الجمعة ٢٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
رواية ( دق الطبول )
بقلم يسري عبد الله

بين منحى الاغتراب وأقنعة النفط

يعد القبض على ( الإنسانى ) مدخلاً بالغ الحيوية للتدشين لكتابة مغايرة ، تستقى تقاليدها الفكرية والجمالية من قدرتها الفائقة على مجاوزة الواقع المحلى للنص ، متكئة فى ذلك على مداعبة الحس الإنسانى، ورصد النوازع البشرية المختلفة ، وفى روايته الجديدة ( دق الطبول ) يرصد ( محمد البساطى ) هماً إنسانياً بالغ القسوة ، يتجلى فى منحى ( الاغتراب ) المطروح داخل النص ، والذى يصبح بمثابة البنية المهيمنة Dominant Structure والمشكلة لمركز الثقل فى الرواية ، وعلى الرغم من أن هذا المنحى الكتابى يبدو شائعاً فى أدبيات الكتابة الروائية ، بيد أنه يأخذ بعداً خاصاً فى ( دق الطبول )، حيث يتجاوز به البساطى الحيز المحلى ( المصرى – العربى )، طارحاً معاناه إلانسان العالمثالثى ( المصريون ، الهنود ، الباكستانيون ، الفلبينيون ) ، كاشفاً عن زيف المجتمعات النفطية ، وقدرتها على سحق البشر – خاصة الوافدين – بداخلها .

تقوم الرواية على هذه الثنائية المتقابلة ( الأصليون – الوافدون )، أو سكان الإمارة فى مقابل المستخدمين ، وقد شكلت هذه الثنائية أساساً لطبيعة العلاقات القائمة داخل النص ، حيث تكرس لآليات التبعية الماثلة عبر علاقة ( السادة – الخدم ) ، والتى يصبح التهميش والانسحاق للوافدين حاضراً رئيسياً فى مشهدها ، ولعل اللافت للنظر فى هذه الرواية هو أن هذا التهميش قد أفضى إلى أمرين : أولهما ذلك الاستلاب الروحى الذى يعيشه شخوص الرواية من الوافدين ، فهم مضطرون لوداع فريق الإمارة الذاهب للمشاركة فى مباريات كأس العالم ، وعليهم فى الآن نفسه إقامة الاحتفالات له ابتهاجاً بعودته – وهى العودة غير المرغوبة لأنها ستحرم الوافدين من حرية العيش داخل الإمارة_ ، ويتجلى هذا الاستلاب الروحى بشكل أكثر بروزاً عبر شخصية ( زاهية ) المرأة المصرية التى تجبرها مخدومتها الخليجية ( أم ياسر ) على النوم مع الزوج الخليجى ، وحينما تنجب ( زاهية ) ينسب الولد إلى المرأة الخليجية ، وتظل هذه الواقعة فارقة فى علاقة ( زاهية) بمن حولها ، حيث تظل قابعة فى إسار هذا الحدث المؤلم ، والذى يحيلها إلى مسخ شائه ، لا تستطيع بإزائه أن تحكى عن نفسها للسائق المصرى الراغب فى مساعدتها دون جدوى ، فقد تمكن هذا الشعور بالاستلاب منها ، وأصبحت لا تجيد الحكى سوى عن ( أم ياسر ) وزوجها الخليجى .

أما الأمر الثانى الذى أفضى إليه هذا التهميش فيتمثل فى ذلك العجز الذى أصاب شخوص الرواية ، والذى يتجاوز هنا شقه المعنوى من حيث القدرة على الاختيار ، والوقوف على حافة الفعل ، ليصبح عجزاً جسدياً ينتاب شخوص الرواية بدءاً من السائق المصرى ، مروراً بالباكستانية وزوجها الذى لا يستطيع مواقعتها رغم خلو القصر من سكانه مدة شهر كامل ، إن ( دق الطبول ) كشف عن مجتمع يتعرض لخصاء جماعى ، لا ينجو منه سوى ( الأفريقى ) الرجل النابض بالحيوية ، والرامز لإمكانية البقاء رغم مرارة الحصار .

إننا بإزاء رواية تسعى – فى رأيى - لتقويض القار من البنى الاجتماعية السائدة ، عبر كشفها لأقنعة النفط ، وقد أتاح السرد بضمير المتكلم أن يمارس الراوى قدراً أكبر من الكشف ، وأضحت ( عين الراوى ) بمثابة عدسة كاميرا تنتقل بحياد بين ( أجزاء / مشاهد ) النص المختلفة ، وقد أسهم فى هذا الأمر – وبشكل بارز – حرفية البساطى فى صنع انتقالات سردية لها قدرة إلادهاش ، حيث تتسم بقد كبير من التنوع ، فعلى سبيل المثال ، بعد انتهاء مشهد مأساه ( زاهية ) ، يعود فريق الإمارة فى المشهد التالي محمولاً على الأعناق رغم فشله فى الصعود لمباريات الدور التالي ، ولأن الوافدين منسحقون ، فهم الذين يحملون فريق الإمارة فوق أعناقهم فى مشهد دال يؤكد المفارقة irony التى يضعها البساطى فى نصه ويوظفها توظيفاً معبراً ، حيث تعمق قدراً أكبر من المرارة داخل المتلقى ، وتلعب هذه المفارقة – فى الآن نفسه – دوراً بالغ الأهمية فى إضفاء قدر من السخرية الممتزجة بالأسى داخل الرواية .

إن البساطى يجيد الوقوف بنصه فى المسافة بين ( الواقع ) و ( الحلم ) ، محتفظاً للنص عبر واقعيته براهنية الطرح واشتباكه مع المعيش ، ومحافظاً عبر خياله المدهش على أدبية العمل الفنى وخصوصيته ، وهو هنا فى ( دق الطبول ) يستخدم لغة مكثفة لها قدرة النفاذ إلى المتلقى ، وبذا فهى تتوازى مع التدفق السردى داخل الرواية ، هذا التدفق الذى منح النص حيوية خاصة ، كما أسهم فى صنع معمار روائى يتسم بالاكتناز .

ويبقى العنوان ( دق الطبول ) طارحاً فضاءات دلالية متعددة ، فهى – بمنحى سيميولوجى – " علامة دالة على الحرب ، أو هى للتهيئة ، إيذاناً بفعل ما ، وقد أشار الخطاب الروائى إلى حادثة روائية داخل النص ، تم فيها النصية على تسمية ( دق الطبول ) ، حيث يسمعها ( الرجل الأفريقى ) حينما يهم بالكشف عن ذكوريته أمام الوافدين ( العاجزين ) .
وبعد .. هل تنذر الرواية بكارثة ما ، وهل يحذر الروائى من خطر ما ، ولم يصبح الأفريقى ) الناجى الوحيد من جحيم العجز ؟ وهل لدق الطبول التى يسمعها تلح على أذنيه علاقة بالمنابع الأولى ، وبما يطرح فكرة الاستمساك بالجذور ؟ وهل الرواية طرح جديد لسؤال الهوية الدائم ، إنها أسئلة كثيرة يبقى النص مشرعاً عليها، مبرزاً أن الفن الحقيقى عليه أن يطرح أسئلة بدلاً من أن يقدم حلولاً وإجابات جاهزة – بحسب إبسن - ، ومؤكداً فى الآن نفسه إمكانية قراءة ( دق الطبول ) عبر شرطها التاريخى والوجودى الآنى ، وليس بمعزل عن السياقات الراهنة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى