعد البشرية دون شك، فقد اجتمع لنا من مجموع ذلك، عند النَّابغة وغيره من زخم تجاربهم في ميدان السعادة، ما يثقل خبرتنا، ويغمر نفوسنا بالانتشاء لعبق القصائد.
النابغة والسعادة: النابغة الزبياني أحدُ أهمِّ الشعراءِ العربِ في الجاهلية، وصاحبُ أحدِ المعلقات السبع، نشأ نشأة مترفة إمَّا لأنه كان من سادة قومه الذبيانيين في غطفان، من شبه الجزيرة العربية، أو لأنه كان مرتبطاً بالملوك، فقد كان ذا حظوة عند ملك الحيرة المنذر بن ماء السماء، ثم عند ابنه النعمان، الذي صار ملكاً بعد أبيه، ثم ساءت علاقته به بسبب وشايات الحُسَّاد، لا سيما بعد قصيدة مطلعها:
أَمِن آلِ مَيَّةَ رائِحٌ أَو مُغتَدِ
عَجلانَ ذا زادٍ وَغَيرَ مُزَوَّدِ
وفيها تحدث عن ذهابه إلى ديار حبيبته (مية) ولم يجدها، وحان موعد الرحيل ولم يظفر برؤيتها، ولكنه رأى حسناء غيرها فأخذ يتغزل فيها، وأسرف الرجل حتى لم يترك في جسمها موضعاً إلا تغزل فيه.
لقد كانت تلك الحسناء، هي امرأة الملك النعمان!؛ وقد زعم أبو زيد القرشي في جمهرة أشعار العرب: أن النابغة هو الذي طلب منه أن يكتب تلك القصيدة!!؛ ورغم أن أبا هلال العسكري قال في ديوان المعاني أنها كانت محظيته لا زوجته، فإنَّ زعم أبي يزيد القرشي عندي مما لا تسوغه نفسُ حُرٍّ فضلاً عن مَلِك.
والحاصل أياً كان سبب القصيدة، أن النابغة قالها في امرأة الملك النعمان، وكان المنخل اليشكري وهو أيضاً للأسف شاعر، وكان أيضاً صديقاً للنعمان، لكن ليس في قرب النابغة ولا مكانته، فلما سمع القصيدة وكان حاسداً للنابغة يُخفي حقده عليه، فوجدها فرصة لذبح محسوده، وإزاحته عن جوار الملك، فقال: "ما يستطيع أن يقول هذا الشعر إلا من جرب"، فوقر ذلك في نفس النعمان، فخافه النابغة فهرب، من العراق إلى الشام، لتتحول مشاعر السرور والفرح عند النابغة وهو في قمة انتشائه بقصيدته إلى قلق وخوف، ثم توارٍ فهروب، لكن النابغة شاعر سارت بأشعاره الركبان، معروف في الشام كما في العراق، فكان من تصاريف الأقدار له أن ذهب إلى ملوك الغساسنة عمرو بن الحارث الأصغر وأخيه النعمان بن الحارث فنشأت بينهم علاقة قوية، ومدحهم بقصائد من أشهرها القصيدة التي مطلعها:
كِليني لِهَمٍّ يا أُمَيمَةَ ناصِبِ
وَلَيلٍ أُقاسيهِ بَطيءِ الكَواكِبِ
تَطاوَلَ حَتّى قُلتُ لَيسَ بِمُنقَضٍ
وَلَيسَ الَّذي يَرعى النُجومَ بِآئِبِ
وَصَدرٍ أَراحَ اللَيلُ عازِبَ هَمِّهِ
تَضاعَفَ فيهِ الحُزنُ مِن كُلِّ جانِبِ
ونرى في وضوح لا لبس فيه كم الحزن والألم والهم الذي اعتصر قلب الشاعر في تلك الفترة من حياته، مما جعله يستهل القصيدة التي مضمونها المدح بذلك الاستهلال، وهو استهلال موفق من دون شك، لأنه أوصل رسالة امتنان للغساسنة بوصفه ما كان فيه من هم كبير أزاحوه عنه، ثم إنه أنشأ يمدح عمرو بن الحارث فقال:
عَلَيَّ لِعَمروٍ نِعمَةٌ بَعدَ نِعمَةٍ
لِوالِدِهِ لَيسَت بِذاتِ عَقارِبِ
والمعنى أن عمرو قد أنعم عليه بنعم كثيرة ممتالية وأعطاه والده مثلها وهي نعم لا يخالطها مننٌ ولا أذى.
وتوالت مدائحه، وتوقعاته لهم بالنصر، وكانوا أعداءً للمناذرة، وبقي في بلاطهم يمدحهم، إلى أن عاد النعمان بن المنذر فراسله لكي يعود إليه، فعاد!، واستأنف مدائحه فيه فاسترجع مكانته عنده.
حكمة النابغة: إن شاعرنا النابغة الذبياني، لم يكتسب لقب النابغة من فراغ، فهو زياد بن معاوية، لُقِّب بالنابغة لأسباب لم يتفق عليها المؤرخون، لكن حياته الحافلة باستيعاب شخصيات ملكية متنافرة، وفوزه بالحظوة هنا وهناك، يجعلنا نرتاح إلى أنه كان قد اكتسب اللقب عن استحقاق، فهو بالفعل نابغة، ليس في الشعر فحسب، ولكن في علاقاته العامة أيضاً، إذ تظهر منه عند مطالعة سيرته حنكةٌ كبيرة ودربةٌ حصيفة، في التعامل مع ذلك المستوى الخَطِرِ من الحياة، فليس المدح هو مفتاح قلوب الملوك وحسب، ولا ينبغي النظر لشأن النابغة في قضية مدحه النقيضين بتلك السطحية، فإنه ما اكتسب تلك المهارة إلا بنبوغ ظاهر وحكمة بالغة، وقدرة على معالجة النفوس الكبار، جعلته يُقدِّرُ لكل حَدَثٍ حديث ولكل مقام مقال؛ فكان من أهم ثمار ذلك عنده، كثرة شعر الحكمة في إبداعه، واحترام الشعراء له حتى قيل أنه كان يُحكِّمُ بين الشعراء في سوق عكاظ قبل الإسلام، ولم يُعرف أن أحداً نال هذه المكانة غيره، قال الدكتور جواد علي في المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: "ومن مرويات أهل الأخبار، أن الشعراء الجاهليين كانوا يفدون إلى عكاظ، "فيتعاكظون، أي يتفاخرون ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر، ثم يتفرقون، وكان ممن تحاكم إليه، الأعشى، وأبو بصير، فأنشداه، ثم أنشده حسان بن ثابت ثم الشعراء، ثم جاءت الخنساء فأنشدته، فقال لها النابغة: والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلت إنك أشعر الجن والإنس". وذكر أن النابغة الذبياني، كان ممن يأتي السوق، فتضرب له قبة حمراء من أدم، فتأتيه الشعراء لتعرض عليه أشعارها". فشاعرنا قد اعترف له القاصي والداني بمكانته في الشعر، وحكمته.
ثالوث السعادة: لقد أدت بالنابغة حكمته إلى أن السعادة في ثلاث، فقال:
وَاِستَبقِ ودَّكَ لِلصَديقِ وَلا تَكُن
قَتَباً يَعَضُّ بِغارِبٍ مِلحاحا
فَالرُفقُ يُمنٌ وَالأَناةُ سَعادَةٌ
فَتَأَنَّ في رِفقٍ تَنالُ نَجاحا
وَاليَأسُ مِمّا فاتَ يُعقبُ راحَةً
وَلرُبَّ مَطعَمَةٍ تَعودُ ذباحا
إنها خلاصة تجربة حياة شاعرٍ مهمٍ عاش سعيداً بين الملوك، مُعزَّزًا عندهم، حتى قيل من شدة ما ناله من رفاه أنه كان يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة، ثم هو ينجو من هلاكٍ محقق عندما أهدر النعمان دمه، ثم يبقى منعماً مكرماً عند أعداء النعمان، إلى أن يدرك النعمان خطأه فيعيده إلى مكانته عنده.
لا ريب أن تجربةً عالجت تلك الأحداث واحتوتها، بالصبر والتؤدة على هذا النحو، قد أصابت السلامة بما خلصت إليه من حكمة في لزوم الرفق والأناة، فتحققت لصاحبها السعادة في كل ما جرت به أقداره.
والحقيقة أنه حدد في الأبيات الثلاثة السابقة ثلاثة أسباب للنجاح والراحة الذَيْن بهما تتحقق السعادة، هي الرفق أولاً وما يشتمله من إحساس مرهف في التعامل بترك الإلحاح على الطرف الآخر ولو كان صديقاً، فقد شبه الصديق اللحوح بمؤخرة الرحل التي تحك في ظهر البعير فتؤذيه، وثانياً التأن في كل شيء، وثالثاً قطع الطمع مما ليس في المقدور نيله، فترك تعلق القلب بما فات يريحه، وقد ينظر الإنسان إلى طعام فيشتهيه، ولكن ليس كل ما يأكله الإنسان ينفعه، بل بعضه يقتله، وَلِرُبَّ مَطعَمَةٍ تَعودُ ذُباحا، فثالوث السعادة المقدس عند النابغة هو الرفق والأناة والقناعة.

مشاركة منتدى
١٩ تشرين الثاني (نوفمبر), ١١:١٠, بقلم asmamahdy2@gmail.com
بالتوفيق دائما د. محمد النجار