الخميس ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
أنا أيضاً لا أمنع فمي
بقلم يسري عبد الله

بين كلاسية الشكل وحداثة الرؤية

(أنا أيضاً لا أمنع فمي) ديوان شعري يداعب الذائقة العربية في تجليها الكلاسي، محتفياً في ذلك بالعناصر الايقاعية والموسيقية التي تطبع هذا النسق من القصيد العربي ، ومستعيناً بتقنيات البلاغة العربية القديمة، ساعياً لتثوير هذه البنية التراثية الكلاسية عبر الولوج في الراهن المحتدم:

فاترك رغيف الزيت
دع للآخرين تملقه
لا ترم في عفن المزاد .. سيوفك المتألقة
الزيت لحم الهاربين..
دماهُمُ المتدفقة
والسيف..
عظم الفاتحين..
على الخيول المرهقة.

بدءاً من عنوان الديوان يبدو فعل (الأنا) بارزاً مذ الوهلة الأولى، ومعلناً في الآن نفسه عن طرف ثان (الآخر)، بحيث ينهض الأنا في مواجهته، لا من أجل إقصائه أونفيه، بل من أجل إقامة تفاعل "ندي ثقافي" مع هذا الآخر المتشح -قديماً- بزي (ألفونسو)، و-حديثاً- بزي السيد الأمريكي الجديد:

يا "ابن عباد".. أصدقائي القدامى
أقسموا لي فغَلظُوا الأيمانا
وعدوني.. إذا خَرجْت إليهم
أن يكونوا الحسام لي والسنانا
أخرجوني من بيت جدي وحيداً
لبيوت.. لا تذكر الإحسانا
تركوني.. على الثرى تركوني
وتولوا.. ليقبضوا الأثمانا
قُرب نهر "الفرات".. عاد خرير الموت
يسقي "المحاصر" الصديانا
وأنا.. خافقي تناوشه بعضُ
رفاقي.. فمزقوا الشريانا.

تتصدر الديوان بدايات نصية تراثية، تتجلى في المفتتح القرآني الذي يبتدئ به: "والشعراء يتبعهم الغاوون"، متناصاً من خلاله مع الموروث الديني من جهة، ومعلناً انحيازه للشعر من جهة ثانية، ثم يتلوﺫلك مقطع شعري من قصيدة (ﺫوالرمّة)، وبذا يصر الشاعر على إقامة وشيجة مع التراث الشعري السابق ليبرز تساؤل مهم في ظني- هل سيستطيع النص الذي يقدمه الشاعر الإفلات من أسر الموروث السابق ووطأته؟ أوبعبارة أدق: هل سيراكم الديوان منجزه الخاص أم سيأتي محمولاً على سابقيه الأشد وثوقاً به والذي يعلن من البداية انحيازه لهم عبر تبنيه للنسق الكلاسي من القصيد العربي القديم؟ وأظن أن محاولة الإجابة عن هذا التساؤل المحوري ستصبح أكثر موضوعية عبر محاولة الولوج في جوهر النصوص الشعرية الحاضرة في هذا الديوان.

عبر جدلية العلاقة بين (الأنا) و(الآخر) تتشكل شعرية ديوان (أنا أيضاً لا أمنع فمي) للشاعر (سيد يوسف) ، حيث تستخدم (الأنا) بوصفها دالاً سيميولوجياً يرمز إلى تحقق فعل (الهوية) الهاجس الرئيسي في الديوان، هذه الهوية التي تتفرع لتشتمل على تنويعات متعددة، ولعل قصيدته المركزية (تروبادور) تحيلنا إلى ذلك:

شامخٌ.. والرياح أحنت خُطانا
صامدٌ.. والخضوعُ هد قوانا
راحِل.. تستجير منه الصحاري
كُلما أعتق الزفير دُخانا
بَدويُ الهوى.. رقيق السجايا
ملكٌ.. ليس يلبس التيجانا
حاكم للقفار.. يخطر فيها
خازناً تحت جلده الصولجانا
بربريٌ.. مهجنُ.. غافقيٌ
أمويٌ.. وليس من مَروانا.

ثمة استراتيچية تكتنف النص الشعري (أنا أيضاً لا أفتح فمي)، حيث يقسمه الشاعر تقسيماً منطقياً له مسوغاته الفنية والتقنية، ومن ثم يأتي موزعاً إلى خمسة أقسام: (عنهم/ ولا عنكم/ ولا عنها/ ولا عني/ ولا عنه)، يختص كل قسم من هذه الأقسام بتجارب شعرية بالغة الرهافة تتخذ جانب المقاومة في شقها الأول ، وجانب البوح في الأقسام الباقية.

يضع (سيد يوسف) بين يدي ديوانه مقطوعة شعرية تشبه (المانيفيستو) الذي يريد طرحه والالتزام به منذ البداية ، رافضاً كل معاني الخضوع والمهادنة والتذرع بالرضا الأحمق والاستكانة العمياء، وبما يستلزم قدراً من المواجهة تومئ إليه (لام التعليل) التي تتصدر هذه المقطوعة الشعرية (لأنه...) ، عندئذ تصبح الكلمة سبيلاً للمواجهة في ظل راهن معاكس ومحتدم:

لأنه
مكتوب على باب مدينتنا
ترجل.. وخلّ سبيل الجواد..
فليس الزمان زمان جهاد
دع السيف والرمح..
وادخل وحيداً..
وخذ مقعداً مثل باقي العباد
وكن كالجميع..
سميعاً..
مطيعاً..
وكن كالجميع.. بغير اعتقاد
وقبل يديك..
وقل:
ألف حمدٍ وشكر.. لمن يملكون البلاد.

ويمثل هذا المقطع الشعري ما يسمى بالتقديمة الدرامية للنص والتي تشي بأجواء القصائد وتشير إلى مدلولاتها بعد ذلك، وهذا ما يتحقق في القسم الأول –تحديداً- (عنهم)، هذا القسم الذي يسوقه الشاعر تخليداً للدم العربي فنرى قصائد مهداة لوفاء إدريس، ونرى قصيدة "الرقص مع القنابل"، والتي تمجد خيار المقاومة، وكذا قصيدة (يُفَكّر) التي تقبض على لحظة إنسانية شديدة العمق.

في قصيدته الأولى (المرعبون) يمثل العنوان بنية دالة تختزل مكنونات النص وتعبر عنه ولا تبدوعبرها السمات الاسلوبية المميزة للشاعر فحسب، ولكن لنسق القصيد الذي يكتب في إطاره أيضاً، حيث تصبح الصدارة لتقنيات البلاغة العربية القديمة كالتقديم والتأخير مثلاً:

مرخىً زمامك.. واصلي الرقصا
طوبى.. لمن برباطك استوصى

لنصبح أمام استهلال نصي بديع مسكون بماء البلاغة العربية.

ثمة خصيصة أسلوبية تبدوبارزة في هذه القصيدة وتتكرر طيلة الديوان وأعني بها (البيت/الحكمة)، أوذلك البيت الدال بنفسه، والذي عادة ما يختم به الشاعر قصيدته:

أَعليِ بنَاءَك... إن هوى حجرٌ
ألف سواه ستكمل النقصا

ويحدث هذا في القصيدة التالية: (لا يا معشر الأطفال لا تهنوا) والمهداة لوفاء إدريس: إذ ينهيها بقوله:

لن يشرق النصرُ حتى نَكسِرَ البابا

والاختزال هنا يكشف عن أمرين: ما يسمى بالبنية العميقة للنص، والتجربة الشعورية والانسانية التي يصدر عبرها الشاعر.

في (تانجو) يبني الشاعر نصه على تقنية المفارقة مستعيناً بآليات البلاغة االعربية (التورية). ففي قراءة أولى يتوهم البعض أننا بإزاء حديث عن (المحبوبة) لنكتشف أنها القنبلة لتحدث موازاة رمزية بين (راقص التانجو) و(حامل القنبلة) ، وبما يشير إلى تنامي نغمة المقاومة في القسم الأول من الديوان مع لوضع في الاعتبارأن الشعر هنا تشكيل جمالي للغة قبل أن يكون أداة لنشكيل وعي المتلقي.

تصل نغمة المقاومة إلى مداها في قصيدة (يُفَكّر) والتي ترصد نزوعاً انسانياً بالغ الدهشة يتمثل في مشاعر الفدائي الذاهب إلى حتفه في مواجهة الأعداء، وهذه اللحظة تحديداً (لحظة روائية ) غير أن (سيد يوسف) يحيلها إلى لحظة شعرية رهيفة، وهذا هوالشئ الذي يجب الوقوف أمامه وأظن أن الشاعر استطاع القبض على هذه اللحظة وترويضها شعرياً.

في القسم الثاني (ولا عنكم) تبرز قصيدة (الحكواتي)،والتي تحمل مداً إنسانياً بالغ السموق، يستشعر المتلقي بإزائه نوعاً من أنواع "الصدق الفني"، وتظل العبارة الشعرية (معي ضحكتان) بمثابة الجملة الصيغة في القصيدة والمتحولة في النهاية إلى:

معي دمعتان.. وصبر جميل
وشئ من الضوء.. قيل انطفا.

في القسم الثالث (ولا عنها) لم يكن التمهيد الموضوع على درجة عالية من الكثافة التي اتسمت بها تصديرات الشاعر السابقة وأرى أن حذفه لن يضر بشئ، ويبرز في هذا القسم حس رومانتيكي مشوب بالفقد، مستدعياً صوراً شعرية مسكونة بأجواء كابية:

على وجعين..
تدنومنك روحي
وفي وجعين.. يرسوبي جنوحي
على وجعين.. في وجعين..
مدي يديك..
تنام بينهما جروحي.
ثم يُنهي قصيدته بقوله:
فقط..
مُدي يداً ليد..
أقيمي فُروض القرب من أطلال روحي

.

يصدر الشاعر القسم الرابع (ولا عني) بعبارة دالة: (في جولة اليأس يرتاح الملاكم في حضن الملاكم أوفي جانب السور), وفيها نلمح بعدا فلسفيا يمهد لقصيدتي (اجترار) و(تروبادور)، وهما يحملان في ظني رؤية واحدة، غير أن (تروبادور) تمثل (التفصيل) الذي يعقب (الإجمال/اجترار).

تعد قصيدة (تروبادور- موشح في رعي الجمال) بمثابة (القصيدة المركزية لهذا الديوان، حيث تبدوفيها الملامح الشعرية لكتابة تداعب الذائقة العربية في احتفائها بالإيقاع من جهة، والانفتاح النصي على التاريخ من جهة ثانية، حيث ثمة مقابلة بين عالمين متعارضين (الشرق/ الغرب) يتسم كلاهما بميراث مغاير عن الآخر، غير أن إمكانية اللقيا تظل قائمة شريطة حدوث ندية حقيقية، وألا يتعاطى (الآخر/الغرب) مع (الأنا/الشرق) بوصفه مادة للبحث أومكاناً قابلاً للغزو:

شارل مارتل.. وللفرنجة كرٌ
وبواتييه لمحةٌ من أسانا
قل لألفونس.. والقلاع تهاوى
بين أحجارها.. يرف صدانا
: هذه الأرضُ.. نفحة من هدانا
ومهاةٌ شريدةٌ.. من مهانا
هذه الأرض.. جنة.. نتراءى
في براري أعشابها.. زعفرانا
هذه الأرض.. طفلةٌ- يا عزيزي-
من بلادي.. تضاجع الإسبانا.

وبعد.. لم يقبع ديوان (أنا أيضاً لا أمنع فمي) في فضاء الموروث الشعري السابق بل مثل خروجاً على المسار المألوف لهذا القصيد، فبدا (رؤيوياً) متجاوزاً لأفق القصيدة الكلاسية المتوارثة، عبر تثوير الأبنية القديمة والتعاطي معها بوصفها شكولاً قابلة لمعانقة آفاق شعرية أكثر حداثة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى