الثلاثاء ١٣ آذار (مارس) ٢٠٠٧

بين الأصالة والسَّرِقات الأدبيّة في البلاغة العربية

بقلم : د.فهد أبو خضرة

كان موضوع السَّرقات الأدبيّة مرتبطاً عند القدماء بموضوع الأصالة، تلك الأصالة الّتي لعبت دوراً أساسيّاً في الأحكام الأدبيّة التي صَدَرَت عنهم والّتي كان لها أكبر الأثر على مكانة المبدعين وشهرتهم .

والبحث عن العلاقة بين السَّرقات الأدبيّة والأصالة، يكشف لنا ثلاث جوانب هامّة، يمكن إيجازها كالتالي:
1-
إنَّ هناك تضادّاً أساسيّاً بينهما.
2- إنّ هناك إمكانيّات كبيرة للّقاء والتعايش بينهما رغم هذا التّضاد.
3- إنّ هناك اختراقاً مستمراً للتفوّق الّذي تحظى به الأصالة، ينبع من الشّرعيّة الّتي تحظى بها السَّرقات.

يأتي التّضاد من التعريف الأوّلي للأصالة بأنّها خُلُوّ إنتاج ما من آثار الآخرين (شكلاً ومضموناً / لفظاً ومعنى)، بالإضافة إلى الابتكار والتّميُّز ، بينما السَّرقات هي اعتداءٌ على آثار الآخرين، بهدف تملُّكها، كلها أو بعضها، عن قصدٍ وتعمُّد.

وتأتي إمكانيّات اللّقاء والتعايش، من كون السَّرقات في معايير البلاغيّين القدماء مقبولة أو مقبولة جداً في بعض حالاتها، حتّى ليصبح السّارق مساوياً للمبدع الأول أو أحق منه بما سرَق .
ويأتي اختراق التفوّق الذي تحظى به الأصالة من اعتراف البلاغيّين وغيرهم، أنّ كلَّ نصٍ متفوّقٍ كان وما زال مفتوحاً أمام أي سارقٍ ليصوغه من جديد صياغةً قد تتفوّق على صياغته، مما يعني أن تفوّق الأصالة مؤقت دائماً بالنسبة لأيِّ نص.

هذا عن أصالة النّص، أما عن أصالة المبدع نفسه بصورةٍ عامة وشاملة، فهي في الماضي (والحاضر) أمر لا وجود له البتّة. إذ كيف يمكن أن يخلو فِكرٌ مبدع أو إنتاجه من آثار الآخرين؛ إنّ مبدعاً كهذا، إذا وُجِد، سيكون بدْعاً في التّاريخ كلّه. قد يقول بعضهم هنا: ما لنا وللمبدع؟ إنّ ما يهمنا هو النص فقط، خاصةً وأنّنا في بعض الحالات لا نَعرِف عن المبدع شيئاً ذا بال، وفي حالات أخرى لا نَعرِف إلاّ القليل عن مدى ارتباط إنتاجه الأدبي بحياته الشّخصية وتجاربه. وهناك حالات عديدة جداً تكون فيها معلوماتنا ضرباً من الاختلاق والتّأليف.
ومع ذلك فنحن نقول لهؤلاء ولغيرهم، إنّه من غير المقبول أنْ ننكر وجود المبدع أو نعلن موته نهائياً، لأنّ ارتباط النّص به لا يمكن أن يكون مقطوعاً قطعاً باتّاً. هناك دائماً خيط ما يصل بين المبدع والتّجربة المعبَّر عنها، بل إنّ هناك دائماً خيطاً ما، وإنْ يكُن خفياً، بين المبدع والمعنى الذي يؤديه، خيطاً ما يرتبط بالرؤية والرؤيا والمعجم والتركيبب والإيقاع والمبنى، كلّها أو بعضها، فيَشي بالمبدع ويدلّ عليه دلالة متعدّدة الوجوه، يَعرَفها الباحث المتعمّق والدّارس الخبير.

ونقول بعد هذا بكل وضوحٍ وتأكيد، إنّه ليس سهلاً أن نبحث أصالة أيّ مبدعٍ بصورةٍ شاملة ودقيقة، فهي تحتاج إلى جهودٍ جماعيّة متواصلة. ولكن هذا يجب أنْ لا يعفينا من البحث إذا كان ذلك ضرورياً، شرط أنْ لا تُعتَبَر النّتائج نهائيّة مهما كانت، فالنّتائج النّهائية أمر لا يُتاح أبداً.

أمّا البحث عن أصالة النّص فهو أقرب بكثير، ولكنّه هو أيضاً ليس عملاً سهلاً، فنحن في كثير من الحالات نبحث عن إبرةٍ في بيادر ضخمة من القش، بل البحث عن الأصالة أصعب من ذلك، لأنّ البحث عن الإبرة يمكن أن يؤدي إلى نتيجةٍ نهائيّة، بينما البحث عن الأصالة لا يمكن أنْ يؤدي إلى مثل تلك النّتيجة، ومع ذلك فهو بحث مطروح أمام الباحثين والقرّاء، وملاحظاتُهم المستمرة كفيلة بالكشف المستمر، ولكنّه محكوم سلفاً بأنّه لا يمكن أنْ يكون نهائياً.

ويسأل بعضهم: لِمَ كلّ ذلك؟ ما الفرق بالنسبة لنا أنْ يكون هذا النّص من إنتاج هذا المبدع أو ذاك؟ ونجيب بأنّه بحث عن الهوية والفردية، بحث عن التميُّز، عن الحقيقة، عن الصِّدق الحياتي، عن الرّبط بين النّص والعصر، بين النّص والظروف الاجتماعية والنّفسية وما إليهما، عن العلاقة بين الموهبة الذّاتية والتراث؛ أليس ذلك مهماً وأساسياً؟ أيمكن أنْ نقبل الأشياء مشاعاً؟ أن تختلط الأوراق وتعمّ الفوضى؟
للتوسّع في مجال العلاقة بين الأصالة والسّرقات في البلاغة العربية، سنضع السّرقات وما يتصل بها في خمس خانات وصفيّة وتقييمية، ونبيّن الأصالة في كلٍ منها، كخطوة أولى، مؤكّدين منذ البداية أنّ الأصالة لا يمكن أنْ تكون قول ما سَبق قوله تماماً، وأنّ هناك ابتكاراً في هذا الجديد القديم، في هذا القول الذي سَبق قوله بصورةٍ من الصّور القريبة أو البعيدة، ابتكاراً قابلاً للاكتشاف والتّحديد، ولو جزئياً، إذ إنّه ليس سرّاً مقدّساً، فليس في الأدب أسرار مقدّسة.

تضمّ كلّ خانةٍ عدداً من الأنواع البلاغيّة والمصطلحات المعتمدة التي تُستعمل للدلالة عليها، هذه الخانات هي:

1- خانة الانتحال وما يجري مجراه. وفيها تتمّ سرقة اللفظ والمعنى معاً، من مبدعٍ سابقٍ أو معاصِرٍ، بصورةٍ كاملة أو شبه كاملة.
هذه الخانة تنتفي عنها لأصالة أو تكاد، إذ إنّ المبدع فيها مجرّد من أي ابتكار شخصي، أو على الأقل من أيّ ابتكار شخصي يُذكَر.
وقد نَظَرَ البلاغيّون والدّارسون القُدماء إلى الأنواع الأساسيّة الواردة في هذه الخانة نظرةً سلبيّة، واعتبروها غير مشروعة، (ونَهَجَ نهجهم معظم البلاغيّين والدّارسين المعاصرين).
ولا يُخفى أنّ للسّارق دوافعه الخاصّة وتبريراته المنمّقة، ولكنّها لا تَشفع له.

إنّ مراجعة ما قاله القُدماء عن السّرقة الواردة في هذه الخانة، يَفرض على الدّارس والقارئ، الاطلاع على المصطلحات المعتمدة التّالية، وهي: الإغارة - الغصب - الانتحال - الاصطراف - الاهتدام - المصالتة - النّسخ - الالتقاط والتلفيق. وقد اعتُبِر مدلول كلّ منها نوعاً بلاغيّاً مستقلاً.

ويمكن في رأيي أن تُلحَق "المرادفة" بهذه الخانة، لأنّها ملائمة لها تماماً، وإنْ نَظَرَ إليها القدماء نظرةً غير سلبية واعتَبروها مشروعةً.
كما يمكن أنْ يُلحَق بها أيضاً: "الاجتلاب" – "الاستعانة" – "التأسيس" – "التوطيد"، بالرّغم من أنّها اعتُبِرَت مشروعةً لخلوّها من نيّة التملّك. وإيرادها في هذه الخانة نابع من كونها خاليةً تماماً من الابتكار الشّخصي.

وهذه الخانة هي أفضل خانة أيضاً لنوعين آخرين مختلفين عن الأنواع السّابقة، وهُما: "التوارد" - "وقوع الحافر على الحافر"، وذلك لأنّهما يقومان على تطابقٍ تام بين النّص اللاحق والنّص السّابق، معنى ولفظاً، ولأنّه لا يمكن أن يكون صحيحاً ما يدّعيه أصحابهما من أنّهم لم يَسمعوا النّص السّابق من قَبْل. ومهما يكُن من أمرٍ فهُما في رأيي انتحال بثوبٍ آخر أو بتسميةٍ أخرى.
وينبغي التّنبيه هنا إلى أنّ هذين النّوعين يختلفان اختلافاً جوهرياً عمّا يقصده الباحثون اليوم حين يستعملون مصطلح "توارد خواطر"؛ فهُم يقصدون تشابهاً في نصّين أو أكثر، ناتجاً عن تماثل في الظّروف البيئية والنّفسية والثقافيّة، شرط أنْ لا يكون في هذا التوارد أيّ تطابقٍ في اللفظ، إلاّ ما تَقبَله المصادفة.

وهكذا نرى أن خمسة عشر مصطلحاً من المصطلحات المعتمدة في باب السّرقات وما يتّصل بها، تدخل ضمن هذه الخانة التي تخلو من الأصالة أو تكاد. وهذا العدد يُشكّل حسابياً، نسبةً تزيد عن رُبع المصطلحات المعتمدة في هذا الباب (وهي سبعة وخمسون مصطلحاً).

2- خانة التقليد الرّديء. وفيها تتمّ الاستفادة من نصٍّ سابقٍ أو معاصرٍ، من ناحية المعنى أو المبنى، مع قليلٍ من اللفظ أو بدونه، ولكن اللاحق / السّارق يُقصّر عن سابقه، فيظهر كمقلدٍ رديء، ويفضح نفسه في أيّ مقارنةٍ موضوعيّة جادة. ويمكن أنْ يكون النّص السّابق رديئاً، فيأتي تقليده رديئاً مثله.

الأصالة هنا موجودة، باعتراف البلاغيّين والدّارسين واتفاقهم، ولكنّها في درجةٍ متدنّية من ناحية القيمة.

أمّا المصطلحات التي ينبغي على الدّارس أو القارئ مراجعتها في هذه الخانة فهي ستّة: قبح الأخذ - رجحان السّابق على المسبوق - سوء الاتباع - التّقصير - التثقيل.
وتضاف إلى هذه المصطلحات المعتمدة صورتان من صور "النّقل"، هُما: نقل المعنى من الجزل إلى الرّذل، ونقل المعنى من القصير إلى الطّويل.

3- خانة التقليد المتوسّط. وفيها يتساوى اللاحق مع السّابق أو يكون قريباً منه جداً. وفي غالب الحالات لا يُذكَر التقييم في كُتُب البلاغة عند الحديث عن المصطلحات الدّاخلة في هذه الخانة، مما يعني أنّهم كانوا يقصدون الوصف لا التقييم.

أمّا المصطلحات المعتمدة الدّاخلة في هذه الخانة فهي ثلاثة عشر مصطلحاً: عكس المعنى (وقد وُصِفَ بأنّه من ألطف أنواع السّرقات)- الهدم - الإلمام - النّظر والملاحظة - السّلخ - التداول والتناول - النّقل (بمعناه العام، وكذلك في صورته الأولى: نقل المعنى من غرضٍ إلى غرضٍ آخر) - الاختلاس - الكشف - الحذو - الموازنة - التأثُّر.
ويمكن أن يُضاف إلى هذه المصطلحات مصطلح "السّرقة"، لأنّه يُستعمل غالباً بهدف الوصف لا التقييم.

4- خانة التقليد المتفوّق أو النّاجح. وفيما تتمّ الاستفادة من نصٍّ سابقٍ أو معاصرٍ، من ناحية المعنى، مع قليلٍ من اللفظ أحياناً أو بدونه غالباً، ويكون اللاحق ناجحاً في تقليده بحيث يتفوّق على سابقه.
وقد نَظَرَ القدماء إلى هذه الخانة نظرة إيجابيّة، وقالوا إنّ اللاحق في هذه الخانة أوْلى بالمعنى من صاحبه السّابق.
التعايش هنا بين الأصالة والسّرقات واضح جداً، وهو تعايش يدلّ دلالةً واضحة على أنّ مفهوم الأصالة غير مرتبط عندهم بابتكار المعنى ولا بخُلو النّص من آثار الآخرين، وإنّما هو مرتبط بجودة الأداء، مع إضافةٍ ما إلى المعنى أو بدونها. وغالباً ما تعني جودة الأداء: حُسن اختيار اللفظ وحُسن اختيار السَّبك أو اتّباع معايير لغويّة مذكورة في كُتُبِ البلاغة والنّقد وما إليها ومعروفة سلفاً، مع استعمال بلاغي معتدل ومناسب . ولا يخلو الأمر عند البلاغيّين والدّارسين القدماء أحياناً من ضربة حظ ينالها اللاحق دون السّابق، مما يعني في رأيي أنّ سبب التفوّق في هذه الحالة غير واضحٍ لهُم.

أمّا المصطلحات المعتمدة الدّاخلة في هذه الخانة فهي أربعة: رجحان المسبوق على السّابق (المجدود) - حُسن الاتّباع - التخفيف - التوليد.

وتُضاف إليها ثلاث صور من النّقل، هي: نقل المعنى من الجزل إلى الأجزل - نقل المعنى من الرّذل إلى الجزل - نقل المعنى من الطّويل إلى القصير.
ويُلاحَظ أنّ عدد المصطلحات هنا أقل منه في أيّ خانة أخرى، مما يدل على صعوبة هذا النوع الذي يجمع التقليد والأصالة معاً.

5- خانة التّحاور بين النّصوص. وفيها تتمّ الاستفادة من نصٍّ سابقٍ أو معاصرٍ، بطريقةٍ مشروعة، حيث يُؤخذ النّص السّابق، كلّه أو بعضه، ويُدرَج في إطار النّص اللاحق، دون أيّ نيّةٍ لتمَلُّكِهِ أو لتجاهل صاحبه.

ويكون الهدف في معظم الأحيان دعم النّص اللاحق معنويّاً أو مساعدته في التّعبير عمّا يريد بأفضل كلمات وأفضل نسق.

أمّا المصطلحات المعتمدة الدّاخلة في هذه الخانة، فهي أربعة عشر مصطلحاً: التّضمين – الإيداع - الرّفو – التفضيل - التشهير - الاستشهاد - الاقتباس - العقد - الحل - التلميح - العنوان - الانتكاث - المعارضة – المناقضة.

ويلاحَظ أنّ الكثير من أنواع التّحاور ما زالت مستعملة حتّى اليوم. وهي تدخُل ضِمن مصطلح شامل يضمّها ويضم غيرها هو: التناصّ.

أمّا التعايش في هذه الخانة فهو قائم بين الأصالة والتّحاور، لا بين الأصالة والتقليد. وهو تعايش مقبول ومُتّفق عليه عند القدماء (وما زال كذلك عند الدّارسين اليوم). ويكون التقييم النّهائي هنا عادةً، بالنّظر إلى كلّ نصٍّ على حدة، بالرغم من وجود شروط عامة في بعض الأنواع، كالاقتباس والحل والعقد.

ويمكن أنْ تَلحَق بهذه الخانة أربعة مصطلحات أخرى، هي: الإجازة - الإنفاد - المماتنة - التّمليط.

وفيها يُضاف نصّ إلى نصٍّ آخر معاصر في سياق مساجلةٍ ما، بين شاعرَين أو أكثر.

ويكون الهدف من المساجلة، تدريب القريحة، أو إجراء مباراة مع طرفٍ آخر لم يثبت نفسه بعد على الأقل بالنسبة للمختَبِر.
إنّ عدد المصطلحات المعتمدة الواردة في هذه الخانة وما يَلحَق بها أكبر من عددها في أيّ خانةٍ أخرى، وهذا يدلّ على أنّ الشعراء رأوا فيها مجالاً واسعاً ومناسباً لهُم، إذ يجمعون فيه بين أيّ نصّ لهم وأي نصّ آخر، دون أن يتجاوزوا ما هو مشروع ومقبول، ودون أن يُعَرّضوا أصالتهم لأيّ نوعٍ من الشّك.

ويجدر بالذّكر أنّ أربعة مصطلحات أخرى، هي: الاجتلاب والاستعانة والتأسيس والتوطيد، كان يمكن أن تَرِد في هذه الخانة، لانعدام أيّ نيّةٍ للتملُّك أو لتجاهل الآخر فيها، ولكنّها وَرَدَت في الخانة الأولى لخلوّها من الابتكار الشخصي كما ذَكَرت سابقاً .
* * * * * *

بالإضافة إلى هذه الأنواع والمصطلحات، فإنّ هناك نوعاً من التشابه يقع بين نصّ من أدبٍ ما ونصّ من أدبٍ آخر. والسّؤال اليوم ما إذا كان هذا النوع مما يتّصل بالسّرقات، وبالتالي ما إذا كان داخلاً في إحدى هذه الخانات الخمس، أم أنّه يُشكّل لوحده خانةً خاصة، في رأي الباحثين المعاصرين.

إنّ الإجابة عن هذا السّؤال تقع أولاً ضمن مسؤولية الباحثين في الأدب المقارَن. وقد تناول هؤلاء الباحثون السّؤال المطروح وأجابوا عنه بالتفصيل. من ذلك ما قاله الباحث مناف منصور:" لا يعني البحث المقارَن بأيّ شيءٍ، من بحث السّرقات، إذ يبدأ الأدب المقارَن حيث تنتهي لعبة البحث عن السّرقات والاقتباسات والتقليد.فعِلْم السّرقات عند العرب قام داخل الأدب الواحد، ثمّ صرَف عنايته كلّها على تحرّي المعاني والألفاظ، بينما يسعى الأدب المقارَن إلى استخراج المواقف الفنيّة أو الحضاريّة الجديدة من خلال تحوّل الرؤى، أو من خلال تحوّلات دخلت على جماليات لغة، نتيجة تفاعلها مع لغةٍ أخرى أو مع حضارة أخرى. وعليه ليس للسّرقة أيّ موضعٍ في الأدب المقارَن..."

ومع ذلك فقد تحدّث عن هذا التشابه عدد من الدّارسين غير المختصّين بالأدب المقارَن، واعتبروه ضرباً من التّأثّر؛ والتّأثّر عند الدّارسين نوع من أنواع السرقة. الأمر إذن يتعلّق بالزاوية التي ينظر منها الدّارس وبالغاية التي يسعى إليها.

أمّا نحن فسنختار هنا ما اختاره القدماء والدّارسون غير المختصّين بالأدب المقارَن، ونُدخِل هذا التشابه في دائرة السّرقات، ونترك للدّارسين المختصّين أن يضيفوا بعد ذلك ما يهمهم من مقارنات واستنتاجات.

حين نعود الآن إلى الخانات الخمس المذكورة أعلاه، لا بُدّ لنا أنْ نتوقّف مليّاً عند تلك الملاحظات والأحكام التقييمية التي أورَدَها البلاغيّون والدّارسون، ضِمنَ موضوع السّرقات، وعند تلك الأصول والقواعد التي استندوا إليها في ملاحظاتهم وأحكامهم، فهي تدل دلالةً واضحةً على وجود ذوق مدرّب ومُعلّل عند عدد غير قليل من أولئك البلاغيّين والدّارسين، وعلى وجود عُرفٍ عام مقبول عليهم وعلى غيرهم من المتّصلين بالحياة الثقافيّة.

ومع أهمية ما أوردوه فإنّ أصولهم وقواعدهم لم تَرِدْ مجموعةً بصورةٍ مستقلّةٍ في مصدر من المصادر، لا قديماً ولا حديثاً، فظلّت إمّا متناثرة هنا وهناك في كُتُبِ الموازنات والمفاضلات والوساطة والبلاغة والنّقد عند القدماء، وإمّا متداخلة مع الأصول والقواعد العامة للنّقد الأدبي عند المعاصرين.

في ما يلي سأسجّل أهم ما استخلصتُ من تلك الأصول والقواعد، معتمداً على المراجع القديمة والحديثة ، لتكون بين أيدي الدّارسين والقرّاء عند تناولهم لهذا الموضوع. وهي قابلة لتعديل الترتيب وللزيادة والنّقصان.

والفصل بين الأصول والقواعد فصلاً قاطعاً أمر ليس سهلاً، ويظلُّ في كلّ الحالات قابلاً للنقاش وإعادة النّظر. ولا أعرِف من قام به فعلاً، وأغلب الظن أنّ ما يقصده الدّارسون بالأصول هو الأسس العامة، أمّا ما يقصدونه بالقواعد فهو الضّوابط الكلّية للجزيئات .

تتناول هذه الأصول والقواعد، بالإضافة إلى ما يتعلّق بالسّرقة عامةً، كلّ عناصر النّص: المعنى واللفظ والبديع والوزن والتركيب والائتلاف والتناسب. وسأوردها في ما يلي بالتّرتيب المذكور، متجنّباً أيّ فصلٍ بين الأصول والقواعد.

أ‌- ما يتعلّق بالسّرقة عامةً:

1- اتفاق القائلين في الغرض لا يُعدّ سرقة.

2- إذا كان وجه الدلالة مما يشترك فيه النّاس لم يُعتَبَر سرقة. وكذلك لا يُعتَبَر سرقةً ما كان مستفيضاً في الاستعمال من المعاني، أو متداولاً ومتناقلاً بصورةِ واسعةٍ
.
3- إخفاء السّرقة أمر ضروري للنّجاح والتفوّق.

ب‌- ما يتعلّق بالمعنى:

1- أخْذ المعنى بدون اللفظ مقبول عند الغالبية من القدماء، خاصةً عند أولئك الذين يؤمنون بأنّ المعاني مطروحةً في الطّريق يعرِفها العربي والأعجمي، أو بأنّها مشاع بين العقلاء أو بين الخاصّة على الأقل، وأولئك الذين يرون أنّ الأوّل لم يترك للآخر شيئاً

2- إخراج المعنى في صورةٍ غير التي كان عليها، يدعم التفوّق.

3- إضافة معنى إلى المعنى السّابق / المسروق، عن طريق التوليد أو غيره، أمر مستحَبّ، شرط أن يكون المعنى المضاف صحيحاً وخاصّاً، أي غير مبتذل وغير مألوف وغير مسروق
.

4- يجب ألاّ يَدخُل على المعنى ما يُفسده، لا من ناحية الفكرة ولا من ناحية الصّياغة.

5- على اللاحق / السّارق أن يُبيّن المعنى إنْ كان غامضاً، وأنْ يكشفه إنْ كان فيه خفاء، وأنْ يَزيده وضوحاً إذا كان محتاجاً إلى ذلك.

6- على اللاحق / السّارق تتميم المعنى إذا وُجِدَ فيه أيّ نقصٍ، أو تكميله إذا احتاج إلى تكميل.

7- على اللاحق / السّارق ألاّ يُقصّر عن سابقه بأنْ يُنقِص من المعنى ما هو من تمامه.

ج- ما يتعلّق باللفظ:

1- أخْذ اللفظ كلّه أو بعضه، بأيّ صورةٍ من الصّور، غير مستحب. ولذا فإنه لا يمكن أن يقود اللاحق إلى النّجاح أو التفوّق.

2- الاهتمام بتحسين الأداء، شرط أساسي من شروط التفوّق. وقد انعكس ذلك في البحث المستمر عند اللاحق عن اللفظ الأفضل والصّياغة الفضلى قبل أيّ شيءٍ آخر.

3- من المفروض اختيار اللفظ المناسب لأداء المعنى المسروق؛ ويُقصَد به اللفظ الذي يقتضيه المعنى أوّلاً، والذي يُراعي شروط الفصاحة ثانياً، ويأتلف مع سائر العناصر ثالثاً

4- يُراعي اللاحق أن يكون ما يورده أقصر لفظاً من سابقه، أيّ أنْ يَختصر ما يأخذه إذا كان طويلاً.

5- للجزالة موضعها وللسهولة موضعها، ولا تُرفض أيّ منهما بشكلٍ عام.

6- يجب الابتعاد عن الكلام السّوقيّ من جهة، وعن الغريب الوحشي من جهةٍ أخرى.

7- يُراعي اللاحق ألاّ تكون ألفاظه أثقل من ألفاظ سابقه.

8- من المفضّل أن يورِد اللاحق ما يأخذه بألفاظٍ أكثر خفّةً من ألفاظ سابقه.

د- ما يتعلّق بالبديع:

1- يُراعي اللاحق استعمال البديع باعتدال، شرط أن يكون ملائماً للمعنى.

2- كلّ إضافةٍ بديعية أو بيانيّة موفّقة تُعتبر أمراً إيجابيّاً.

3- لا يُعتَبَر الإكثار من البديع فضيلة بحدّ ذاته.

هـ- ما يتعلّق بالوزن:

1- يُراعي اللاحق اختيار الوزن المناسب الرّشيق.

2- الوزن القصير مُفضّل في حالاتٍ عديدةٍ.

و- ما يتعلّق بالتركيب:

1- يُراعي اللاحق اختيار التركيب المناسب الخالي من التعقيد والتّنافُر، لأداء المعنى المسروق.

2- يجب على اللاحق ألاّ يتّبع سابقه في طريقة نَظمه أو في بُنية كلامه بصورة مكشوفة.

3- يًراعي اللاحق أنْ يرتّب ما يأخذه ترتيباً حسناً: من الأعلى إلى الأسفل، أو العكس؛ فإنّ ما يرِد مرتّباً أفضل من غير المرتّب.

ز- ما يتعلّق بالائتلاف والتناسُب:

1- يُراعي اللاحق في أداء المعنى المسروق أنْ تكون عناصر النّص جميعها مؤتلفة في ما بينها.

2- يُراعي اللاحق أن يكون كلّ عنصرٍ من عناصر النّص متناسباً تناسباً داخلياً، أيّ متناسباً في ذاته.

***

إنّ حديث القدماء عن السّرقات كان محصوراً كلّه في سرقة المعنى أو اللفظ أو الصياغة أو ما إليها، في نصٍّ جزئي (أيّ في بيتٍ أو أبيات من الشّعر، وفي فقرةٍ أو فقراتٍ من النّثر)، ولم يتطرّق إلاّ نادراً إلى نصٍّ كاملٍ (أيّ عملٍ أدبيٍّ متكاملٍ).

وقد اعتُبر هذا الأمر في نَظَر الدّارسين اليوم نقصاً كبيراً، وحاول الكثيرون منهم أنْ يتداركوه بكتاباتهم، سواء عن الأدب القديم أو الحديث.

ومن المؤكّد أنّ ما يقوم به الدّارسون في هذا المجال، يستحق متابعات مستمرة، تعمل على جمعه وتصنيفه، ودراسة ما يَرِدُ فيه من آراءٍ وأحكامٍ، وما يستند إليه من أصولٍ وقواعدٍ.

ولا شكّ أنّ الباحثين في مجالات البلاغة والنّقد والأدب المقارَن، سيفيدون كلّهم فائدةً كبرى من هذه المتابعات، ومن النتائج التي يمكن أن تصل إليها.

خاص بمكتب الحقائق / فلسطين

بقلم : د.فهد أبو خضرة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى